الصحفيون أدمنوا الفجيعة ودجَّنوا الموت، هكذا ببساطة. دون أن نشعر، أو حتى سبق لغيرنا وشعر أنّنا صرنا مجرّد حكاية طويلة بائسة، نتناولها - نحن الفلسطينيّين - قبل غيرنا في وسائل الإعلام المحليّة والدوليّة على نحو إعلامي منقوص، على نهج انتقائي غير موضوعي. غالبًا ما يبحث الصحفي عن القصص المخضّبة بالدم ومرهقة بالدموع، القصص القاتلة والتي يفضّل أن يكون ختامها "بس معلش، فدا الأرض".
"ما شعورك؟ هل أنت حزين/ة بفقدان ابنك؟ أم أنك سعيد/ة بتقديم روحه إلى فلسطين؟" أسئلة نمطية يستهوي عدد لا بأس به من الصحفيون توجيهها لذوي الشهداء. ثمّة أجزاء أخرى أساسيّة يبتعد عنها هؤلاء، كونهم لا يجدون تلك الخاتمة المنشودة. قصص النّاس، الصابر منهم والمنفعل، تعني الصحفي وكأنّه طرف أساسي فيها.. قصص تهمّه من منطلق كيف سيخرج بها كمادّة لجمهور مستهدف ينتظر ما يتوقّعه مسبقًا بسبب النمطيّة التي يسير عليها هذا الكاتب. بينما الأجزاء الأخرى التي كانت إحدى نماذجها "يلعن أبوكوا ع ابو فلسطين بدّي إبني" إنّما تشكّل كواليس نراقبها بصمت، إمّا من خوف الكتابة عنها والضعف أمامها، أو أنّها لا تعبر عنا كوننا مصدر "القوّة" في هذا العالم.
اليوم، تستعرض مجلّة الصحافة قصصا وقع أصحابها فريسة لأسئلة وعدسات الصحفيّين، وقصص أخرى لصحفيين يتعاملون بحذر شديد مع المواد التي تكتب عن الشهيد، وعائلته، وعن انتهاك خصوصيتهم في لحظات الوداع الأخيرة بينهم بصورة ما، أو كلمات يمكن أن تتحوّل إلى "تهمة" تحاسبهم دولة الاحتلال الإسرائيلي عليها.
ابتسام العبد، هي والدة الأسير عمر العبد منفذ عملية "حلميش" من بلدة كوبر قضاء رام الله، اعتقلتها الاحتلال في تمّوز/يوليو 2017، بعد أيّام من تنفيذ العملية بذريعة "ممارسة التحريض والتفاخر بالعملية عبر وسائل الإعلام"، مستخدمين ضدّها صورة تظهر فيها أنها "توزّع حلوى البقلاوة" بحسب ما قرأها الإعلام العبري، نقلًا عن صحفيين، لكن الحقيقة أن أقاربها فعلوا ذلك.
ونقلًا عن مكتب إعلام الأسرى الفلسطينيين، فقد أفرج عن ابتسام بعد أيام على اعتقالها، بغرامة مالية بلغت قيمتها عشرة آلاف شيقل (3 آلاف دولار تقريبًا) وإصدار قرار بفرض غرامة مماثلة في حال التصريح لوسائل الإعلام عن اعتقالها وفترة التحقيق التي خاضتها بالتهمة المزعومة، فيما لا يزال عدد من شبّان العائلة معتقلا لدى الاحتلال بذات التهمة "تصريحات للإعلام أظهرت علما مسبقا بنوايا الأسير في تنفيذ العملية".
وفي الـ21 من حزيران/يونيو العام ذاته، ألقت قوات الاحتلال القبض على زينب عنكوش 46 عاما، والدة الشهيد عادل عنكوش أحد منفذي عملية "وعد البراق" في القدس المحتلّة، إثر اتهامها بـ "تقديم الدعم والمناصرة لتنظيم "إرهابي" والتحريض على تنفيذ عمليات ضد الاحتلال، من خلال التصريحات التي أدلت بها في أعقاب استشهاد ولدها عادل"، وفق شروط تمثلت بكفالة مالية بقيمة 6000 شيقل (2000 دولار تقريبًا) بحيث تُدفع لإتمام الإفراج عنها، إضافة إلى توقيع كفالة طرف ثالث بقيمة 20 ألف شيقل (6 آلاف دولار) لضمان حضورها للمحكمة، وعدم إعطائها أي تصريحات كما وصفتها المحكمة بـ "التحريضية".
