منذ أكثر من عام، يقضي الصحفي محمد الأطرش يومه متنقلًا بين الصفحات الإلكترونية المختصة بالإعلان عن الوظائف الصحفية، وبين التواصل مع المؤسسات الإعلامية العاملة في قطاع غزّة، باحثًا عن فرصة عمل في مجال المونتاج الصحفي والصوتي اللذين يمتلك فيهما خبرة تزيد عن عشرة سنوات، قضاها في العمل مع عدد من الإذاعات والفضائيات الفلسطينية المحلية، كان آخرها "قناة الكتاب الفضائية" التابعة للجامعة الإسلامية والتي أغلقت في نهاية العام 2017، بسبب أزمةٍ مالية خانقة ألمت بها وفقًا للبيان الصادر عن إدارتها آنذاك.
الأزمة التي بدأت ملامحها تظهر قبل حوالي عامين من اتخاذ القرار النهائي بإغلاق القناة، كان من الممكن تجاوزها بحسب الأطرش لو أنّه توفرت إرادة فلسطينية جادة تدعم الرسالة الإعلامية الوطنية وتؤمن الحد الأدنى من المقومات المالية التي تضمن على الأقل استمرار عمل المؤسسات الصحفية المحلية، وتعينها على تخطى العقبات، حيث يقول "بإغلاق الفضائية، غاب عن الشاشة عشرات الوجوه الشابّة، وكذلك دُمرت كلّ أحلام العاملين فيها والتي وُلدت مع تأسيس القناة في عام 2012".
يتابع الأطرش (38 عامًا) حديثه: "لم أكن أتخيل أن أصلَ لهذه الحالة، أو بالأحرى لم أتوقع أبدًا أن يأتي الوقت الذي نخسر فيه وسائل إعلامٍ فلسطينية ومهارات وخبرات، في وقتٍ نحن بحاجةٍ فيه لاستثمار أيّ منصة ممكن أن تساهم في مواجهة ماكينة الإعلام الصهيونية التي تصب أخبارها ليل نهار في كلّ بقاع الأرض وترسم الصورة التي تريدها هي في نفس المتلقي وعقله، وسط غيابٍ واضح للرواية الصحفية الفلسطينية".
حالة الأطرش ليست فردية، ولا فضائية الكتاب هي المؤسسة الإعلامية الفلسطينية الوحيدة التي أضرّت بها الأزمة المالية، وأدخلتها في دائرةٍ ضيقة جدًا وأبقت الخيارات في يد إدارتها محصورة بين تقليص النفقات ورواتب الموظفين أو إعلان قرار الإغلاق للجمهور وتسريح الموظفين دون القدرة على تسوية حقوقهم الإدارية والقانونية، فقبل فترة، كان قرار إغلاق قناة القدس الفضائية، وقبلها بأيامٍ قليلة طالبت فضائية الأقصى المانحين بالإسراع بدعمها وتقديم المساعدات المالية التي تضمن استمرار بثها الفضائي.
فما هي الأسباب التي أوصلت المؤسسات لهذه المرحلة؟ وكيف واجه الصحفيون قرارات تسريحهم من أعمالهم وما هو حالهم بعد الإغلاق؟ وهل هناك أبعاد لتلك الأزمات يمكن الحديث عنها أم أنّها جاءت نتاج للظروف المحلية الصعبة التي تمر بها الحالة الفلسطينية العامّة؟ وماذا عن الأساليب والخطط الاستراتيجية والتنفيذية التي اتبعتها المؤسسات في مواجهة تلك الأزمات؟
الأزمة عامّة
يرى مدير منتدى الإعلاميين الفلسطينيين محمد ياسين أنّ المشهد الإعلامي المحلي بأكمله بات يعاني من الأزمة المالية، لاسيما المؤسسات الحزبية والخاصّة، "فمعظم وسائل الإعلام في غزّة قلّصت رواتب موظفيها بنسب تقترب من النصف"، مشيرًا إلى أنّ "الحالة العامّة في البلاد تأثرت بشكل كبير على الموازنات التشغيلية للمؤسسات، إضافة لأنّ الدول والجماعات الداعمة للإعلام الفلسطيني أضحت في الفترة الأخيرة منشغلة في ظروفها الداخلية والإقليمية، وقلصت كثيراً من نسب دعمها التي كانت تعتمد عليها الكثير من المؤسسات في تيسير أمور عملها".
