كشفت التغطية الإعلامية لمجريات عملية إنقاذ الطفل المغربي ريان من البئر، عن سقوط أخلاقي ومهني كبير. هذه المرة، كان ثمة شعور مختلف رافض لما جرى، لمسه الجميع بعدما تأثروا بخطورة هذا السقوط، ليس فقط على مستوى المهنة والمهنيين، ولا حتى بالنسبة لحق الجمهور في المعلومة الدقيقة وبحثه عنها طوال الوقت وسأمه من عبث التلاعب به عبر العناوين المضللة والمحتوى المفبرك، وإنما على مستوى مشاعرنا وإنسانيتنا سواء كنا في موقع المرسل أو المستقبل. إذ ضغطت الأخطاء الكبيرة بقوة علينا واستنزفتنا وجدانيا بسبب طغيان اللهاث وراء "الترند" الذي كان هذه المرة طفلا يقاوم موتا وشيكا وعائلة مكلومة صارت مأساتها "مجالا للربح المادي والإثارة الرخيصة لزيادة عدد المشاهدات" كما وثق ذلك المجلس الوطني المغربي للصحافة. لكن ما وقع، وبحسب صحفيين ومختصين مغاربة لا يعدو كونه "نقطة في بحر من الخروق والتجاوزات المهنية المتفاقمة" التي لم يأخذ المجلس منها موقفا صلبا.
كيف جرى انتهاك حقوق الضحية وأسرته؟
استعرض المجلس بعض نماذج الخروق التي من المهم التذكير بها، "من قبيل تصوير الطفل ريان في قاع البئر بوجهه الدامي، في وضعية إنسانية صعبة، مما يشكل ضررا لمشاعر عائلته، بالإضافة إلى خرق مبدأ الحق في الصورة وكذا تصوير واستجواب أطفال قاصرين وهم في حالة إنسانية غير طبيعية، جراء التأثر بالحادث المتعلق بمصير حياة طفل قاصر، وكذا نشر صور قاصرين عبر أشرطة مصورة بمحيط عملية الإنقاذ، بغرض الإثارة المجانية، دون الأخذ بعين الاعتبار لوضعيتهم النفسية أو سنهم" مشيرا إلى أنه تم التعامل مع المعلومات والمعطيات المتعلقة بعملية الإنقاذ، بشكل غير مهني، من خلال ترويج أخبار غير صحيحة، وطغيان الهاجس التجاري والتسويقي، دون التأكد من صدق المعلومات... إلخ
تصاعد رفض التلاعب بالجمهور
تبدو حالة الرفض القوية لفجاجة التلاعب بمشاعر الجمهور ليس فقط من المختصين وإنما من الجمهور العادي المستهلك للمحتوى، بسبب وضوح وقائع حالة ريان وعائلته ومعاناتهم الشديدة التي خرجت من نطاق إمكانية حجبها، في ظل تفاعل شرائح أوسع من الجمهور المحلي والعربي مع الحادث الذي تم تسليط الضوء عليه. لكن غيب سؤال أساسي يمثل جوهر المهنة وهو: متى؟ كان الجميع ينتظر إجابة له، بداية من الأسرة وانتهاءا بالمشاهدين أو القراء والمتابعين لصفحات وسائل التواصل التي خلقت حالة من السيولة الناتجة عن تغطية ما يسمى بالناشطين وصفحات البث المباشر التي استمرت قرابة يومين، وهي تردد: "لحظات ويتم الوصول لريان". وإذا كان النشطاء يسقطون في تجاوزات مهنية كثيرة، فإنه لا يجوز أن تنشر وسائل إعلام مغربية، بعضها رسمي، أخبارا بعنوان "بات وشيكا" ولا يجوز، كذلك، أن تنقل عنها وسائل إعلام دولية أكثر احترافا، حتى أن إحداها قالت بالتأكيد اليوم سيتم إنقاذه. اليوم يعني متى؟؟؟ هل بعد ساعة أو بعد عشر ساعات، ولو لا قدر الله لم يتم ذاك اليوم، هل علينا أن نثق في تغطيات مقبلة لتلك الوسائط؟
ما وقع أثناء تلك التغطية يدق ناقوس خطر كبير يتصاعد بشكل تراكمي، ما قد يؤدي إلى انجراف الإعلام التقليدي بما لديه من تقاليد مهنية متوارثة وقواعد عمل ثابتة وراسخة تقدس الدقة وتحتفي بالمعلومة الكاملة الصحيحة حتى لو كانت متأخرة في توقيت صدورها، لتتراجع خلف أشكال غير نمطية من التغطية تفتقد إلى كل ما سبق. وكان من المفترض أن الوسائط الوازنة حذرت من أخطاء سابقة تعتري هذا النوع من المحتوى الذي ينشر بلا قواعد ناظمة لمنتجه ومحتواه الذي عملت وسائل الإعلام التقليدية على كشف تهافته عبر آليات التحقق من الأخبار وكشف الإشاعات والأخبار الكاذبة والمزيفة والمضللة.
دورك كمستهلك
سلطت واقعة وتغطية إنقاذ ريان الضوء على التحديات المهنية التي تجابه الصحافة المعاصرة وأهمية الرصانة والدقة وأخلاقيات المهنة، ليس على مستوى المهنة ومن يعملون بها فقط، بل على مستواك أنت كقارئ أو مشاهد، حيث صار عليك أن ترفع صوتك وتدافع عن حقك في مقاومة كل محاولات التلاعب عبر العناوين الكاذبة غير المعبرة عن المضمون بحثا عن أكبر عدد من المشاهدات، خاصة أنك تألمت وعايشت خطورة التلاعب بمشاعرك بينما يعدك هؤلاء عبر محتوى لا علاقة له بالمضمون بـ"ثوان فقط عن إخراج الطفل ريان".