بالطبع قطاع غزّة ليس أفضل حالًا، بل على العكس؛ يوم تشييع جثمان الشهيد محمّد بكر، 28 عامًا، في السّادس عشر من أيار/مايو إثر إعدامه من قبل قوات البحرية الإسرائيليّة في عرض بحر غزة، تهاتف المصورون على الذهاب إلى بيته لالتقاط صور الأهل ومواكبة لحظات الوداع الأخيرة إلا أنهم لم يقابلوا بصدر رحب، ومنعوا من الدخول، ولم يحترموا رغبة العائلة بل انتظروهم أمام المنزل إلى أن خرجوا بالجثمان وأخذوا بتصوير عائلته والتركيز على النساء وهي تبكي ما أدى إلى مهاجمتهم من قبل العائلة خلال الجنازة وإجبارهم على حذف الصور.
الشهداء مادة خصبة للصحفيين
أذكر جيّدًا وصايا الشهيد بهاء عليان حينما أوصانا بأن لا نرهق أمّه بأسئلتنا التي يرى أنّ الهدف منها استعطاف مشاعر المشاهدين، وليس أكثر. كما أن لا نبحث كـقرّاء وشعب عن ما كتبه قبل الاستشهاد، بل البحث عما وراء استشهاده. بهاء وغيره من الشّهداء ماتوا وهم يدركون سيناريوهات تداول قصصهم ومعظم الأهداف الصحفيّة من خلفها. تُرعبني فكرة الكتابة عن أحد الشّهداء أو حتّى تلقف ردود أفعال ذويهم ولحظات وداعهم خوفًا من ابتذال الشّوائب المرة التي عاشوها أو شكّلت عمليات استشهادهم.
تستهلّ الصحفية ميرفت صادق حديثها بالقول "إن الأسئلة العاطفية، التي غالبا تتحدث عن المشاعر هي أسئلة توريطية لعائلة الشهيد تدفع باعتقالهم، خاصة في الأيام الأولى حيث لا يتحدثون بوعي وإدراك، وإنما يعبرون عن فقدهم بأي طريقة، بالضعف وبالقوة، إلا أنهم يقعون فريسة لصحفيين أرادوا إشباع رغبات جمهورهم في إثارة المشاعر"، وتؤكّد أن بعض الصحفيين يصرون على اجترار عواطف الشهداء كما حدث مع عائلة الشهيد محمد صالح الذي كانت والدته تحكي عنه بهدوء، حتى سألها صحفي "ما شعورك بهذه اللحظة؟" فأجبرها على البكاء.
توضح ميرفت أن الحزن هو أمر طبيعي مع الفقد، وأن توجّه سؤالًا كهذا لأم شهيد، فهو إهانة له ولها، فالأصل أنك تشاهد وتروي.
وعن تجاربها الشخصية تقول "من حيث المبدأ، لا أحب التحدث مع الأهالي خصوصا في اليوم الأوّل من الفقد. فهم ليسوا في وقت مناسب للحديث لأنهم يعانون الحزن والفجيعة، يمكن أن أذهب لأعزيهم وأستعين بأقارب للحديث معهم، وأصف المكان والمشهد". وفي حالات أخرى، تذهب بعد الدفن ومرور الأيام الأولى، يكونوا قد عادوا لوعيهم وأدركوا ما أصابهم، والتزاما بالأخلاق واحترام الظرف، تسأل أولًا "هل من مجال للحديث مع الصحفيين أم لا؟"، وفي حال الرفض، تعمّم على زملائها أنهم لا يرغبون وبالتالي يجب احترام طلبهم.
"إنتوا بتيجوا تحولونا لقصص وتتقاضوا المال على ظهورنا"، جملة وجهتها والدة الشهيد حسين أبو غوش من قلنديا، في اليوم الثاني من استشهاد ابنها، للصحفيين المتواجدين، حيث تداركت ميرفت الأمر بإلقاء السلام عليها والاعتذار عن التواجد، وتدارك الأمر بمعلومات من بنات عم الشهيد وخالته اللاتي رحّبن بالحديث عنه.
ترى ميرفت أن مشاركة هذه العائلات أحزانها واجبٌ يسبق ممارسة المهنة، فمن المهم أن تقرأ الناس قصصهم، لكن احترام رغبتهم أهم، وغالبًا ما تفضل التركيز على المعلومات كالعمر والأنشطة التي كان يمارسها وحلمه الذي تمناه، ثم تلقائيا تتجاوب الأهالي.
