يٌنظر اليوم للصحف الأمريكية التي نشرت "أوراق البنتاغون" (1) حول جرائم الحرب وتورط الجيش في فيتنام، كقلاع لحرية التعبير، كما يُحسب قرار المحكمة العليا التي أجازت نشرها، انتصارا للديمقراطية الأمريكية.
قبل أربعين سنة، كان هذا الاحتفاء بـ "فرسان الصحافة" وبمتانة التعديل الأول في الدستور الأمريكي، متعارضا مع القيم الوطنية ومنحازا "للشيوعية" التي تبشر بدكتاتورية البروليتاريا. كانوا خونة، فأصبوا وطنيين، وُوجِه نشر الوثائق بضغط شديد وبحملات تشويه من الطبقة السياسية بقيادة الرئيس ريتشارد نيكسون الذي ستسقطه فيما بعد فضيحة "ووترغيت"، بمبرر أن الصحف التي تسعى لنشر هذه الوثائق تضر المصالح القومية الأمريكية في العالم.
لم يكن نقاش الوطنية أو القومية وتأثيرها على التغطية الصحفية مطروحا بحدة، كما كان خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خاصة. أسست الدول المتحاربة لتقاليد تكاد تكون جديدة في الصحافة بالاستعانة بمراسلين حربيين ينقلون مجريات المعارك ويقيسون معنويات الجنود، ويقدمون تحليلات قادة الحروب لمآل المعارك، شريطة أن تميل التغطية للمصلحة القومية قبل الحقيقة. في غبار الحروب، انتعشت البروباغندا على حساب المهنية، وانخرط صحفيون في مؤسسات عريقة في خندق الاصطفافات باسم الوطنية والقومية فضاعت الحقيقة والمبادئ المؤسسة لمهنة الصحافة.
القومية الصحفية
اليوم، يمكن ملاحظة كيف تقوض المشاعر القومية المتولدة عن الغزو الروسي لأوكرانيا المعايير الأخلاقية والمهنية للتغطية الصحفية المتوازنة. هكذا ينشر الصحفي البريطاني جيريمي بوين (2) إرشادات عملية لنُقَط ضعف استهداف الآليات العسكرية الروسية، ويذهب صحفي فرنسي على "تي إف أن "، إلى حد الدعوة إلى جمع التبرعات للمساعدة في شراء الأسلحة للمقاومة الأوكرانية.
قد يكون مفهوما أن يخضع مفهوم الحياد في الصحافة إلى التقييم المهني حينما يرتبط بمواجهة أنظمة مستبدة، والانتصار لروح الصحافة التي تقف إلى جانب الطرف الأضعف، لكن الصحافة الغربية على نحو عام انجرت نحو النزعة القومية التي تلغي الحس النقدي للصحفيين، وتحولهم إلى أدوات بروباغندا ضمن صراع جيوسياسي معقد تشتبك فيه المصالح بالتمثلات الثقافية. كيف يمكن تفسير هذه النزعة القومية التي اجتاحت الصحافة في الغرب عموما وفي أوروبا على وجه التحديد؟
لا يمكن قراءة تخلي الكثير من الصحفيين عن قيم المهنة دون ربطه بالسياق السياسي والثقافي للغرب الذي يشهد صعودا غير مسبوق للحركات اليمينية ذات النزعة القومية. تتغذى هذه النزعة في ظاهرها بالدفاع عن المصالح الوطنية ضمن حدود الدولة المعنية، لكنها في خلفيتها قد تخفي نوازع دينية أو عرقية وأحيانا تعبر عن نفسها بمعاداة كل ما هو أوروبي أي كل ما تقتضيه العضوية في الاتحاد الأوروبي من التزامات مشحونة بمعاداة المهاجرين.
طيلة شهور من المنافسة الشرسة بين المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية، عرفت النزعة القومية تصعيدا كبيرا ليس ضد المسلمين فقط كما في السابق، بل إن دعواتها صار لها أنصار يعبرون عن أنفسهم، تحث على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي حفاظا على الدولة القومية الفرنسية.
في السابق لم يكن للحركات القومية في أوروبا سند شعبي، وظلت دعواتها محصورة في أوساط ضيقة، وهي التي تحمل رواسب الحرب العالمية الثانية وكيف قادت نظرية تفوق العرق الآري الجرماني التي آمن بها هتلر؛ إلى الفتك بـ 60 مليون شخص، بيد أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ووصول ترامب إلى السلطة سنة 2016، أعطى مزيدا من الشرعية لها.
لكن مع الحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا، ربما تغيرت الأمور. تبدو أوكرانيا جزءاً من أوروبا المسيحية، في نظر عدد كبير من الصحفيين الغربيين الذين عبروا بشكل صريح عن أن "أوكرانيا ليست هي العراق أو أفغانستان" وأن سكانها "يركبون نفس سياراتنا". إنها تحيزات عرقية لا واعية، كان يكتمها الضغط الذي تمارسه وسائل التواصل الاجتماعي، والمساءلة التحريرية.
ضمن هذا التفسير تسعف القراءة الثقافية والسياسية لفهم انهيار قيم الصحافة لدى جزء من الصحفيين الغربيين الذين تحولوا إلى "محرضين" و"ناصحين" و"رجال دين" و"مقاومين" بقدرة هائلة على الاستعراض الميداني.