وبينما شابت العملية فوضى إعلامية واضحة رافقت محاولات الإنقاذ الجبارة كمية شائعات رهيبة وصلت بإحدى الناشطات أن نقلت بأن الطفل مات قبل يوم من صدور بلاغ رسمي أو حتى وصول طاقم الإنقاذ إليه. تطرح تلك الإشكالية أسئلة مهمة حول كيف يمكن مواجهة الشائعات في تغطيات مثل هذه؟ أين الدور الفعال لخلية اليقظة المكلفة بالتعامل مع الإعلام؟ لماذا لم تقض على الشائعات؟ وكيف يمكن مواجهتها في مهدها دون المساس بالحريات؟ هذه أسئلة ثقيلة، وإجاباتها تقتضي توسعا في البحث في عالم عربي مأزوم على مستوى صحافته وصحفييه المهنيين ممن تطاردهم السلطات وتضيق عليهم بينما تترك المجال لآخرين يرتكبون كل أنواع المخالفات.
أمام كل هذه المعطيات، لماذا لم يأخذ التلفزيون المغربي دوره بشكل فاعل في نقل الحدث بمهنية؟ الإجابة: أن الوسائط الرسمية لو كانت تعمل بمهنية وفي مناخ حر وتمتلك أدوات العصر الرقمي قبل تلك الواقعة، لأكملت وأبدعت في نفس المسار. بيد أنه بسبب تراكم تاريخ طويل للإعلام الرسمي في نقل وجهة نظر واحدة عربيا وليس مغربيا فقط، صارت فاقدة للنفاذ والمصداقية والقدرة على المنافسة، في ظل تركيزها على أمور أخرى تجعلها في خدمة السلطة.
هل يمكن الارتكان للإعلام البديل؟
منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي دعا كثيرون لأن يكون الإعلام البديل موطئ قدم حتى أصبح الإعلام الأصيل ينقل عنها كما يقول الصحفي المصري عبد الله مهران، وهو ما نجده في محتوى مكتوب وإلكتروني ومرئي مخصص لنقل ما يجري وكأن المستهلك عاجز عن الوصول إليه بنفسه. وهنا يصف مهران خبر إنقاذ ريان بالمثال الصارخ على غياب أبجديات الإخبار في العالم العربي.
كما أظهرت، أيضا، أن وسائط المهنة التقليدية تتراجع لتخلق فراغا خطيرا في عقل الجمهور.
لكن المشكلة الأكبر أن وسائل الإعلام خاصة المحطات الكبرى ضخمت الخبر واستنزفت مشاعر المتابعين بذات الوعود بأنهم وصلوا للطفل "وينقصهم كذا"، لمدة تقترب من يومين كما رصدت الصحفية السورية سعاد خبية، قائلة: "العملية باختصار ترتبط برفع مستوى مشاهدات ليس غير، وعبارة عن استثمار بالترند".
أدى ذلك إلى تغييب معايير اختيار خبر رئيسي وراء محاولات محمومة لمنافسة من يقومون بالبث في الميدان واستقطاب بعض من جمهورهم الكبير وسهل الوصول وقوي التفاعل، إذ إن تغطيات مثل هذه تبدو جيدة للصحف والمواقع المحلية، وأقصد هنا الصحف التي تصدر في الجهة التي شهدت سقوط ريان في البئر؛ إذ يمكن لها أن تصدر نسخها المطبوعة بمانشيتات كبيرة بحثا عن بيع المزيد منها، كما يمكن أن تغطي المواقع الإلكترونية على مدار 24 ساعة، غير أنه على مستوى الدولة والعالم العربي تصنف قصة إنسانية فرعية لوجود أحداث أخطر وأكثر تأثيرًا على شرائح أكبر من الجمهور يجب البحث عنها وإبرازها. وبالتالي يمكن أن تصبح واقعة ريان رئيسية وقت حدوثها وعند إنقاذ الطفل، والذي حدث أنه كان ثمة تكرار ممل بلا قيمة إعلامية مضافة وإسراف في التغطيات المفتوحة التي لم تطرح وقتها أسئلة عميقة وجادة حول مسؤولية جهات حكومية محلية في الوقاية من وقوع تلك الحوادث وكيف تتم مجريات عملية الإنقاذ فنيا ولماذا لم تستعن الدولة بخبرات دولية؟ والأهم من كل ذلك القيام بدورها في بث أخبار دقيقة وكشف الوسائط المضللة وهو ما لم يقع في ظل التركيز على أمور من قبيل التحليل والرأي وبدعة الخبراء ممن يقدمون آراء أشبه بالتنجيم يغرقون بها المشاهدين، بعضها قد يصيب وأغلبها يخطئ، ما أسفر في النهاية عن تورط وسائل إعلام رصينة في ترويج شائعات من قبيل تم الوصول لريان عبر فريق طبي، لتزيد وطأة التلاعب بمشاعر الجماهير التي توقعت خروجه حيا والأفظع من ذلك تصور كيف كانت تشعر العائلة كلما تناهى إلى مسامعها تلك الآراء.
الخلاصة أن ما جرى يكشف حجم التراجع الذي تعيشه المهنة عربيا في ظل أخطاء وانتهاكات وتغطيات موسعة وقليلة التكلفة من ناحية العمق والكشف وبالتالي يمكن وصفها بالمطلوبة وظيفيا للسلطات التي تضيق الخناق على صحفيين يطرحون أسئلة جادة بحثا عن إجابات قضايا لا يود أحدهم تسليط الأضواء عليها.