وجد الجمهور العربي نفسه غارقا في طوفان من الأخبار العاجلة التي تنهال على رأسه ليل نهار، وبصورة مزعجة، سواء على شاشات التلفزيون، أو في المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي، خاصة أن تلك الأخبار تأتي في شريط أحمر ينذر القارئ أو المشاهد بأن ثمة شيئا خطيرا قد حدث! كما تفاقمت هذه الظاهرة بعد انتشار جائحة كورونا، ووصلت إلى ذروتها بالتزامن مع الحرب الروسية على أوكرانيا، حتى فقد العاجل معناه.
وقد تابعت منشورات على مواقع التواصل، يشتكي أصحابها من محاصرتهم بكلمة (عاجل) طوال الوقت، ويؤكدون أن ذلك أدى إلى عزوفهم عن متابعة الأخبار من الأساس، خاصة مع إنشاء الفضائيات الإخبارية حسابات لبث الأخبار العاجلة على تويتر. هذا العزوف سيخلق مشكلة إضافية، لأن الأخبار العاجلة المهمة فعلا ستضيع وسط طوفان الأخبار المنشورة. فما هي أبرز مظاهر المشكلة وأسبابها، وكيف يمكن ترشيد بث الأخبار العاجلة؟
أخبار عاجلة غير مهمة!
بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا المستمرة إلى اليوم، وجد الجمهور العربي منصات إخبارية تنقل له أخبارا عاجلة حول كافة التطورات الميدانية والسياسية المتعلقة بالحرب، مهما كانت صغيرة أو غير مهمة لا تستحق أن يفرد لها خبر عاجل من الأساس. على سبيل المثال، نُشرت أخبار عاجلة تتحدث عن سيطرة القوات الروسية على قرية صغيرة لا تمثل أي أهمية عسكرية أو استراتيجية. كما نُشرت أخبار عاجلة عن تطورات محلية في أوكرانيا لا يهتم بها الجمهور العربي، مثل استقالة نائب وزير تنمية المجتمعات والأقاليم الأوكراني، أو إعلان عمدة كييف فرض حظر للتجوال من الساعة 8 مساء وحتى السابعة صباحا، فهذا خبر لا يهم إلا سكان العاصمة الأوكرانية، أو تصريح لنفس المسؤول يفيد بإصابة شخص واحد جراء انفجار في مصنع بالعاصمة، فهذا خبر صغير للغاية في مجريات المعارك ولا أهمية له، خاصة أن هذا الحدث وقع نهاية فبراير/شباط 2023، أي أن المنصة التي نشرته رأت أن هذا الحدث الصغير سيثير اهتمام الجمهور بعد مرور أكثر من عام على اندلاع الحرب. إنه قصور كبير في رؤية المؤسسة أو القائمين على إدارتها.
أخبار عاجلة لا جديد فيها!
أصبح بديهيا أن الولايات المتحدة والدول الغربية تعارض الهجوم الروسي لأوكرانيا، وأنها تدعم كييف بالسلاح والتدريب والأموال. وبالمقابل، تطلق روسيا اتهامات بحق أوكرانيا والغرب وحلف شمال الأطلسي (ناتو) باستمرار. لذلك لا معنى لبث خبر عاجل، عبارة عن تصريح لوزير الخارجية الأمريكي مثلا، يقول فيه إن بلاده تدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا! فهو تصريح لا يحمل أي جديد، أما إذا أعلن الوزير عن مساعدات جديدة مثلا، فهنا يستحق التصريح أن يُفرد له خبر عاجل.
تأكيد المؤكد وشرح البديهيات
بعد فوز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفترة رئاسية ثانية، نشرت منصة إخبارية تصريحا "عاجلا" لماكرون يقول فيه إن الأغلبية اختارت أن تعيد الثقة فيه! وبعد اكتشاف منطاد صيني في الأجواء الأمريكية وإعلان السلطات تعقب مساره باستمرار، نُشر تصريح عاجل لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) مفاده أن الجيش الأمريكي يواصل تعقب المنطاد! رغم أنه من الطبيعي أن وزارة الدفاع في أي بلد يجب أن تفعل ذلك، أي أنها ببساطة تقوم بعملها وتؤدي واجبها، لذلك فلا وجه لأي غرابة أو مفاجأة في التصريح حتى يُصنف خبرا عاجلا. هذان المثالان يوضحان الكثير من الأخبار التي تنشر باعتبارها عاجلة، رغم أنها لا تتعدى كونها تشرح بديهيات وتؤكد المؤكد.