وترصد أن بحالة الشهيد باسل الأعرج، كانت العائلة قد اتخذت موقفا من بعض القنوات التي لم تغط بالأساس قصّة اعتقاله بسجون أجهزة السلطة الفلسطينيّة برام الله، ولم يتعاونوا مع الأهل في إيصال صوته قبل الاستشهاد حيث أضرب عن الطعام، على عكس القنوات التي تعاونت منذ البداية، إذ رحبوا بهم وكانوا يمدوهم بالتفاصيل والمعلومات.
وتؤكّد الصحفية أن العديد من آباء الشهداء وأمهاتهم وقعوا فريسة أحاديثهم مع الصحفيين، ولعل العبد وعنكوش أبرز مثالين في العام الحالي، خصوصًا مع الصحفيين "الإسرائيليين" الذين باتوا محققين معهم من خلال توجيه أسئلة "كنت على علم بالعملية؟ هل شعرتم بنية ابنكم في تنفيذها؟" وهنا يدفع ارتباك العائلات بإجابات عن غير إدراك توقعهم بالفخ.
وفي آذار/مارس 2017، تداول مواطنون صحفيون، صورة لوالد الشهيد محمد الحطاب من مخيم الجلزون، تظهر الأم بحالة هذيان من باب التعاطف، إلا أنها في الحقيقة لا أخلاقيات تتيح انتهاك خصوصيتها وكان لزاما احترام وتقدير الظرف، وبعد صحوة الأهل عبروا عن رفضهم التام لهذه الصورة وأخذوا بالمطالبة بحذفها، وفق ميرفت.
وتروي الصحفية شذا حماد، وهي من أبرز الصحفيات اللاتي يكتبن قصص الشهداء للتأكيد على أنهم ليسوا أرقاما فحسب، أن التعامل مع أهالي الشهداء، أمر مؤلم وليس بالهيّن، وأن قرار الذهاب إلى منزل عائلة شهيد يحتاج الكثير من القوة والحذر.
سبق صحفي مؤجل..
الأمر الطبيعي لدى شذا أنها لا تحاول الكتابة عن الشهيد قبل مرور أسبوعين -على الأقل- على استشهاده وأحيانا بعد شهر، ولا يعنيها السبق الصحفي، بل الأهم أن تبقى قصة الشهيد حية، كما لا تخفي أنها تكتب عن شهداء استشهدوا منذ سنوات عدة، وفق الحاجة والظروف لتسليط الضوء على الجثامين المحتجزة أو إحياء الانتفاضة، أو وجود معلومات جديدة ترغب بإيصالها للجمهور.
استكشافًا للظرف؛ تقول إنها تحرص دائما قبل الذهاب إلى منازل أهالي الشهداء أن تطلع على مقابلاتهم في الإعلام المرئي، والتعرف على شخصياتهم لمعرفة الأمور التي يتقبلوها والأمور التي لا يتقبلوها، ثم التنسيق قبل الذهاب وإعطائهم حرية اختيار الوقت المناسب، وهنا تجدهم متعطشين للحديث ورواية التفاصيل.
وتركّز الصحفية غالبا على طرح الأسئلة التي وجهّت لهم سابقًا، فيما يتعلق بظروف الاستشهاد، ومن ثم تعرّج على طرح الأسئلة التي تتعلق بتاريخ الشهيد، شخصيته، وحياته الاجتماعية.
وتضيف "أحيانا من أسباب رفض التعامل مع الصحفيين هو بسبب استعلائهم، وهذه مشكلة لا يلاحظها الصحفي على نفسه، وتظهر بطريقة غير مباشرة لعائلة الشهداء، مثلا عندما تذهب الصحفية بملابس غير مناسبة من ناحية الألوان ووضع المكياج لا يشعرون أنها قريبة من مصابهم، وبهذا يدركون أنها لا تحترم ظرفهم وألمهم، وتعيشه معهم، أما حينما تشعر والدة الشهيد أن الصحفي قادم لمواساتها والوقوف معها، فالتعامل يصبح مريحا وبسيطا جدا".
في حالة بكاء والدة الشهيد تحرص شذا على إيقاف تسجيل المقابلة وإزاحته جانبا، لتبدأ بالطبطبة عليها والإمساك بيدها، وانتظارها حتى تهدأ ثمّ تسألها "نستكمل المقابلة أم أنك لا ترغبين؟" ما يشعرها أن هذا التصرف يريح والدة الشهيد ويطمئنها.