وطنية الأنظمة ووطنية الصحفيين
أطلعت المخابرات الأمريكية، خلال حرب العراق سنة 1991، كبرى وسائل الإعلام الأمريكية، مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست، على المعلومات المنتقاة والمصفاة، ثم نشرت كأنها حقائق ناجزة. وفي حرب العراق الثانية، تماهت الصحافة حتى التي توصف بالمستقلة مع رواية جورج بوش ودونالد رامسفيلد حول توفر صدام حسين على أسلحة نووية وكيماوية.
وصلت المشاعر القومية، يومها، إلى ذروتها، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وتم تقديم صدام بأنه عدو القيم الأمريكية، ولم تسمح هذه "الهيستيريا القومية" لصحفي قرر في لحظة جرأة نادرة أن ينسلخ من الإجماع الوطني بالاستمرار في العمل بقناة "إن بي سي".
قال بيتر أرنيت في حوار مع التلفزيون العراقي إن الخطط العسكرية الأمريكية فشلت وإن "ثمة إحساسا متعاظما بالقومية... وقد أصبحت مقززة". سيطرد بيتر من القناة، بداعي أنه تصرف ضد المصالح الأمريكية الوطنية العليا، وسيتبين في وقت لاحق، على لسان وزير الخارجية السابق في عهد بوش الابن كولن بأول، بأن ذرائع الحرب كانت محض أكاذيب لتبرير الاحتلال.
مفهوم المصلحة الوطنية لدى الصحفي، ليس هو نفس مفهوم المصلحة الوطنية لدى النخبة السياسية، فوسائل الإعلام الفرنسية التي كانت تصف صحفييها بجنود الحلفاء، أخفت الأخطاء الكارثية التي ارتكبها قادة الحرب، التي أدت إلى احتلال باريس في الحرب العالمية الثانية، بل أكثر من ذلك تحولت الصحافة إلى أداة دعائية في خدمة الدولة: اختلفت روايات القتال المنشورة في الصحف الرسمية اختلافا كبيرا عن شهادات ومذكرات الخنادق. في هذه الكتابات الصحفية، يتم تمجيد الجيش الفرنسي كجيش لا يقهر، بينما يتم التقليل من شأن الألمان والسخرية منهم، لا سيما بسبب عدم كفاءة أسلحتهم: هذا ما يمكن على سبيل المثال قراءته في هذه الشهادة: "وانفجرت الشظية بهدوء وسقطت في أمطار غير مؤذية. أما الرصاصات الألمانية فليست خطيرة: إنها تعبر الجسد من جانب إلى آخر دون إحداث أي تمزق! لنكتشف في رسالة جندي أن "القذائف الألمانية ليست بالسوء الذي تبدو عليه (3).
من يحدد تعريف الوطنية؟ هل هي الدولة أم الرأي العام أم القضاء؟ في قضية أوراق البنتاغون، رسم قضاة المحكمة العليا حدود الانتماء الوطني للصحفيين، أي الحدود التي لا ينبغي أن تحجُب فيها المشاعر الوطنية الحقائق وتهدد "حرية المؤسسات". انطلق الاجتهاد القضائي من مبدأ أساسي في حرية التعبير هو حق الجمهور في المعرفة، لأنه يخدم المؤسسات ويساعد على حماية القرار السياسي المبني على المساءلة والمحاسبة.
في الدول غير الديمقراطية، التي ينتمي إليها العالم العربي، تصبح الوطنية مضادة للصحافة وللحقيقة. ذلك أن وظيفة السياسي، وفي غياب سلطات قوية تراقب أداءه، هي الإخفاء، الاجتزاء، التدليس، الكذب، وهي قيم تتعارض مع الوظيفة الحيوية للصحافة: مراقبة السلطة. وظفت الأنظمة السياسية عبارات من قبيل "الأمن القومي"، "الاستقرار"، "القيم الوطنية" "الثوابث"... إلخ، لتأميم مفهوم الوطنية، وسنّت تشريعات جنائية حاكمت صحفيين بتهم تجردهم من الوطنية، كما اغتيل صحفيون آخرون بتهمة معاداة القيم الوطنية السامية.
في سنة 1961، كانت المفكرة الشهيرة حنا آرندت تغطي لصحيفة نيويوركر محاكمة ألفريدو أيخمان، المتهم بالمشاركة في "الهولوكوست"، وبعد سنتين نشرت تقاريرها في كتابٍ، تعرض لهجوم أشبه بمقصلة من شخصيات يهودية في مقدمتها بن غوريون. كانت آرندت يهودية لكنها نظرت إلى المحاكمة من زاوية نقدية، منتقدة أطوار المحاكمة وطابعها الاستعراضي ومحاولة تصوير أيخمان بأنه المسؤول الأول والأخير عن المحرقة.
حظيت المحاكمة بمتابعة صحفية عالمية، أراد خلالها بن غوريون أن يضفي عليها "الطابع المشهدي" (كما كتبت آرندت). بتعبير آخر، لم تُعْمِ القومية والانتماء اليهودي، الكاتبة عن نقل الحقيقة كما هي لا كما يريدها السياسي.
المصادر:
1- https://www.britannica.com/topic/Pentagon-Papers
2- https://twitter.com/BowenBBC/status/1499668674940133378/photo/1
3- https://www.cairn.info/revue-pouvoirs-2001-2-page-109.htm
4- file:///C:/Users/ahdadm/Downloads/%D8%A7%D9%8A%D8%AE%D9%85%D8%A7%D9%86%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3_35151_Foulabook.com_.pdf