خطاب كامل عاجل!
من ضمن المظاهر المعبرة عن المشكلة، قيام صفحات الأخبار العاجلة التابعة للفضائيات الإخبارية بتقسيم تصريحات المسؤولين أو خطاباتهم أو بياناتهم إلى مقتطفات، ونشرها كاملة تحت بند الأخبار العاجلة، مهما كانت تصريحات المسؤول مكررة لا تقدم أية إضافة على ما هو معروف سلفا.
من ضمن المظاهر المعبرة عن المشكلة، قيام صفحات الأخبار العاجلة التابعة للفضائيات الإخبارية بتقسيم تصريحات المسؤولين أو خطاباتهم أو بياناتهم إلى مقتطفات، ونشرها كاملة تحت بند الأخبار العاجلة.
آراء عاجلة
قد يكون مفهوما أن تنشر وسيلة إعلام خبرا عاجلا عن موقف لدولة أو مؤسسة ما تجاه قضية ملحة، حتى لو لم يكن هذا الموقف يحمل جديدا. لكن بعض المنصات تبث أخبارا لا تحمل معلومات أو مواقف، بل تمثل آراء ووجهات نظر ليس لها اعتبار في سياق الأحداث، مثل نشر تصريح لمتحدث باسم البنتاغون يقول فيه إن "الغزو الروسي لأوكرانيا يمثل هجوما على النظام العالمي المبني على احترام سيادة الدول". فهنا لم يعلن المتحدث عن موقف بلاده أو وزارة الدفاع الأمريكية، ولم يدل بأي معلومة، بل برأي لا مكان له في الأخبار العاجلة.
بعض المنصات تبث أخبارا لا تحمل معلومات أو مواقف، بل تمثل آراء ووجهات نظر ليس لها اعتبار في سياق الأحداث، مثل نشر تصريح لمتحدث باسم البنتاغون يقول فيه إن "الغزو الروسي لأوكرانيا يمثل هجوما على النظام العالمي المبني على احترام سيادة الدول".
أخبار عاجلة مكررة
مع استمرار الحرب الأوكرانية، تشابهت الأحداث الميدانية بسبب موجات الكر والفر التي تشهدها الحروب عادة، لكن وسائل إعلام استمرت في التعامل مع تلك التطورات على أنها أخبار مهمة، وكأننا ما زلنا في بداية الحرب، مثل بث خبر عاجل عن دوي انفجار في كييف، حتى دون توضيح تفاصيله أو ملابساته. مثل هذا الانفجار حدث آلاف المرات منذ اندلاع الحرب، ولم يعد يمثل جديدا، وليس له دلالة في حد ذاته، ولذلك لا مجال له في الوقت الحالي.
أخبار عاجلة لساعات
تقتصر هذه المشكلة على الفضائيات الإخبارية لا المنصات الرقمية، إذ يبقي بعض الصحفيين شريط الخبر العاجل لفترة طويلة - قد تصل إلى عدة ساعات - على الشاشة. وقد يبث الخبر ويرفع من الشاشة، ثم يظهر مرة أخرى على الشاشة بعد فترة طويلة على سبيل تذكير المشاهدين بتطورات اليوم، لكن بنفس شريط العاجل، وهو ما يؤدي إلى إرباك المشاهد الذي فتح التلفزيون للتو، فيتصور أن الخبر قد حدث في نفس اللحظة، وبالتالي تختلط الأزمان والأوقات ولا يستطيع المشاهد تكوين مسار زمني واضح لتطور الأحداث.