وتذكر لنا أحد المواقف التي لم تتجاوب فيها عائلة الشهيد، في اليوم الأول من استشهاد الطفل محمود شعلان 17 عاما، من بلدة دير ديوان، طلبت جهة العمل من شذا الكتابة عنه، إلا أن عائلته لم تسمح للصحفية بذلك، وطلبت منها المغادرة، فاكتفت بتعزيتها وانسحبت من المكان، ثم استطاعت الوصول إلى أصدقاء الشهيد وأساتذته في المدرسة، ونجحت بعمل مقابلات معهم، ما يعني بحسب شذا أن رفض عائلات الشهداء أحيانا الحديث مع وسائل الإعلام، لا يعني إغلاق الملف وانتهاء التغطية، بل يجب البحث عن مصادر بديلة، وهي متاحة دائما ويكون لديها معلومات تغني المادة الصحفية التي تُكتب عن الشهيد.
تنتقد شذا ممارسات الصحفيين الذين يصلون منازل الشهداء عادة بالتزامن مع وصول موكب التشييع، حيث لا يتوفر وقت لاستئذان العائلة بالتصوير، إذ يبدأ المصورون بالتقاط الصور، وأحيانا تكون منازل الشهداء ضيقة، فلا يراعي المصورون ذلك، بل ويتسببون بفوضى كبيرة في المكان ويتسببون بعدم وداع الشهيد بشكل كاف من قبل عائلته، لكنها لم تنكر أيضا أن آخرين يتحلون بالإنسانية قبل المهنية، ولعلّ المصور الصحفي عباس المومني نموذجَا يحتذى به.
وتنتقي الصحفية المعلومات التي تحصل عليها والتفاصيل الحساسة والخطيرة التي يمكن أن تصدر عن العائلات بانفعال ودون وعي وإدراك، كأن يشتموا البلاد، أو معلومات يمكن أن تضر العائلة بالنشر خاصة أن الاحتلال بات يحاكمهم على كلمة "حمدًا لله" كما حدث مع والدة الأسير عمر العبد بدعوى "التفاخر بالعملية".
في قطاع غزّة، واجهت صعوبة في الحديث مع المصوّرين الصحفيين الذين يريدون تجنب ذكر الأسماء وبالتالي أية حساسيات فيما بينهم.. تمكنت من إقناع أحدهم أخيرا بالإشارة إلى مواقف دون أن نذكر اسمه الحقيقي.
يقول "هيثم الأحمد" (اسمه المستعار) إن مواقف المصورين والصحفيين بحق عائلات الشهداء لا يغتفر لها، فبعضهم يرى أنه ليس بحاجة الاستئذان للتصوير إذا كان الشهيد ابن تنظيم ما، كون أهله يدركون مصير ابنهم مسبقًا، فيحضرون إلى بيته قبل وصول جثمانه ويلتقطون الصور".
الشهداء الأطفال مادة خصبة
ويضيف هيثم أن الشهيد الطفل يلتف حوله الكثير من الأطفال حين وداعه، ما يرى المصوِّرون منها مواد جيدة لانتزاع مشاعر الجمهور وانتشار الصورة التي تحمل اسمه ويتفاخر بها وكأنه نفذ عملًا بطوليا.
ويذكر أحد أبشع المواقف يوم استشهاد الطفلة أمل الجاروشة، حيث تناثرت أشعة الشّمس على جثمانها في المسجد أثناء الصلاة عليها، بالطبع إنه مشهد لافت لم يفوته المصورون، ولكن أن يأتي بعدهم فوج آخر ويقوم بإزاحتها يمينا ويسارا بما يصنع كادرا للصورة، فهذا أمر مريب!
وفي إجابة عن ردة فعل ذويها عند هذا الفعل، يجيب "كانت العائلة مغيبة ولم تدرك الأمر، فتحولت الطفلة لدمية تحرك حسب عدسة هذا المصور وذاك".
في فلسطين، لا نبالغ حين نقول إن "الإعلام" صار المساحة الأقسى ليس بعرض القصص المخضبة بالدماء، وإنما باستهواء الحديث عنها وعن البطولات الفلسطينية، ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها. هل الصحفيون باتوا يسعون إلى الحصول على أعلى عدد ممكن من المشاركات؟ هل الهدف من نشر الصور أن نعرف، نحن الفلسطينيون خصوصا والعرب عموما، بشاعة الاحتلال؟ وماذا عن كونه احتلالا؟ ألا يكفي هذا؟ يُفترض أننا نعلم.