سي أن أن.. ثغرة تهز عرش الصدقية

لعل أكثر ما يتردَّد في أروقة المؤسسات الإعلامية مصطلحا "الصدقية" و"الموضوعية"، رغم أن الكثير من تلك المؤسسات لا يوليهما اهتماما حقيقيا في الواقع. وقد أثبتت خبرات متراكمة أن المتابعين عادة ما ينجرّون وراء المؤسسات الإعلامية التي تشاطرهم آراءهم لأنهم يريدون سماع ما يرغبون بسماعه وإن لم يكن حقيقيا أو افتقد للموضوعية والحياد. يلاحظ هذا من خلال ما ينشره مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار على صفحاتهم توائم أفكارهم ومعتقداتهم ومواقفهم السياسية.. فهل ينطبق الأمر ذاته على الصحفيين العاملين في المؤسسات الإعلامية؟

نظريا، يقتضي الحياد أن يتحقق الصحفي من الأخبار التي تصله ولا يكتفي بمصدر واحد، بيد أن الواقع الإعلامي شهد حالات كان يذاع فيها خبر من "شاهد عيان" واحد فقط، ولربما وجدت المؤسسة الإعلامية نفسها مجبرة على نشر ذلك الخبر خضوعا للسبق ملحقة الخبر بجملة "لم يتسنّ التأكد منه".. جملة لا تعفي قائلها من تحمل مسؤولية النشر اتباعا لقاعدة تقول "الأفضل أن تكون الثاني على صواب، من أن تكون الأول على خطأ".

هذا فيما يتعلق بنشر خبر عاجل، أما ما يخص التحقيقات الصحفية فالأمر يختلف والتبريرات تقلُّ؛ إذ لها قواعد وأصول أكثر تشدّدا وهي تندرج تحت الصحافة البطيئة التي تتطلّب صبرا ودقة أكثر.

الصحفيون أيضا ينتظرون أخبارا تتناسب مع فرضياتهم وآرائهم وإن كان من المفترض أن يكون تناولهم لها بطريقة أكثر حذرا من الأشخاص العاديين، إلا أن هذا لا يمنع أن ينزلقوا هم أنفسهم على أرضية أخبار غير مؤكدة لإثبات وجهات نظرهم.

حدث هذا في مؤسسات إعلامية كبرى، اضطرت بعد نشرها أخبارا غير صحيحة لتقديم اعتذارها لمتابعيها، ولم يعد أمر كهذا مستغربا في ظل تدفق قوي لسيول من الأخبار على مدار اليوم، يحرم أي مؤسسة مهما كبر فريق محقّقي الأخبار فيها من التأكد من صحة تلك الأخبار بشكل كامل.

موظفو السي أن أن.. قربان الصدقية

مؤخرا، تجاوزت قناة الـ"سي أن أن" الاعتذار لقبول استقالة ثلاثة من موظفيها إثر نشرهم مقالا يتحدث عن علاقة تربط ما بين أنتوني سكاراموتشي، أحد المقربين من الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصندوق الاستثمار الروسي.

ولم تكتف السي أن أن بسحب التقرير كاعتراف منها بعدم إقراره، بل قبلت استقالة الموظفين الثلاثة مفسحة المجال لعلامة استفهام حائرة تتساءل إن كان قبول الاستقالة أمرا منصفا أم مبالغا به.

ولهذا خلفية أخرى تعود للوراء قليلا ندرك من خلال قراءتنا لها، أن العلاقة بين ترامب وقناة السي أن أن ليست على يرام. فمنذ حملته الانتخابية لمنصبه الحالي، دأبت معظم وسائل الإعلام الأميركية ومن بينها السي أن أن، على دعم منافسته هيلاري كلينتون. كما كان ترامب قد رفض سؤالا طرحه عليه صحفي من السي أن أن في أول مؤتمر صحفي عقد بعد فوزه بالرئاسة معلّقا بأنها (قناة السي أن أن) تنشر أخبارا مزيفة، وكانت القناة أول من نشر مذكرة تضمنت معلومات، لم تؤكدها المخابرات الأميركية، عن امتلاك روسيا معلومات غير أخلاقية متعلقة بترامب بهدف ابتزازه.