امتداد الأحداث
في الأحداث الساخنة التي تستغرق وقتا قصيرا (من عدة ساعات إلى أيام)، يهتم الجمهور بالفعل بمعرفة كافة التطورات مهما كانت صغيرة، ويجذبه شريط الأخبار العاجلة حتى لو تجدد كل دقيقة، لكن بشرط أن تتوقف المؤسسة الإعلامية عن ذلك المعدل من التحديث فور انتهاء الحدث، وتعود إلى المعدل الطبيعي لبث الأخبار العاجلة. إلا أن بعض الأحداث تستمر لوقت طويل وتتحول إلى روتين يومي طبيعي. ومع ذلك، تصر بعض الفضائيات والمواقع الإخبارية على اتباع نفس السياسة. وقد كانت حرب أوكرانيا فاصلة في إظهار تلك المشكلة، بعد امتدادها لأكثر من عام، وبالتالي برزت الحاجة الملحة إلى تعامل مختلف مع تطوراتها.
الاقتطاع من السياق
تسبب قيام صفحات الأخبار العاجلة على منصات التواصل الاجتماعي بتقسيم تصريحات المسؤولين إلى مقتطفات ونشرها في تصوير العديد من المسؤولين باعتبارهم حمقى. فقد بثت منصة إخبارية تصريحا عاجلا لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يقول فيه إن الغرب يسعى لهزيمة روسيا! بالتأكيد سيبدو هذا التصريح غبيا وستثير قراءته منفصلا موجة من السخرية، لأن وزير خارجية روسيا يصرح بأمر بديهي، لكنه في الحقيقة صرح بذلك في إطار سياق أوسع لشرح رؤية بلاده تجاه الحرب في أوكرانيا، لكن اقتطاع كلامه بهذه الطريقة أوحى بعكس ما أراد إيصاله للجمهور. وتكمن المشكلة هنا في أن هذا التصريح لم يكن يستحق النشر من الأساس، لأنه لم يكن يحمل جديدا، ويمكن أن ينشر في إطار الأخبار والتصريحات العادية، لكن شهوة بث الأخبار العاجلة جعلته يظهر بهذا الشكل الساذج.
عواجل "غير ديمقراطية"!
نأتي إلى النوع الأخير من الأخبار العاجلة، وأقلها أهمية من حيث المحتوى، لكنه يلعب دورا في عملية إغراق الجمهور، لأن وسائل الإعلام الحكومية - وهي كثيرة - هي التي تضطلع به. ويتمثل هذا النوع في بث الكثير من الأخبار عن المسؤولين الرسميين، ورصد تحركاتهم وسكناتهم. فهناك خبر عاجل عن وصول المسؤول الفلاني إلى احتفال ما (غير مهم على الإطلاق)، ثم عاجل ثان عن بدء فعاليات ذلك الاحتفال، وثالث عن بدء المسؤول إلقاء كلمته، ورابع وخامس وسادس عن أهم المقتطفات في كلمته (غير المهمة بدورها) ثم عواجل أخرى عن إنهائه كلمته ثم مغادرته المكان، إلى درجة أن وكالة أنباء رسمية نشرت خبرا "عاجلا" لمشتركيها حول العالم عن قيام رئيس الدولة بالتقاط صور تذكارية مع مشاركين في احتفالية كان يحضرها، باعتباره خبرا يمكن أن يهم المشتركين في الوكالة، كما نشرت صحيفة خبرا عاجلا آخر عن قيام الرئيس بممازحة أحد وزرائه!
جانب آخر من المشكلة تمثله وسائل الإعلام في الدول غير الديمقراطية، يتمثل في بثها أخبارا عاجلة في مجالات غير سياسية، تشمل الفن والرياضة والغناء، وهو أمر غير متعارف عليه في مفهوم الأخبار العاجلة، عدا بعض الأحداث النادرة، مثل إعلان جوائز الأوسكار، أو فوز منتخب ببطولة كأس العالم، أو فوز فريق بدوري أبطال أوروبا. ويعود السبب في ذلك إلى أن الإعلام في تلك الدول يكون مقيّدا وممنوعا من تقديم تغطيات جادة أو مفيدة في المجال السياسي، لذلك يلجأ إلى مجالات أخرى لجذب الجمهور. فنجد خبرا يتحدث عن تعاقد ممثلة لتقديم برنامج رمضاني، وخبرا آخر عن بدء عزاء والد ممثلة مغمورة، بالإضافة إلى عشرات الأخبار المشابهة يوميا.
