الصحف الأميركية.. لا حياد بعد اليوم

لا يبدو خروجا عن المهنية التي تقتضي الحياد والوقوف على مسافة واحدة من كلا المرشحين. فمن عادة الصحف الأميركية إعلان موقفها من هذا المرشح أو ذاك في الانتخابات الرئاسية، والتمترس في خندق أحد الحزبين الرئيسيين. ويصدر موقف الصحيفة عبر افتتاحيتها التي تمثل هيئة التحرير بلا مواربة.

الملفت في سباق الانتخابات الأميركية للعام 2016 هو اصطفاف العديد من الصحف ضد مرشح الرئاسة عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب، خاصة تلك التي عرفت تاريخيا بدعم الحزب الجمهوري.

"دالاس مورينينج" قالت إنها دفعت ثمن موقفها عندما بدأ قراؤها بإلغاء اشتراكاتهم. أما "أريزونا ريبابلك" فقد خرجت عن تقليد قديم وأدارت ظهرها لجمهورها الوفي للحزب الجمهوري. ورغم أنها ليست سوى صحيفة محلية مغمورة إلا أنها منذ تأسيسها عام 1890 لم تدعم سوى مرشحي الحزب الجمهوري. وهكذا انبرت العديد من الصحف في مهاجمة ترامب وانضوت في معركتها الصحف الكبرى الأكثر تأثيرا.

صحيفة الواشنطن بوست (تأسست عام 1877) اتخذت قرارا صريحا واستبقت موعد المناظرة الأولى بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون. كانت من عادة المناظرات التلفزيونية أن تغير من مواقف الناخبين المتأرجحة، وأن ترفع رصيد المرشح من النقاط أو تهوي به في استطلاعات الرأي. لكن الصحيفة التي استبقت المناظرة سددت ضربتها قبل أن يصعد الخصمان إلى حلبة الملاكمة، وقالت إنه لا يجب الانتظار لمشاهدة ترامب جديد قد يحسن التصرف أمام شاشات التلفاز. الواشنطن بوست لا ترى في ترامب مرشحا مناسبا لأن مسيرته حافلة بالتصرفات الهوجاء والإهانات والاتهامات التي لا يمكن أن تصدر عن مرشح لمنصب الرئيس. وإذا كانت الصحيفة أعلنت موقفها صراحة من ترامب إلا أنها لم تعلن دعمها لكلينتون لا سيما وأنه في معظم الولايات الأميركية يوجد مرشحين آخرين غير كلينتون وترامب ولكنهم لا يحظون بنفس القدر من الظهور في عالم الصحافة.

صحيفة "يو أس إيه توداي" (تأسست عام 1982( لم يسبق لها في عمرها القصير مقارنة بالصحف الكبرى دعم أي مرشح في الانتخابات الرئاسية. لكن خروجها عن صمتها أو قل حيادها يشي بقلق الصحيفة من وصول ترامب إلى الرئاسة. في افتتاحيتها قالت الصحيفة إنها اعتادت على مراجعة موقفها من مرشحي الرئاسة كل أربع سنوات، وأنها كانت تؤثر ترك الخيار لقرائها دون المفاضلة بين هذا المرشح أو ذاك. ومع انقسام أعضاء هيئة التحرير بشأن كلا المرشحين، إلا أنهم اتفقوا في نهاية المطاف على دعوة القراء للتصويت ولكن ليس لصالح ترامب. الصحيفة قالت بوضوح أيضا إن خيارها هذا لا يعني في المقابل دعم كلينتون، وأنها لا تريد أن تبدو كمن يضع الناس أمام خيار واحد لا ثاني له.

نيويورك تايمز (تأسست عام 1851) كانت أكثر صراحة وعنونت صحيفتها: "هيلاري كلينتون للرئاسة"، وقالت إن قرارها يقوم على احترام عقلية كلينتون وخبرتها وشجاعتها. وفي محاولة لتبرير خيارها، حشدت نيويورك تايمز كلماتها واستعرضت جملة من مناقب كلينتون مقارنة بترامب، وحثت قراءها على التصويت لصالحها.