إنكار ترامب المتكرر لما تنشره السي أن أن وعدم توفيره مناسبة دون مهاجمة وسائل الإعلام الأميركية التي أكد انحيازها لمنافسته، كان يقتضي حكمة أكثر من هذه الوسائل عامة ومن السي أن أن خاصة التي تضع صدقيتها على المحك أمام عدم وجود إثباتات كاملة على ادعاءاتها؛ إذ بررت سحبها لتقريرها الأخير أنه معتمد على مصدر مجهول واحد وأنها عادة ما تعتمد على مصادر متعددة.

فنشر تقرير أو تحقيق قبل التأكد الكامل من صحة المعلومات الواردة فيه، يشبه حرق "طبخة" ما عوضا عن إنضاجها على نار هادئة ويكشف عن التسرع الناتج عن موائمة الخبر غير الأكيد لتحيزات الصحفي الشخصية.

ورغم أن السي أن أن لم تكتب نفيا كاملا للمعلومات الواردة فيه، لكنها وضحت أن آلية النشر لا تتوافق مع سياساتها التحريرية لنفهم أن نشر المعلومات نفسها "لو كانت مؤكدة" لن تسبب لها أي إشكالية بل الإشكال يكمن في آلية النشر. صحيح أن الاعتذار كان مباشرا لسكاراموتشي لكنه أيضا موجه للقراء ولمهنة الصحافة نفسها.

لا شك أن الصحفيين الذي نشروا التقرير ذوو خبرة وليسوا هواة، لكن ثغرة واحدة في عمل الصحفي تتعلق بالصدقية، كفيلة بتهديد مستقبله المهني وهز الثقة بالمؤسسة الإعلامية، التي يبدو أنها في حالة السي أن أن قد قررت تقديم موظفيها قرابين ضمانا لإثبات مهنيتها.

 

المزيد من المقالات

مقابلة الناجين ليست سبقا صحفيا

هل تجيز المواثيق الأخلاقية والمهنية استجواب ناجين يعيشون حالة صدمة؟ كيف ينبغي أن يتعامل الصحفي مع الضحايا بعيدا عن الإثارة والسعي إلى السبق على حساب كرامتهم وحقهم في الصمت؟

لمى راجح نشرت في: 19 ديسمبر, 2024
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة

طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.

مودة بحاح نشرت في: 17 ديسمبر, 2024
الصحافة السورية المستقلة.. من الثورة إلى سقوط الأسد

خلال 13 سنة من عمر الثورة السورية، ساهمت المنصات الصحفية المستقلة في كشف الانتهاكات الممنهجة للنظام السابق. الزميل أحمد حاج حمدو، يقدم قراءة في أدوار الإعلام البديل من لحظة الثورة إلى لحظة هروب بشار الأسد

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 13 ديسمبر, 2024
صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
عمر الحاج.. "التحول" الصعب من العطلة إلى بؤرة الزلزال

قبل أن يضرب زلزال عنيف مناطق واسعة من المغرب، كان عمر الحاج مستمتعا بعطلته، ليجد نفسه فجأة متأرجحا بين واجبين: واجب العائلة وواجب المهنة، فاختار المهنة. في تغطيته لتداعيات الكارثة الطبيعية، التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، خرج بدروس كثيرة يختصرها في هذه اليوميات.

