لم يجانب مدير شبكة الصحافة الأخلاقية إيدان وايت الصواب عندما قال "إن الصحافة يمكنها أن تعكس أحكام القيمة المنتشرة بالمجتمع"، مما يفرض على العاملين في القطاع الوعيَ بالصور النمطية التي توجد في غرف الأخبار وأثرها، إلا أنه قليلا ما يحمل الصحفيون والناشرون هذا الهم، بل إن "قلة فهمهم لخطر الصور النمطية وتأثيرها على الثقافة الشعبية، تعني بكل بساطة أن الإعلام يزيد الأمور سوءًا".
المرأة والصورة النمطية
وقع لي نقاش مع زميلين من الشرق الأوسط حول تحقيق مشترك أرادا إنجازه عن المغرب، وتحديداً عما اعتبراه شبكات الدعارة التي ترسل بعض بنات البلد إلى قطر عربي آخر. اتخذت موقفاً سلبياً من هذا المشروع وأعربت عن رفضي المطلق له، وكانت حججي تتمحور حول سؤال واحد: بما أن هذا هو التحقيق الأوّل لكما عن المغرب، فلماذا اختيار موضوع الدعارة؟ كان تساؤلي نابعاً من كمّ المواضيع التي كُتبت عن الدعارة في بلد ليس جنة جنسية كما يتخيله البعض، فهذه الظاهرة ليست علامة مسجلة باسم المغرب.
أعترف الآن أن حديثي حينها كان عاطفياً نوعاً ما وفيه انحياز إلى بلدي، لكن قناعتي لم تتغير، فهذا التمثُّل الذي يحمله الكثيرون عن انتشار الدعارة في المغرب، وأن هذا الأخير يمثل "كباريه" المنطقة؛ لم يكن ليأتي لولا التركيز الإعلامي الكبير على هذا الموضوع.
لا أريد هنا أن أناقش موضوع الدعارة، ولا أن أمارس التعتيم على واقع يوجد بالمغرب كما يوجد في غيره من البلدان، لكن أحاول هنا أن أُبيِّن الفرق بين تغطية إعلامية تبحث في كل الظواهر التي يعرفها المجتمع، وتغطية انتقائية تركز على موضوع واحد وحيدلا يمكن اعتباره بالمطلق ظاهرةً أساسية يُمكِن وضعها في قائمة الأكثر شيوعاً في البلد.
بالعودة إلى عام 2010، نجد أن المسلسل الكرتوني "أبو قتادة وأبو نبيل"الذي أنتجته قناة كويتية؛ سبّب سخطاً واسعا في المغرب بسبب حلقتين أظهرتا بطلي السلسلة في مدينة أكادير، وتحديداً في صالون منزل بعد تعرفهما على فتاتين من المدينة، وهما بصدد شرب كأسي قهوة وضعت فيهما والدة إحدى الفتاتين سائلاً بغرض السحر والشعوذة حتى يتم الزواج. كما خلّف هذا المسلسل تنديداً رسمياً من الحكومة المغربية وتأسفاً من نظيرتها الكويتية. وفي العام ذاته، ظهرت ممثلة مغربية في مسلسل "العار" المصري وهي تؤدي دور فتاة ليل وتعلن عن جنسيتها في أحد المشاهد.
الشعوذة والدعارة ثُنائية استمرت في تنميط المرأة المغربية، وهذا ما تتحمله البرامج الكوميدية والدرامية. وتبقى هذه القضية محلّ نقاش إن تعلّق الأمر بأعمال تخيُّلية-ترفيهية، فالمسؤولية تبدو واضحة بشكل جليّ عندما تعمد إعلامية في أحد برامج "التوك شو" المصرية إلى الحديث عن أن اقتصاد المغرب قائم على الدعارة وأن نِسب الإيدز بين سكانه مُرتفعة. ورغم اعتذار الإعلامية في وقت لاحق بعد استنكار مغربي ومصري، فإن ما صرّحت به على الهواء مباشرة -بعفوية- يؤكد أن الفكرة السائدة بين بعض الإعلاميين العرب حول المرأة المغربية ليست وردية أبدا.