سطوة الوكالات
يستسلم بعض الصحفيين لسطوة الوكالات الإخبارية العالمية ويدمنون على بث أخبارها ويحوّلون منصاتهم إلى ناقل حرفي لأخبارها، بسبب كسلهم أو عدم كفاءتهم. فإذا اعتبرت وكالة ما أن الخبر عاجل، اعتبره الصحفي كذلك وبثه كما هو، حتى لو كان الخبر يتناول منطقة بعيدة عن اهتمامات الجمهور العربي، وحتى لو كان للوكالة هدف من بث الخبر يتعارض مع السياسة التحريرية للمؤسسة الإعلامية التي يعمل بها الصحفي، فالوكالات لها أجندات أيضا مثل باقي وسائل الإعلام.
يستسلم بعض الصحفيين لسطوة الوكالات الإخبارية العالمية ويدمنون على بث أخبارها ويحوّلون منصاتهم إلى ناقل حرفي لأخبارها، بسبب كسلهم أو عدم كفاءتهم.
تضارب المفاهيم
يخلط بعض الصحفيين في الفضائيات بين العمل التلفزيوني ومفهوم وكالات الأنباء، فالأخيرة لابد أن ترصد وتنشر كل الأخبار، كبيرة كانت أو صغيرة، بينما ليس مطلوبا من الفضائيات أن تؤدي هذه الوظيفة، بل المطلوب انتقاء الأخبار ومعالجتها صحفيا وتلفزيونيا وتقديم وجبة إخبارية مناسبة لجمهورها الذي تخاطبه، لكن البعض يريد تحويل الشاشة إلى وكالة أنباء.
التخصص
نتج عن اهتمام الفضائيات والمنصات بالأخبار العاجلة، تعيين فرق عمل متخصصة في رصد الأخبار العاجلة ونشرها، وهو ما أدى إلى رغبة تلك الفرق في إثبات أهمية عملها. وبما أن أياما عدة قد تمر دون وقوع حادث كبير مهم، كان الحل في التضخيم من أهمية الأخبار العادية ومنحها خطورة لا تستحقها، ومع حاجة تلك الفرق إلى العمل لدوام كامل، تضخمت الآلاف من الأخبار العادية وصارت معظمها عاجلة، بسبب رغبة الصحفيين في تأكيد دورهم المهم لإدارات المؤسسات الإعلامية التي يعملون لحسابها.
المنافسة الإعلامية
عندما تتمكن فضائية من إجراء مقابلة مع ضيف مهم، فإنها تبث تصريحاته لها على شكل أخبار عاجلة، إمعانا في إبراز أهمية المقابلة ومحتواها، وأيضا بهدف تسجيل نقاط على حساب منافسيها أمام الجمهور، حتى لو لم تحمل هذه التصريحات جديدا عن مواقف الضيف السابقة.
البحث عن حل
يجب أن تراجع المؤسسات الإعلامية سياستها الخاصة بالأخبار العاجلة، وتحدد معايير واضحة لتلك الأخبار، على أن يتولاها صحفيون كبار من ذوي الخبرة العميقة، لتقييم ما إذا كان الخبر يستحق تصنيفه باعتباره عاجلا أم لا.
يمكن كذلك الاستعانة بتجارب المؤسسات الإعلامية الرائدة على مستوى العالم، وتبادل الخبرات معها في هذا الشأن. على سبيل المثال، وضعت إدارة شبكة سي إن إن الإخبارية الأمريكية دليلا لكتابة الأخبار العاجلة؛ لمعالجة الاستخدام المفرط لشريط الأخبار العاجلة عبر قنواتها، والحد من نشرها بكثرة.
وقال المدير التنفيذي للشبكة كريس ليخت في مذكرة حصل عليها موقع أكسيوس "يجب أن نركز على إعلام مشاهدينا، لا إثارة ذعرهم"، مضيفا أن شريط الأخبار العاجلة "أصبح عنصرًا أساسيًا في كل قناة وشبكة بحيث فقد تأثيره على الجمهور".
ولتحقيق تلك الرؤية، عيّنت سي إن إن فريقا لوضع معايير الأخبار العاجلة في كتاب أسلوب الشبكة "لمحاولة جعل كلمة الأخبار العاجلة تعني أن شيئًا كبيرًا يحدث". ويمكن القول إن هذه رؤية يمكن لوسائل الإعلام العربية استلهامها والبناء عليها بما يتناسب مع الجمهور العربي.