قصص الصحفيين أو المصورين الصحفيين العاملين أو أولئك الذين اشتغلوا في مناطق تشهد اضطرابات أو صراعات مسلَّحة، تبدو متشابهة إن لم نقل إنها متطابقة في ذهن المتلقي البعيد عن شجون هذه المهنة ومتاعبها، إنها قصص تقف على حافة الموت وتدخل في سراديبه في أحايين كثيرة، لكنها هنا في الكتاب الصادر عن معهد الجزيرة للإعلام تحت عنوان " الصحافة في زمن الحرب"، تضع المتلقي- مهما كان اختصاصه- أمام أكثر من تجربة تم اختيارها كما هو واضح من سبر الكتاب، بعناية فائقة كي تُغطِّي المشهد البانورامي لمنطقة تشهد منذ عقود انفجارات متلاحقة.
لا بد أن نقول قبل الولوج في ما احتواه الكتاب من كنوز حقيقية، إنَّ السلطة- أي سلطة- في البلاد التي عالجتها محاور الكُتَّاب، سواء في وقت السلم أو وقت الحرب، تعتبر حرية العمل الصحفي امتيازاً تمنحه هذه السلطة، وليس بصفته حقاً مكتسباً في القانون والدستور، لذا فإن التعامل مع هذه الحالات ومحاولة سحبها على تجارب شخصية لصحفيين آخرين لن تكون عملية موفَّقة، إنها إضاءات على حالات ضمن ظروف وملابسات خاصة لكنها تدعم صحفياً آخر في لحظة اتخاذ قرارٍ ما أو الاختيار عندما يملك ترَف الاختيار في الحرب أو في مناطق الصراع.
الشاهدُ الملِك
جميع المساهمات المُقدَّمة تشجِّع الصحفيين المستعدين للذهاب إلى مناطق الصراع على الالتزام بأفضل الممارسات والوقوف على مسافة واحدة من كل أطراف النزاع، تُذكِّر الصحفي أنه شاهدٌ ملكٌ على كل شيء، وعليه أن يروي المشاهد المتتابعة للأزمات المتلاحقة مع حفاظه على سلامته النفسية والبدنية للإفلات من تأثيرات أيَّةِ صدمة.
في ملمح آخر تستوقفنا إشارات لامعة- في الكتاب، ستضع الصحفي العامل في مواجهة مع الموت أمام ثنائياتٍ غريبة، أذكرُ هنا مثلاً من تجربتي الشخصية، فمع انطلاق الثورة السورية وقيام قوات النظام باجتياح المدن والبلدات عسكرياً، كنتُ أُساعِدُ زملاء عرب آخرين في غرفة الأخبار بآلية نُطق أسماء القرى في إدلب أو حماه أو حمص، كانت تلك مجرّد أسماء لكنها لي أنا كصانع أخبار كانت أكثر من ذلك، إنها ذاكرةٌ حيَّةٌ أتعامل معها بشكل يومي، في هذه النقطة تحديداً يضعنا الكتاب أمام تجارب تقول: "اكتُب عن الإشكالات على الأرض حين تحصل، فأنت تغطي فقط ما يجري في تلك اللحظة من دون إضافة تحليل، أُكتُب ما يجري على الأرض بأقصى درجة ممكنة من الصدق".
تستوقفني هنا المقابلة التي أجراها المحرر عواد جمعة مع الصحفي اليمني باشراحيل باشراحيل، المنحدر من عائلة صحفية يمنية عريقة، حيث كان والده هشام باشراحيل مؤسساً ورئيساً لتحرير صحيفة الأيام التي تأسست في عدن عام 1858 خلال الحكم البريطاني للمدينة، وهذه الصحيفة ظلَّت لزمن طويل واحدة من أهم مصادر الأخبار المستقلة في اليمن، هذه المقابلة جرَت في ظروف استثنائية عبر تقنيات الاتصال الهاتفي المتعددة وخلال أيام مختلفة نظراً لحالة الخوف التي يعيشها الضيف على نفسه وعائلته في ظل ما يحدث في اليمن، يستهلها باشراحيل بدعابة متحدثاً عن مهمته الأولى كمراسل متدرب أرسلته الصحيفة الغربية التي كان يعمل بها لتغطية الحرب في يوغوسلافيا السابقة فيقول: " قررت الصحيفة إرسالي إلى هناك لأنه كان بالإمكان الاستغناء عني"، وفي موضع آخر من الحوار يقول الضيف: "كان على الإعلاميين دائماً الامتثال إلى قانون الصحافة بحذافيره في مناطق عملهم، فالحكومة سواء في اليمن أو غيرها ستستغل كل فرصة متاحة لاستغلال القانون ضدك إن كنتَ صحفياً ناقداً أو مستقلاً".