ترىالناشطة الإعلامية والحقوقية فتيحة أعرور أن الصورة النمطية للمرأة المغربية في الإعلام الشرقي تتمحور حول شكلَين، الأول: فتاة ليل، والثاني: مشعوذة، وهذه الطروحات ليست وليدة اليوم، بل هي رهينة بنظرة نمطية ضاربة في التاريخ، "فحتى القائدة الأمازيغية ديهيا وُصفت بالكاهنة إبان اكتساح شمال أفريقيا على عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. فقوة ديهيا وشخصيتها الكاريزمية جعلت قادة جيوش بني أمية يشككون في قوتها ويرجعون ذلك إلى السحر والشعوذة".
وتتابع فتيحة أن التنميط المغلوط للمرأة المغربية لا يغفل أن واقع الفقر المزري يجعل عدداً من الفقيرات يمتهنَّ بيع الجسد سواء في الوطن أو بالهجرة إلى دول الشرق، كل هذا بتشجيع ضمني من الدولة في كثير من الأحيان، لكن مشكلة الصحافة في الشرق هي الارتكان إلى عقلية بائدة لم تتطوّر، والاحتكام إلى منطق السوق القائم على تسليع المرأة، إضافة إلى غياب ثقافة حقوق الإنسان وعدم الالتزام بأخلاقيات مهنة الصحافة.
التنميط يستمر
قبل ثماني سنوات، وفي حمى تصفيات مونديال كرة القدم عام 2010، وقعت مصر والجزائر في مجموعة واحدة، وكان واضحا منذ البداية أن المنافسة على بطاقة التأهل ستنحصر بينهما. لكن ما وقع قبل وأثناء المباراة الأخيرة، تجاوز كثيرا الجِلد المدوّر ووصل حد اجترار الكثير من الصور النمطية عن البلدين، في مهزلة حقيقية كان الإعلام حطبها الرئيسي.
ومع انتشار الشبكات الاجتماعية التي باتت تخلق نوعاً من الإعلام غير القابل للضبط واستيعاب أخلاقيات الصحافة وقواعدها، صارت الصور النمطية تترسخ أكثر، ومن ذلك انتشار وسم "أعيدوا السوريين إلى وطنهم" في تركيا بسبب تركيز بعض الصحف المحلية على جرائم ومخالفات يرتكبها سوريون، وكذلك ما قيل عن تضرر الاقتصاد المحلي بسبب وجودهم. وقد ساهمت هذه الحملة بشكل ما في جريمة قتل راحت ضحيتها سيدة سورية وطفلها صيف عام 2017، كما خلقت توتراً إعلامياً دفع بوزارة الداخلية التركية إلى التدخل والتأكيد أن هناك تضخيماً كبيراً يطال موضوع السوريين وأن نسبة تورطهم في المشاكل تبقى متدنية جدا.
صورة المهاجر
وبالاتصال بموضوع المهاجرين، فمن خلال بحث صغير في جلّ المواقع الإخبارية، نتبين أن أغلب الأخبار التي تخصّ المهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، تتعلّق فقط بغير النظاميين أو الشرعيين منهم رغم وجود عدد كبير ممّن حصلوا على أوراق الإقامة، حيث تهيمن فيها أخبار الاقتحام والتسلّل والغرق وإلقاء القبض والجرائم، بينما تقل كثيراً النماذج الإيجابية لهؤلاء المهاجرين رغم تعددها. فبقصد أو بدونه، يكرّس الإعلام صوراً سلبية عن هؤلاء المهاجرين، ممّا يساهم في خلق رأي عام ينظر إليهم على كونهم عبئاً.
وعلاقة بهذا الأمر، يتحدث هشام رشيدي من جمعية "غادم" (GADEM) التي ترافق المهاجرين بالمغرب، أن الإعلام استُعمل على الدوام لتبرير سياسات أمنية تسعى للحد من الهجرة غير المنظمة. وفي الحالة المغربية تغيّرت الأمور نحو الأفضل بدءًا من عام 2013 في أعقاب استراتيجية أعلن عنها الملك لتسوية أوضاع المهاجرين، إذ ظهر تعامل إيجابي من جانب عدد من الصحفيين مع صورة المهاجر.
بيدَ أن العام 2017 شهد ردة ملحوظة في التعامل الإعلامي المغربي مع قضايا الهجرة إثر عودة المقاربة الأمنية، يقول هشام رشيدي لمجلة "الصحافة"، إذ صدرت تغطيات صحفية معادية للأجانب ذوي البشرة السوداء من جرائد ومواقع معروفة بارتباطاتها مع جزء من الأجهزة الأمنية، وطبعا هذه التغطيات تغذي بشكل مباشر مشاعر العداء للمهاجرين.
وأحيانا يقوم الإعلام حتى داخل البلد ذاته بتكريس صور نمطية عن فئات مجتمعية، وتحضرني في هذا السياق صورة الشاب أو المراهق في مجموعة من المسلسلات والأفلام التلفزيونية بالمغرب، فالمراهق في السلسلة الهزلية "دار سي مربوح" التي كانت تعرف نسب مشاهدة مرتفعة جدا بين الأسر المغربية؛ فاشل في دراسته وفي أيّ عمل يقوم به، ممّا يجعل أسرته تتبرّم منه على الدوام، بينما تظهر شقيقته التي هي في مثل سنه ناجحة في دراستها وتحظى بعطف وتشجيع والديها. ويستمر هذا المشهد طوال السلسلة التي تتجاوز 60 حلقة تلفزيونية.
ثنائيات نمطية
قبل أسابيع قليلة، خرجت المجلة الفرنسية "جون أفريك" بغلاف يحمل عنواناً بارزاً "الإرهاب وُلد بالمغرب"، وفي خلفية الغلاف يظهر العلم المغربي وصور المشتبه في تورّطهم بالهجوم الإرهابي في برشلونة. وقد حاولت المجلة تخفيف وقع العنوان بالإشارة في جملة صغيرة داخل الغلاف إلى أن المعنيين بالأمر وُلدوا بالمغرب، وتطرّفوا في أوروبا، حيث انضموا إلى داعش، لكن ذلك لم يمنع اندلاع موجة انتقادات واسعة وصلت حدّ تنديد الحكومة المغربية بالعنوان.
وكان مُثيراً للنقاش كيف أن المجلة رفضت التراجع عن هذا العنوان أو الاعتذار عنه، علمًا بأنه يحمل تعميماً خاطئاً عندما يربط ولادة الإرهاب ببلد معين، فالإرهاب ليس كائناً يعود أصله إلى بلد ما، بل هو ظاهرة معقدة يرتبط فيها المقدس بالظروف الاجتماعية والنفسية وبالعوامل السياسية، وإلا فما القول عندما نتحدث عن جهاديين نشؤوا في أسر مسيحية غربية وتحوّلوا إلى التطرّف كمغني الراب الألماني ديزو دوغ الذي يُعتقد أنه لا يزال يحارب في سوريا تحت اسم "أبو طلحة الألماني".
وبالحديث عن ثنائية "الإرهاب والإسلام"، تؤكد الأستاذة المساعدة لمادة التواصل في جامعة ميشيغان الأميركية منيبة سليم أنها توصّلت إلى أنه من شأن الطريقة التي تُقدم بها وسائل الإعلام الأميركية المسلمين؛ أن تغذي السلوكيات والسياسات المعادية لهم في الولايات المتحدة، فعدد من هذه الوسائل تصوّرهم أحياناً كإرهابيين. وبما أن الكثير من الأميركيين لا يعرفون المسلمين شخصياً، فما قد ينتج عن ذلك هو الاعتقاد بأن كل المسلمين إرهابيون.
الأستاذة التي استشهدت بغلاف شهير لجريدة "نيويورك بوست" يُظهر شخصاً طريح الأرض وتحته عبارة "القتلة المسلمون"، أحالت إلى دراسة أجرتها رفقة باحثين آخرين، تمحورت حول اختيار عيّنة من الأميركيين من غير المسلمين، وبعد ذلك جعلهم يشاهدون تصويراً سلبياً للمسلمين في وسائل الإعلام، ومن ثمَّ فتح المجال أمامهم لمُناقشة إحباط عملية إرهابية عام 2007 يُشتبه في أن وراءها مسلمين. وقد عبّر من خضعوا لهذه التجربة في نهايتها عن ظنهم بأن جميع المسلمين عنيفون، كما طالبوا بوضع قيود جديدة على المسلمين الأميركيين ومنعهم من بعض الحقوق كالتصويت، بل إنهم دعموا أيّ عمل عسكري تقوم به بلادهم ضد بلدان إسلامية لأجل تقليل تأثير الإسلام حتى لو كان هذا العمل سيَضع حياة المدنيين في خطر!