المرة الأخيرة التي دعمت فيها نيويورك تايمز مرشحا جمهوريا كانت في عام 1956 عندما انحازت للمرشح دوايت آيزنهاور ضد المرشح الديمقراطي أدلاي ستيفنسن. ورغم أن الصحيفة تمثل التيار الليبرالي في الولايات المتحدة، فقد كانت خياراتها متأرجحة وفقا لشخص المرشح وبرنامجه، إلا أنه ومنذ عام 1956 حسمت موقفها على ما يبدو لصالح الديمقراطيين.

مواقف الصحيفة التاريخية عند اختيار الرئيس أمر لا يدعو للخجل وهو تقليد درجت عليه منذ عقود. وفي موقعها على الإنترنت يجد القارىء مسارا زمنيا لكل مواقفها التحريرية تجاه كل الرؤساء.

وهو تحيز صريح لا تخفيه الصحيفة مثل التحيزات غير المعلنة (بقصد أو بغير قصد) إزاء قضية ما ولنذكر على سبيل المثال الموقف من "الصراع العربي – الإسرائيلي". ففي عام 2003 أصدرت جامعة هارفارد دراسة قالت فيها إن نيويورك تايمز انحازت في تغطيتها الصحفية للجانب الإسرائيلي على حساب الجانب الفلسطيني. في الموقف الأول (الانتخابات الرئاسية) ثمة وجهة نظر مهنية وموضوع يُطرح كل يوم للنقاش في المؤسسات الصحفية خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا أخلاقية مثل الحرية والعدالة الاجتماعية. لكن الموقف الثاني هو انتهاك لقواعد المهنة لا تجهر أو تحتفي به أي صحيفة.

ولعل المثالين الأخيرين يطرحان أسئلة ملحة في المهنة: هل يمكن أن تتخذ صحيفة ما موقفا إزاء قضية ما؟ إذا كانت الإجابة نعم فمتى يحق لها ذلك وتجاه أي نوع من القضايا؟ كيف نميز بين مهنية الصحفية وبين انتهاك قواعد المهنة؟ ما هو المقبول وما هو غير المقبول في عرف الصحافة؟ وهل تنتصر الصحيفة للمبادىء أم للمصالح؟

 قد يبدو المنطق في مهنة الصحافة أن تتجرد الصحيفة من تحيزاتها وتكتفي بتقديم الحقائق للجمهور وهو الذي يقرر الاختيار. التعميم لا يجوز طبعا، لكن الصحف في الولايات المتحدة أرست تقليدا في الانتخابات جعلت منها أحيانا طرفا أو خصما. وكما أن مهمة الصحافة مراقبة السلطة ومساءلتها، فإنه من حق القارئ مراقبة الصحافة ومساءلتها أيضا.   

 

 

المزيد من المقالات

الاحتلال الذي يريد قتل الصحافة في الضفة الغربية

"كل يوم يعيش الصحفي هنا محطة مفصلية، كل يوم كل ثانية، كل خروج من المنزل محطة مفصلية، لأنه قد يعود وقد لا يعود، قد يصاب وقد يعتقل"، تختصر هذه العبارة للصحفي خالد بدير واقع ممارسة مهنة الصحافة بالضفة الغربية خاصة بعد السابع من أكتوبر

Hoda Abu Hashem
هدى أبو هاشم نشرت في: 21 يناير, 2025
لماذا عدت إلى السودان؟

قبل أكثر من سنة من الآن كان محمد ميرغني يروي لمجلة الصحافة كيف قادته مغامرة خطرة للخروج من السودان هربا من الحرب، بينما يروي اليوم رحلة العودة لتغطية قصص المدنيين الذين مزقتهم الحرب. لم تكن الرحلة سهلة، ولا الوعود التي قدمت له بضمان تغطية مهنية "صحيحة"، لأن صوت البندقية هناك أقوى من صوت الصحفي.

محمد ميرغني نشرت في: 8 يناير, 2025
هل تنقذ المصادر المفتوحة الصحفيين الاستقصائيين العراقيين؟

تصطدم جهود الصحفيين الاستقصائيين في العراق بالتشريعات التي لا تسمح بالولوج إلى المعلومات. مع ذلك، تبرز تجارب جديدة تتجاوز التعقيدات السياسية والبيروقراطية بالاعتماد على المصادر المفتوحة.