تجارب إنسانية
أميرة أحمد حرودة، المنسقة الصحفية من غزة، تأخذنا عبر مسار اجتماعي لنشأتها وعائلتها الكبيرة والصغيرة وتعطي لقطة بانورامية للمجتمع الغزي قبل أن تقدِّم قاعدتها الأساسية القائمة على السعي دوماً لحماية حياة مصادر معلوماتها، كذلك ترى الصحفية اللبنانية زينة خضر في حوارها المنشور بالكتاب، أن التحدي الأكبر أمام الصحفي العامل في مناطق النزاع المسلَّح هو استخراج الحقيقة، لأنها ترى أن هناك مسؤولية ملقاة على عاتقها، فالتاريخ سيحاسب أي صحفي على ما قال أو كتَب، من جهتها ترى الصحفية السورية زينة إرحيم من خلال تجربتها في المدن السورية، أنه لا يمكن للصحفي أن يحرق نفسه في سبيل سبق إخباري واحد، لأنه ليس هناك من مكان آمن يلجأ إليه حين يُصبِح مطلوباً من قبل مختلف المجموعات المتحاربة.
الصحفي ومخرج الأفلام الوثائقية تامر المسحال الذي غطَّى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المُحاصر، إلى جانب القصص العديدة التي يتناولها من تجربته الذاتية، يختصر عمل الصحفي في ظل هذه الظروف غير الطبيعية بقولِه: " ثقة الناس هي الجانب الأهم والقاعدة الأساسية لأن تكون مراسلاً في أي بلد، إذا مددت جسر ثقة مع الناس فستحصل على مصادر موثوقة وسيتحسن عملك كصحافي خطوة بخطوة، أما إذا خسرت ثقتهم لأنك لا تفهم السياق الثقافي وحاجات الناس والبيئة التي تعمل فيها، فستضع مسيرتك المهنية في خطر"، والمهنية عند تامر المسحال تقتضي بأن يعطي الصحفيُّ الحدثَ الذي يغطيه بعده الحقيقي من دون المبالغة في تصويره ومن دون التقليل من شأنه.
الصحافة الرقمية
في الفصل السابع من الكتاب تحت عنوان "من الخنادق الرقمية، التحول في تغطية الحرب"، يعالج كريستيان تريبرت وهادي الخطيب في مادة تحت عنوان: "الصحفيون الرقميون: التحقيق المفتوح المصادر والتحقق من الأخبار في النزاعات"، مسألةَ التأكد من المعلومة في الفضاء غير المحدود اليوم في الشبكة العنكبوتية، حيث تستحضر المادة شواهد عديدة عن مواقف استخدم فيها سياسيون أو صحفيون صوراً دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء البحث عن مصداقيتها، وهنا يؤكد الباحثان أنَّه على الصحفي – خاصة في ظروف غير مستقرة- ألا يأخذ المعلومة التي يُلقِّمه إياها المعنيون أو الآخرون من دون التثبُّت منها، لأنه بذلك يتقاعس عن عمله بالدرجة الأولى، كما تستعرض تريبرت والخطيب حالات أربع بالتشريح والدراسة، هي:
"القصف الأميركي لمجمَّع مسجد في شمال سوريا، إثبات أصالة رسائل "واتس آب" بين مدبري الانقلاب في تركيا، التحقق من مواقع مقاطع فيديو رسمية: غارات روسية في سوريا، إثبات وجود طفلة في السابعة من العمر في حلب، الاشارة هنا للطفلة بانة العابد".
بينما يأخذنا الفصل الثامن في عوالم " قصص الحرب على صفحات الإعلام الاجتماعي: أخلاقيات الاستخدام والتفاعل مع الجمهور"، وفي هذا يطرح صخر الماخذي العلاقة بين جمهور وسائل التواصل الاجتماعي وما ينتجه صحفيو هذه المواقع من قصص مختلفة، الرحلة هنا تبدأ من لحظة بدء التفاعل بين الناس والقصة حيث تولد قصصٌ أخرى جديدة، وفي ذات المسار يناقش الماخذي العلاقة مع الصحفيين المستقلين في إنتاج المحتوى الرقمي، وبكثير من الوضوح يعرض موقفه الشخصي من خلال تجاربه مع ناشطين أو هواة استقطبهم العمل بالصحافة في المناطق الخطرة، ولاسيما سوريا.