يضيف: "هناك أيضًا أسباب أخرى ذات علاقة بالاحتلال الإسرائيلي الذي لا يتوانى في تضييق الخناق على الفلسطينيين وإخراس أصواتهم الإعلامية التي تخرج للعالم، ويظهر ذلك إذا ما نظرنا لمحاولاته السابقة باستهداف مقرات المؤسسات الصحفية واعتقال العاملين فيها وإغلاق مكاتبها في الضفة الغربية ومصادرة معداتها"، منوهاً إلى أنّه وبعد فشله في كل الطرق السابقة لجأ الاحتلال، مؤخراً، لخنق تلك المؤسسات ماليًا من خلال إحكام الحصار عليها وتجفيف منابع دعمها.
ويبدي ياسين أسفه على الحالة التي وصلت لها مؤسسات إعلامية عملت على مدار سنوات طويلة على تقديم خطاب مهني واضح، بعيدًا عن حالة الحزبية التي يعاني منها الشارع الفلسطيني، إضافة لكونها كانت تمثل بابًا يعبر منه عشرات الصحفيين لصاحبة الجلالة وينطلقون منها نحو المؤسسات العربية والدولية، وقد شكلت تلك المؤسسات على مدار سنوات عملها؛ صوتًا للمواطنين والشباب تعبر عن تطلعاتهم وتعرض مواهبهم وتفتح لهم المجال لأن يكونوا أقرب من كلّ جديد وفقًا لحديثه.
بدوره، يقول مدير مكتب قناة القدس في غزّة عماد الإفرنجي، إن أزمة قناته بدأت قبل خمس سنوات، حيث تراجع التمويل، وبناءً على ذلك "تمّ ترشيد النفقات وتقليص الرواتب، واستمر العمل على هذا الأساس"، موضحًا أنّهم خلال تلك الفترة حاولوا البحث عن حلول منها تحول القناة من البث الفضائي إلى اليوتيوب أو تحويلها إلى قناة وطنية، لكنّ تلك المحاولات فشلت لأسباب لم يرغب بالإفصاح عنها.
ويذكر أنّ نحو 50 موظف وموظفة أصبحوا اليوم بلا عمل، وبعضهم ملاحق بالديون المتراكمة عليه بسبب عدم تلقيه راتب منتظم خلال سنوات الأزمة الخمس، منبهًا إلى أنّ مجلس الإدارة يعمل بكلّ جهد من أجل تسديد مستحقات الموظفين المالية، لكنّه لا يمتلك القدرة على تحديد موعد خلاصها لأنّ ذلك مرتبط بما يتم تحصيله من تبرعات ومنح من الداعمين في الدول العربية والإسلامية.
مع إغلاق القناة، ثمّة ردود فعل عفوية وأسئلة تخرج من الجمهور تزعج العاملين فيها، "إلى أين ستذهبون؟ نحن نتابعكم وننتظركم بشغف. هل سينتهي البرنامج هذا بالفعل؟ هل ستغلق القناة حقاً؟ صحيح أننا لن نعود نتابعك عبر شاشة القدس؟" هذه أكثر رسائل تصل سامي مشتهى، وهو مذيع برنامج "ساعة شباب" إذ بدأ بالعمل منذ ثلاث سنوات مع قناة القدس الفضائية.
ويقول سامي إن إغلاق القناة يأتي في ظل محاولات إسرائيل تكتيم وإحكام حصار قطاع غزّة وإظهارها بؤرة من الموت، كنا نحاول الموازنة في البرامج، نظهر المأساة ونظهر الجانب المشرق الخاص بمدينتنا المحاصرة، وفعلياً، لم نشعر بوجود قنوات تقدّر الموهوبين والموهوبات في فلسطين المحتلّة وفي الشتات في حلقة واحدة.