حسن أكرم نشرت في: 5 يناير, 2025
التضليل في سوريا.. فوضى طبيعية أم حملة منظمة؟

فيديوهات قديمة تحرض على "الفتنة الطائفية"، تصريحات مجتزأة من سياقها تهاجم المسيحيين، مشاهد لمواجهات بأسلحة ثقيلة في بلدان أخرى، فبركة قصص لمعتقلين وهميين، وكم هائل من الأخبار الكاذبة التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد: هل هي فوضى طبيعية في مراحل الانتقال أم حملة ممنهجة؟

فرحات خضر نشرت في: 29 ديسمبر, 2024
طلبة الصحافة في غزة.. ساحات الحرب كميدان للاختبار

مثل جميع طلاب غزة، وجد طلاب الإعلام أنفسهم يخوضون اختبارا لمعارفهم في ميادين الحرب بدلا من قاعات الدراسة. ورغم الجهود التي يبذلها الكادر التعليمي ونقابة الصحفيين لاستكمال الفصول الدراسية عن بعد، يواجه الطلاب خطر "الفراغ التعليمي" نتيجة تدمير الاحتلال للبنية التحتية.

أحمد الأغا نشرت في: 26 ديسمبر, 2024
الضربات الإسرائيلية على سوريا.. الإعلام الغربي بين التحيز والتجاهل

مرة أخرى أطر الإعلام الغربي المدنيين ضمن "الأضرار الجانبية" في سياق تغطية الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا. غابت لغة القانون الدولي وحُجبت بالكامل مأساة المدنيين المتضررين من الضربات العسكرية، بينما طغت لغة التبرير وتوفير غطاء للاحتلال تحت يافطة "الحفاظ على الأمن القومي".

Zainab Afifa
زينب عفيفة نشرت في: 25 ديسمبر, 2024
صحافة المواطن في غزة.. "الشاهد الأخير"

بكاميرا هاتف، يطل عبود بطاح كل يوم من شمال غزة موثقا جرائم الاحتلال بلغة لا تخلو من عفوية عرضته للاعتقال. حينما أغلق الاحتلال الإسرائيلي غزة على الصحافة الدولية وقتل الصحفيين واستهدف مقراتهم ظل صوت المواطن الصحفي شاهدا على القتل وحرب الإبادة الجماعية.

Razan Al-Hajj
رزان الحاج نشرت في: 22 ديسمبر, 2024
مقابلة الناجين ليست سبقا صحفيا

هل تجيز المواثيق الأخلاقية والمهنية استجواب ناجين يعيشون حالة صدمة؟ كيف ينبغي أن يتعامل الصحفي مع الضحايا بعيدا عن الإثارة والسعي إلى السبق على حساب كرامتهم وحقهم في الصمت؟

Lama Rajeh
لمى راجح نشرت في: 19 ديسمبر, 2024
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة

طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.

Mawadah Bahah
مودة بحاح نشرت في: 17 ديسمبر, 2024
الصحافة السورية المستقلة.. من الثورة إلى سقوط الأسد

خلال 13 سنة من عمر الثورة السورية، ساهمت المنصات الصحفية المستقلة في كشف الانتهاكات الممنهجة للنظام السابق. الزميل أحمد حاج حمدو، يقدم قراءة في أدوار الإعلام البديل من لحظة الثورة إلى لحظة هروب بشار الأسد

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 13 ديسمبر, 2024
صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

Iman Kamal El-Din is a Sudanese journalist and writer
إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

Linda Shalash
لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

Shaarawy Mohammed
شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
عمر الحاج.. "التحول" الصعب من العطلة إلى بؤرة الزلزال

قبل أن يضرب زلزال عنيف مناطق واسعة من المغرب، كان عمر الحاج مستمتعا بعطلته، ليجد نفسه فجأة متأرجحا بين واجبين: واجب العائلة وواجب المهنة، فاختار المهنة. في تغطيته لتداعيات الكارثة الطبيعية، التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، خرج بدروس كثيرة يختصرها في هذه اليوميات.

عمر الحاج نشرت في: 17 أغسطس, 2024