تأسيس نظري
الفصل التاسع من كتاب "الصحافة في زمن الحرب" يسافر بالقارئ إلى مصر، فتحت عنوان "أكثر من شهود: صحافة المواطن خلال الثورة المصرية"، يكتب خالد فهيم بتأسيسٍ تاريخي عن نشوء وولادة شبكة "رصد" الإخبارية، عن أسباب تأسيسها وماهي الدروس التي يمكن مشاركتها مع الآخرين من خلال هذه التجربة التي بدأت عام 2010، واستطاعت خلال فترة قصيرة إثبات وجودها من خلال كشف التزوير الذي حصل في انتخابات عام 2010، لتبدأ مرحلة الثورة المصرية في 25 يناير، حيث تميزت شبكة رصد بالبث الحي الذي تناقلته مؤسسات إعلامية كبيرة، حتى يوليو/تموز من عام 2013، حين أغلق الانقلاب العسكري في مصر مكاتب الشبكة، ولاحق أعضاءها، هنا يشير الكاتب أنهم حاولوا البقاء ضمن إطار الالتزام بمجموعة من القيم الأساسية القائمة على أخلاقيات وميثاق الشرف الصحافي والالتزام بقيم الدقة والتوازن والاستقلالية والنزاهة ونقل الحقيقة كما هي من دون أي انحياز أو تشويه.
في القسم الثالث من الكتاب الذي جاء تحت عنوان "نحو صحافة أفضل وأكثر أماناً"، يأتي التأسيس النظري عبر ثلاثة فصول لمجموعة من العناوين كانت على التوالي.. "حماية الصحفيين بموجب قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي" بقلم أبو عباس، خطاب الكراهية والتحريض على العنف بقلم إبراهيم صابر، والنزاهة المهنية أهم ضامن لحماية الصحفيين بقلم بيتر غريستي، وكتَب آيدن وايت في الفصل الثالث عشر والأخير عن الإدارة السليمة في المؤسسات الإعلامية".
نظرة شاملة
إن الصحفي ليس مناضلاً سياسياً، حتى لو تقاطعت آراؤه الشخصية أو سياسة المؤسسة التي يعمل بها مع طرفٍ من أطراف الصراع في المنطقة التي يغطي بها، لكنَّهُ جزء في نهاية المطاف من مشهد يحترق برمَّته، مهما حاول أن يكون حيادياً ستجرفه دموعه وانفعالاته في لحظة ضعف، هنا أستحضر مشهداً من الذاكرة خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008، لأتذكر مساعد مخرجٍ فلسطيني من القطاع المحاصر، كانت الساعة الحادية عشر ليلاً ونشرة الأخبار ستبدأ بعد دقائق، وما إن خرَج العنوان الأول على الهواء وكنتُ كمنتجٍ للنشرة بدَّلتُ الصور بفيديو جديد وصلَ تواً من وكالات الأنباء، حتى صرَّخ الشاب حينها: يمَّا، يمَّا، وخرج باكياً من غرفة التحكم، أمام ذهولنا جميعنا كفريق عمل، أدركنا أنه رأى صور بيت عائلته يُقصَف بالصواريخ الإسرائيلية، حينها أكملنا النشرة –وهذا الطبيعي- لكنني تساءلتُ بعد ذلك: ماذا كان علينا – كصحفيين- أن نفعل أكثر من هذا؟ هذه المشاهد تكررت بصور أخرى في سوريا وليبيا.
إنَ قوة كتاب "الصحافة في زمن الحرب" تكمن في المحتوى المتنوع والأصيل المستمد من النسج الغني للناس، وهو أقرب في الحقيقة إلى النقل الصادق لتجارب ومعارف مجموعة من الخبراء في المنطقة قبل أن يكونوا صحفيين اشتغلوا أو أداروا ملفات ساخنة، فهذه الأوراق التي امتدت على ما يقارب من 225 صفحة، تحيي – كما جاء في مقدمته- الإنسانية المدفونة تحت الركام الذي تسببه الغارات الجوية، وتغوص في قصص تتشكل تحت القصف المدفعي، وترتب الفوضى التي تحدثها السيارات المفخخة.
للاطلاع على النسخة العربية، هنا:
للاطلاع على النسخة الإنجليزية، هنا: