ما فتئت الكثير من وسائل الإعلام الدولية -الغربية منها على وجه الخصوص- تقدم صورة مجتزأة عن القارة الإفريقية، بل تكاد تختزلها في كل ما هو سلبي، وباتت بذلك مرتبطة في الذهنية العالمية بكل من "الإرهاب" و"الجوع" و"المرض" و"الفقر" و"الفساد".. إلى آخر القائمة اللامتناهية الموغلة في التشويه.
لا تقصد هذه المقدمة أنه ليس ثمة إرهاب، ولا جوع، ولا فقر، ولا مرض، ولا فساد في إفريقيا، فكل ذلك وغيره موجود في القارة، لكن الأمر ليس بكل تلك السوداوية التي تُقدَّم بها القصص للعالم، إذ هناك جانب آخر مشرق تقتضي الموضوعية إبرازه، حتى لا تكون الصورة كلها قاتمة، ويُفهمَ التناول الإعلامي المبتور على أنه تمّ عن سبق إصرار وترصد.
ويعكس هذا المشهد في جانب كبير منه، عجز الإعلام الإفريقي عن أداء دوره في تقديم إفريقيا للأفارقة وللعالم سلبا أو إيجابا، وفسح بذلك المجال أمام الإعلام الغربي -لأسباب سياسية مرتبطة غالبا بالماضي الكولونيالي- لتصوير إفريقيا من الزاوية التي تخدمه.
بين الوهن والعجز
لم يستطع الإعلام الإفريقي أن يعكس واقع القارة المثخنة بالجراح وبمواطن الألم، الزاخرة بالموارد وفرص الاستثمار والتنمية، رغم التحديات الجمة التي تواجه ذلك.
وتوجد أسباب مختلفة أسهمت في هذا الوضع. فمن جهة، يعتبر الواقع الإعلامي في القارة انعكاسا لمستوى العملية الديمقراطية والحريات العامة وضعف البنية المؤسسية فيها، إذ لم تتهيأ الأرضية بعدُ لممارسة إعلامية جادة، يتحول معها الإعلام إلى سلطة حقيقية، يؤثر ويتأثر بما يجري من حوله.
ومن جهة أخرى، يرتبط هذا الضعف الإعلامي بهشاشة الموارد والإمكانات، وغياب طواقم بشرية مؤهلة، مما جعله يرتهن للواقع، ويفقد القدرة على التأثير.
وأمام هذا الوضع، لم يستطع الإعلام الإفريقي كسب ثقة المواطن المحلي، ولا هو استطاع أيضا أن يتجاوز حدود المحلية ليقدّم إفريقيا للعالم. أكثر من ذلك، فقد ظهر الإعلام غير مستعد لمجابهة الواقع والسعي لتغييره، فالمحاولات ظلت في عمومها ضعيفة ومحتشمة، خوفا من السلطة أو طمعا فيها.
مع ذلك، سعت بعض التجارب لتقديم قصص عن إفريقيا، من خلال تحقيقات جريئة تكشف الواقع الممارس من طرف السلطة، لكنها دفعت الثمن غاليا فيما بعد.
وأمام هذا الجو الموسوم بانحسار حرية التعبير كانعكاس واضح لطبيعة الممارسة الديمقراطية، فُتح الباب على مصراعيه أمام الإعلام الأجنبي، حيث سقفُ الحرية العالي نسبيا، والإمكانات الوفيرة، فدخل القارة من أوسع الأبواب، وقدم واقع إفريقيا لسكانها وللعالم بالطريقة التي يريد، فكسب ثقة الرأي العام المحلي بإماطته اللثام عن كل المسكوت عنه من طرف الإعلام الإفريقي، ففضح الفساد، والدكتاتورية الممارسة في بعض البلدان، وسلط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان، والحريات العامة..
حرية "سوداء"
تشكل الحرية المرسومة حدودُها على المقاس، الكثيرةُ خطوطُها الحمراء ودوائرها المحظورة، ملمحًا آخر من ملامح الأسباب الكامنة وراء ضعف الإعلام الإفريقي، وعدم قدرته على التحول إلى سلطة حقيقية. فالمواضيع ذات الأهمية التي تؤثر في الرأي العام، وتسهم في بناء المؤسسات على أسس صلبة تتجاوز الأشخاص إلى التحصن بالقوانين والنظم؛ غيرُ قابلة للتناول.
لقد ظلت الكثير من الأنظمة الحاكمة في إفريقيا رافضة لفتح الباب أمام التعددية السياسية والإعلامية، متحكمة بذلك في المشهدين السياسي والإعلامي، وهو ما يضمن للرئيس البقاء في السلطة دون إزعاج، وممارسة الشطط في الحكم، والفساد في التسيير، وسوء الحكامة، فالدولة مجرد ضيعة له.
وحين حصل انفتاح أملته الظرفية والواقع، حرص الرئيس الإفريقي على أن يكون هذا الانفتاح محدودا وشكليا، فالخصوم السياسيون يُزج بهم في السجون، وتُزوّر الانتخابات ضدهم، وحرية الإعلام محدودة.
ومن بين المحظورات كرسي الرئاسة، الذي يشكل أحد أكبر عوائق الديمقراطية والتنمية في القارة، حيث الرئيس الإفريقي يعتبره ملكا شخصيا، ولا يزيله منه إلا انقلاب أو موت مباغت، رغم التطور الحاصل مؤخرا في مجال التناوب على السلطة في الكثير من الدول الإفريقية.
ولا مجال للتحقيق في التسيير، ولا في ممتلكات الرئيس، ولا فيما صُرفت فيه موارد الدولة وإمكاناتها.. وغير ذلك من المواضيع التي يشكّل تناولها دافعا مهمًّا لتطوير الديمقراطية والممارسة الإعلامية.
وأمام عدم توفر الإرادة السياسية لدى الحاكم الإفريقي في اعتماد الشفافية كمنهج ونظام، وتوفير الحريات، واحترام حقوق الإنسان، لم يجد الإعلام الإفريقي الطريق نحو أداء الدور المنوط به، وبات هامشيا في الغالب، ومنقسما بين مُشيد بما تحقق، وآخر مقصوص الجناح تعوزه الوسائل والإمكانات والإرادة لأن يكون مختلفا ومؤثرا.
وبين الصنفين، لم يبرز إعلام إفريقي -بالمفهوم العام- قادر على ممارسة دوره بما يستجيب لانتظارات الرأي العام في القارة. وفي ظل اتساع الفجوة الحاصلة بين الواقع والمأمول، ينتظر الأفارقة الإعلام الغربي من أجل أن يكشف عن صفقات فساد أنظمتهم وحجم ممتلكاتها في الخارج، ساحبا بذلك البساط من تحت الإعلام المحلي.
إذن، لم يستطع صانع القرار الإفريقي -لخوفه من تأثير الإعلام- أن يمنح الصحافة حرية تخولها تجاوز تغطية النشاطات الرسمية، إلى كشف المستور عن الملفات التي تهم الرأي العام ويتطلع إلى معرفتها، فالبون الشاسع بين الثراء الفاحش للحكام، والفقر المدقع الذي تعيشه الشعوب، رغم الموارد الكبيرة التي تزخر بها القارة، يجعل الرأي العام الإفريقي يتوق إلى تناول مواضيع تبحث في صميم الأسباب وراء ذلك.
ولعل هذا ما كان أحد الأسباب الرئيسية وراء اندلاع الثورات في عدد من البلدان العربية، كسرت من خلالها الشعوب جدار الصمت، وأكدت على رفضها للممارسات القائمة، وعوّض فيها إعلامُ المواطن الإعلامَ التقليدي، وصارت منصات التواصل الاجتماعي أكثر تأثيرا، وقدرة على مواكبة تطلعات الرأي العام، بل وتوجيهه.
انتفاضات شعبية وثورة إعلامية
لقد حملت الانتفاضات الشعبية التي سقطت على إثرها أنظمة في عدد من بلدان القارة، معها ثورة جديدة على مستوى الإعلام، تمّ من خلالها -أو كاد- تجاوز الإعلام التقليدي، وأضحت وسائل التواصل الاجتماعي أكثر تأثيرا في الرأي العام، وعلى الأنظمة الحاكمة في مختلف بلدان القارة.
فراحت هذه الوسائط الجديدة تتناول المواضيع المصنفة في دائرة المحظور على مستوى الإعلام التقليدي، ورفعت بذلك مستوى الوعي بالحقوق والحريات، رغم أنها لا تخلو من تجاوزات عديدة في بعض الأحيان.
وهكذا، شكلت هذه الوسائط متنفسا للنقاش، وفضاء أوسع لتناول كل المواضيع المغيبة أو المسكوت عنها في الإعلام المحلي الإفريقي، ويمكن القول إنها بذلك رفعت سقف نقاش الشأن العام، وإن ظل ذلك محدودا ومقتصرا على فئات محددة من المجتمعات الإفريقية.
ومع ذلك، فثمة مؤشرات دالة على أن رقعة الوعي في القارة الإفريقية باتت أكثر اتساعا، وتتجه الشعوب نحو أن تكون كلمتها مسموعة. ومن مظاهر ذلك، حصول الكثير من عمليات التناوب السلمي على السلطة خلال العقد الأخير.
لكن الإعلام الإفريقي لم يواكب بما يكفي عمليات التحول الجارية، رغم قطعه خطوات في بعض البلدان. فقبل عام من الآن مثلا (يناير 2020) كان الرأي العام الأنغولي على موعد مع تحقيق استقصائي عالمي شارك فيه صحفيون من 20 دولة -أغلبها غربية- يكشف كيف راكمت إيزابيل دوس سانتوس ابنة الرئيس السابق للبلاد جوزيه دوس سانتوس الذي حكم أنغولا 38 عاما؛ ثروتها التي تقدر بملياري دولار.
فالإعلام الأنغولي -والإفريقي بشكل عام- لم يستطع أن يواكب التحول الذي حصل في البلاد عام 2017 للمرة الأولى منذ 1979، وانتظر الرأي العام حتى جاء الإعلام الغربي وكشف عن حجم الفساد الذي شهدته عقود حكم الرئيس السبعيني، المُجيد للعزف على آلة الغيتار.
وتوجد نماذج عديدة في بلدان إفريقية مختلفة، تبرز مدى تخلف الإعلام الإفريقي عن المستوى الذي يجعله يستجيب للتطلع -داخل إفريقيا وخارجها- إلى أن يكون مصدرا لنقل هموم القارة، وتحدياتها.
ولا شك أن جانبا مهما من تحقيق هذا المبتغى سيظل مرهونا بمدى توفر الإرادة لدى صانعي القرار في القارة، فالطريق الوحيد أمام ذلك يكون بإطلاق الحريات المقيدة، وتشجيع الإعلام على أن يؤدي دوره كسلطة رابعة، تراقب وتتفاعل.
وبطبيعة الحال، يحتاج ذلك إلى أنظمة ديمقراطية تحترم مقتضيات الدساتير، خصوصا فيما يخص الولايات الرئاسية، ومسألة الحريات، فحين تتجذر الديمقراطية كسلوك وممارسة لدى الأنظمة الإفريقية، ستكون الحرية الإعلامية في صدارة الاهتمام، وحينها يُتوخى من الإعلام الإفريقي أن يكون له دور أكثر أهمية وإيجابية.
ويبدو أن بعض بلدان إفريقيا تسير رويدا نحو هذا الاتجاه، رغم المطبات والعراقيل التي تعترض سبيلها، وهو ما يشي بأن الإعلام الإفريقي في المستقبل سيكون دوره أكثر حضورا وقوة.
نماذج صارخة
ليست قضية إيزابيل دوس سانتوس الوحيدة في إفريقيا، وإن كانت الأحدث في التأكيد على عجز الإعلام الإفريقي عن تحقيق تطلعات الرأي العام في القارة، وملامسة أبرز مكامن الاختلال في إدارة حكام إفريقيا لشؤون بلدانهم.
فثمة أمثلة عديدة، بعضها يعود إلى عهد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. أحد تلك الأمثلة الصارخة هو التحقيقات التي نشرها الإعلام الفرنسي عن فساد رئيس إفريقيا الوسطى الأسبق جان بيدل بوكاسا، وعلاقاته الوطيدة ببعض من يتصدرون الشأن العام في فرنسا، ومن بينهم رئيسها الأسبق الراحل فاليري جيسكار ديستان.
الوثائق التي نشرها الإعلام الفرنسي عن تسلّم جيسكار ديستان -حين كان وزيرا للمالية عام 1973- قطعا من الألماس هدية من بوكاسا؛ كانت سببا رئيسيا في هزيمته الانتخابية أمام ميتران، إذ كشفت للرأي العام في إفريقيا الوسطى -وبالأدلة- كيف يتصرف من يدير شؤون بلادهم في موارد الدولة، بينما يعيش أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر.
وفي بلدان إفريقية مختلفة، يتجاوز الفساد الرئيس الحاكم إلى محيطه، في حين يتخلف الإعلام المحلي ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية -دائما- عن الاستقصاء وتتبع الخيوط.
ففي عدد من بلدان القارة، يستغل أبناء الرؤساء نفوذهم لتبديد أموال الدولة ومواردها، وكان الإعلام الغربي والمنظمات الغربية وراء كشفهم، بل وملاحقتهم أمام المحاكم الدولية.
نذكر من هؤلاء مثلا تيودورو نغيما أوبيانغ مانغي، الذي يحكم والده تيودورو أوبيانغ نغيما مباسوغو غينيا الاستوائية منذ العام 1979، فهو متابَع أمام القضاء الفرنسي في قضية "أملاك غير مشروعة"، بعدما قدرت ثروته هناك بأزيد من 107 ملايين يورو.
وتُوجه نفس التهم لجوليان ساسو نغيسو، ابنة الرئيس الحالي للكونغو برازافيل دينيس ساسو نغيسو الذي يتنافس في انتخابات مارس/آذار المقبل.
وقد كشف الإعلام الفرنسي عن شراء جوليان وزوجها قصرا في الضاحية الباريسية بأزيد من 3 ملايين يورو، فضلا عن امتلاك العائلة عشرات السيارات الفاخرة.
وتشمل القائمة -وهي طويلة- عددا من الرؤساء وأبنائهم في فضائح فساد عديدة، تظهر أحد أبشع أوجه التفاوت بين الحاكمين ومحيطهم، والمحكومين وبؤس واقعهم.
وتؤكد كل تلك النماذج وغيرها ضرورة وأهمية قوة الإعلام ومنظمات المجتمع المدني في بناء الديمقراطيات، والوقوف في وجه تغول الأنظمة وفسادها.
إفريقيا إلى اليوم، تفشل في تقديم قصتها للعالم، محترمة السياقات السياسية والثقافية وخصوصيتها الجغرافية أيضا. والطبيعة تخشى الفراغ، أما الإعلام الغربي فيحب الامتلاء ولو بكثير من عدم الفهم وأحكام القيمة الجاهزة.