عمر الحاج نشرت في: 17 أغسطس, 2024
رفاق المهنة يروون اللحظات الأخيرة لاغتيال إسماعيل الغول

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا أمس (31 يوليو/ تموز)، مراسل الجزيرة في مدينة غزة إسماعيل الغول، والمصور رامي الريفي، وصحفيون آخرو

Mohammad Abu Don
محمد أبو دون نشرت في: 1 أغسطس, 2024
في الحرب على غزة.. كيف تحكي قصة إنسانية؟

بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعية على فلسطين، كيف يمكن أن يحكي الصحفيون القصص الإنسانية؟ وما القصص التي ينبغي التركيز عليها؟ وهل تؤدي التغطية اليومية والمستمرة لتطورات الحرب إلى "التطبيع مع الموت"؟

يوسف فارس نشرت في: 17 يوليو, 2024
الأمهات الصحفيات في غزة.. أن تعيش المحنة مرتين

أن تكون صحفيا، وصحفية على وجه التحديد تغطي حرب الإبادة الجماعية في فلسطين ومجردة من كل أشكال الحماية، يجعل ممارسة الصحافة أقرب إلى الاستحالة، وحين تكون الصحفية أُمًّا مسكونة بالخوف من فقدان الأبناء، يصير العمل من الميدان تضحية كبرى.

Amani Shninu
أماني شنينو نشرت في: 14 يوليو, 2024
بعد عام من الحرب.. عن محنة الصحفيات السودانيات

دخلت الحرب الداخلية في السودان عامها الثاني، بينما يواجه الصحفيون، والصحفيات خاصّةً، تحديات غير مسبوقة، تتمثل في التضييق والتهديد المستمر، وفرض طوق على تغطية الانتهاكات ضد النساء.

أميرة صالح نشرت في: 6 يونيو, 2024
الصحفي الغزي وصراع "القلب والعقل"

يعيش في جوف الصحفي الفلسطيني الذي يعيش في غزة شخصان: الأول إنسان يريد أن يحافظ على حياته وحياة أسرته، والثاني صحفي يريد أن يحافظ على حياة السكان متمسكا بالحقيقة والميدان. بين هذين الحدين، أو ما تصفه الصحفية مرام حميد، بصراع القلب والعقل، يواصل الصحفي الفلسطيني تصدير رواية أراد لها الاحتلال أن تبقى بعيدة "عن الكاميرا".

Maram
مرام حميد نشرت في: 2 يونيو, 2024
فلسطين وأثر الجزيرة

قرر الاحتلال الإسرائيلي إغلاق مكتب الجزيرة في القدس لإسكات "الرواية الأخرى"، لكن اسم القناة أصبح مرادفا للبحث عن الحقيقة في زمن الانحياز الكامل لإسرائيل. تشرح الباحثة حياة الحريري في هذا المقال، "أثر" الجزيرة والتوازن الذي أحدثته أثناء الحرب المستمرة على فلسطين.

حياة الحريري نشرت في: 29 مايو, 2024
"إننا نطرق جدار الخزان"

تجربة سمية أبو عيطة في تغطية حرب الإبادة الجماعية في غزة فريدة ومختلفة. يوم السابع من أكتوبر ستطلب من إدارة مؤسستها بإسطنبول الالتحاق بغزة. حدس الصحفية وزاد التجارب السابقة، قاداها إلى معبر رفح ثم إلى غزة لتجد نفسها مع مئات الصحفيين الفلسطينيين "يدقون جدار الخزان".

سمية أبو عيطة نشرت في: 26 مايو, 2024
في تغطية الحرب على غزة.. صحفية وأُمًّا ونازحة

كيف يمكن أن تكوني أما وصحفية ونازحة وزوجة لصحفي في نفس الوقت؟ ما الذي يهم أكثر: توفير الغذاء للولد الجائع أم توفير تغطية مهنية عن حرب الإبادة الجماعية؟ الصحفية مرح الوادية تروي قصتها مع الطفل، النزوح، الهواجس النفسية، والصراع المستمر لإيجاد مكان آمن في قطاع غير آمن.

مرح الوادية نشرت في: 20 مايو, 2024