في دراسة أخرى أنجزها الباحث محمد الشرقاوي على موقع مركز الجزيرة للدراسات، حلل من خلالها تغطية ثلاث مؤسسات إعلامية أميركية لما يتعلّق بالمسلمين، خلُص في نتائجها إلى أن القنوات المحسوبة على اليمين المحافظ التي تعتمد على صحافة الرأي؛ باتت أكثر قدرة على التأثير في الرأي العام من المؤسسات الإعلامية التي تتمسك بالمهنية. وتُعدّ قناة "فوكس نيوز" أكبر أمثلة الإعلام اليميني الذي يكرّس نظرة نمطية تجاه المسلمين، ومن ذلك تعزيز عملية استبعادهم باعتبارهم غير مرغوب فيهم حتى لو كانوا أميركيين، وتغييبهم تماماً عن المشهد تمهيداً لشيطنتهم، والسماح بالنيل من سمعتهم تحت ذريعة حرية التعبير.
النجاة من الفخ
تَظهر العودة إلى المواثيق الأخلاقية أمراً ضرورياً ليس لمجرّد قراءتها بل للتشبع بها وتطبيقها على الميدان، فالميثاق الأخلاقي لجمعية الصحفيين المحترفين في أميركا -وهو واحد من أقدم النصوص الأخلاقية في القطاع- يؤكد على ضرورة الابتعاد عن التنميط القائم على العرق والجنس والسن والدين والقومية والعامل الجغرافي والتوجه الجنسي والإعاقة والمظهر الجسدي والحالة الأسرية. وينص التعديل الجديد في الميثاق على ضرورة أن يراجع الصحفيون السبل التي تؤثر فيها قيمهم على التغطية الإخبارية.
في ذات السياق يضع المركز الأوروبي للصحافة عدة إرشادات لتجاوز إمكانية الوقوع في ترسيخ الصور النمطية بالنسبة للأقليات، منها احترام الآخرين فيما يتعلّق بجنسهم وعرقهم وسنهم ودينهم وغير ذلك من الاختلافات، وعدم الحديث عن هذه الاختلافات في الإعلام إلا إذا كان للموضوع علاقة بذلك، والتعرّف على الصور النمطية التي يحملها الصحفي عن الآخرين حتى يبعدها عن عمله، وعدم سماح الصحفي لتجاربه الخاصة بالتأثير على التغطية، وإعطاء الأهمية ذاتها لكل الأطراف في القصة حتى لا يظهر أن هناك اختلالا للتوازن عندما يتعلّق الأمر بأطراف مختلفة التوجهات.
ويؤكد أستاذ الصحافة عبد الوهاب الرامي في حديث لمجلة "الصحافة" أن على الصحفيين إعمال بند "الحق في الاختلاف" المبني على أسس الديمقراطية في تعريفها الكوني الحقوقي، وأن تعمل المؤسسات الصحفية على تبني ميثاق لما يسمى "التنوع الإعلامي" الذي يتيح تغطية متوازنة لجميع فئات المجتمع، وأن يجعل الصحفي من "التحري" مرافقا له في عمله اليومي، ليس في جنس التحقيق فقط، بل في كل الأجناس الصحفية.
يمكن القول إن التشبع بالثقافة الكونية لحقوق الإنسان، والإيمان بأن دور الصحافة يتعدى أن تكون مجرّد قناة جوفاء تختص بإيصال الخبر إلى أداة لنشر القيم الديمقراطية والتربية على الحقوق والواجبات، سيتيحان للصحفيين المساهمة في تكسير الكثير من هذه الصور النمطية. قطعاً لن يكون الأمر مربحًا بمنطق السوق، لكنه سيكون مربحا كثيرًا للمهنة التي باتت محتاجة اليوم -وأكثر من أي وقت مضى- إلى جرعات من المسؤولية الأخلاقية، بدل اللهاث المستمر وراء "ما يطلبه المشاهدون".
المصادر:
(1) http://www.alwatan.com.sa/Nation/News_Detail.aspx?ArticleID=18555
(2) https://arabic.cnn.com/world/2017/08/29/jeune-afrique-morocco-cover
(3) https://theconversation.com/why-bad-news-for-one-muslim-american-is-bad-news-for-all-muslims-61358
(4) http://journals.sagepub.com/doi/abs/10.1177/0093650215619214
(5) http://studies.aljazeera.net/ar/mediastudies/2016/02/201622294251579654.html