يشار إلى أنّ قناة القدس تعدّ مؤسسة غير ربحية، تّعرّف عن نفسها بكونها قناة تحمل "خطابا مهنيا غير حزبي، يحمل المشروع الوطني ويعبّر عنه"، وكان الاحتلال الإسرائيلي قد منعها في القدس وفي الأراضي المحتلة عام 1948 كما تعرضت للقصف في غزة وبترت قدم أحد مصوريها، بحسب ما جاء على لسان بعض موظفيها عقب تلقيهم قرار الإغلاق.
صحفيون بلا عمل
وبالحديث أكثر عن حالة الصحفيين الذين تمّ تسريحهم من أعمالهم بسبب أزمات مالية لحقت بمؤسساتهم الصحفية، يشير المصور مؤمن قريقع الذي عمل لأكثر من عشر سنوات في مكتب المركز الفلسطيني للإعلام بغزّة، إلى أنّه "تفاجئ" مع بداية هذا العام برسالةٍ نصية وصلته من إدارة المركز في الخارج، يقع في مضمونها قرار تسريحه من عمله هو وآخرون في بداية شهر فبراير الماضي بسبب أزمةٍ مالية.
ويبيّن أنّه أصبح اليوم بعد قرار تسريحه بلا عمل، "بدل أن يتم مكافأتنا أو تقديم أتعاب لنا على جهودنا المبذولة في تغطية العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزّة ومسيرات العودة، تمّ إبقائنا بلا دخل شهري، دون النظر إلى حالتنا المعيشية والأسرية التي كانت تعتمد بصورةٍ شبه تامّة على مصدر الدخل ذاك"، على حد قوله، ومنوهًا إلى أنّ فرصة تحصيل عمل آخر في ظل الوضع الحالي صعبة جدًا نظرًا لحالة البطالة الشديدة التي يعيشها الوسط الصحفي الغزّي.
وكانت بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني قد كشفت عن أنّ أعلى معدلات البطالة المسجلة في صفوف الطلبة الفلسطينيين، جاءت في تخصص الصحافة والإعلام بنسبة 49,2%، فيما أشارت دراسة أجرتها مؤسسة الصحافة تناولت حالة الواقع الصحفي المحلي، إلى أنّ حوالي 17 قسمًا لتدريس الصحافة والإعلام موجودة في جامعات وكليات قطاع غزّة، تخرج سنويًا أكثر من 1200 طالبة وطالبة، يبقى معظمهم بلا فرصة عمل.
وبالنسبة لموقف نقابة الصحفيين الفلسطينيين من قضية الموظفين الذين تمّ تسريحهم من أعمالهم، يعقّب عضو الأمانة العامّة للنقابة رامي الشرافي بقوله إنّهم يتعاملون مع الشكاوى التي تصلهم كافّة في هذا الإطار، لأنّهم كنقابة لا يمتلكون أيّ أدوات يمكن تفعليها بشكلٍ مباشر دون وجود شكوى لديهم، ومن جانبٍ آخر يروى أنّهم جزء من الواقع ويتفهمون إلى حدٍ ما الظروف التي مرّت بها تلك المؤسسات و"يأسفون" على حالها.
ويوضح الشرافي، أنّهم حاولوا عدّة مرات من خلال الاجتماع مع وزارة العمل ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية، طرح حلول يمكن تبنيها لمساعدة وسائل الإعلام الفلسطينية التي تعاني أزمات مالية، ولتنفيذ برامج عمل تستوعب الصحفيين المسربين بسبب الوضع الاقتصادي، لكنّه ينبّه أنّ هذا الأمر ما زال مجرد دارسات ومحاولات لم تلقَ أيّ اهتمام من الأطراف أو تحرك من الجهات التي تمّ تداولها معها، لافتًا إلى أنّ الحالة الإعلامية بحاجة لتدخل سريع ينقذها من التراجع الذي تعيشه.