أُقرُّ وأنا أكتب هذه المذكرات، بصفتي صحفية تعمل في ظل الحرب الدائرة في السودان منذُ أكثر من عام، أنني لم أنجح في تغطية سوى واحد بالمئة من آثار الحرب على المدنيين. وقد كنتُ شاهدةً على انتهاكات وقعت بحقهم في مناطق الحرب، وفي أوقات أخرى كنتُ جزءا من القصة، وهو ما ضاعف من أعبائنا في البحث عن الحقيقة وعن دورنا بوصفنا صحفيين يتوجب عليهم أن يكونوا صوتا للمُغيبين المنتهكة حقوقهم من أطراف الحرب.
وتكاد تكون هذه هي المرة الأولى التي نحمل فيها وزر الحقيقة؛ فالواقع الذي خلّفتُه حرب السودان يحول دون ممارسة الصحفي لعمله كما يجب. لقد أصبحت ممارسة الصحافة تهمة.
أُقرُّ وأنا أكتب هذه المذكرات، بصفتي صحفية تعمل في ظل الحرب الدائرة في السودان منذُ أكثر من عام، أنني لم أنجح في تغطية سوى واحد بالمئة من آثار الحرب على المدنيين.
15 أبريل/ نيسان 2023
كان اليوم الأول للحرب في السودان هو صافرة البداية لما نعانيه حاليا نحن الصحفيين. كنتُ في مدينة بحري بالقرب من معسكر يتبع لقوات الدعم السريع. الساعة تجاوزت التاسعة صباحًا بقليل: أصوات طلقات الرصاص، انتشرت العربات العسكرية التابعة للدعم السريع عند مدخل جسر شمبات الرابط بين مدينة بحري ومدينة أم درمان. أُطلق الرصاص بكثافة في الهواء، مُنع المدنيون من العبور، ركض الناس يمينا ويسارا، وحتى تلك اللحظة لم يع أحدٌ ما حدث، قُتل من قتل، وهرب من هرب، وأغلق الجسر أمام المارة.
انقطع التيار الكهربائي وشبكة المياه. ارتكزت قوات الدعم السريع بالقرب من أبواب المنازل، كنتُ أنقل الأخبار العاجلة للمنصة التي أعمل بها ما إن تبدأ أصوات الاشتباكات وأنا مُستلقية على الأرض.
عاجل: الطيران الحربي التابع للجيش السوداني يحلق وقوات الدعم السريع تطلق المضادات الأرضية، أكتب الخبر بيدين مُرتجفتين تحت وقع القصف والاشتباكات للمرةِ الأولى في حياتي.
بعد يومين من بدء الحرب انتشرت أخبار تتحدث عن قصف طيران الجيش لمعسكر الدعم السريع وعن سيطرة الجيش، ولم يكن أيّ من ذلك صحيحا، وحتى الآن يسيطر الدعم السريع على هذه المواقع، وهو ما أبرز تحديًّا آخر في عملنا الصحفي؛ أقصد نقل بعض الأخبار عن العمليات العسكرية يتطلب قربك من مكان الحدث، ولا يمكن الاعتماد بالكامل على شهود العيان؛ إذ كان يُدلي بعضهم بإفاداته وفقًا لانتمائه إما للدعم السريع وإما للجيش وليس وفقا للواقع على الأرض. كذلك لم تكن المصادر العسكرية دقيقةً في إفاداتها؛ إذ يسعى كل طرف أحيانا للترويج لواقع عسكري لا شواهد له على الأرض.
نقل بعض الأخبار عن العمليات العسكرية يتطلب قربك من مكان الحدث، ولا يمكن الاعتماد بالكامل على شهود العيان؛ إذ كان يُدلي بعضهم بإفاداته وفقًا لانتمائه إما للدعم السريع وإما للجيش وليس وفقا للواقع على الأرض.
وبما يتعلق بالوجود في مناطق الأحداث، فإن واقع الحرب يثبت في السودان أن ذلك يمثل مخاطرةً كبيرة؛ ذلك أنه قتل عددا من الصحفيين والإعلاميين على نحوٍ مُتعمد، وتعرض آخرون للاعتقال والإخفاء القسري والتهديد.
خروج قسري
بعد حوالي خمسة أيام اضطررنا إلى اتخاذ قرار مغادرة المنزل، نفد الماء والطعام، أخفيتُ كل ما يشير إلى هويتي الصحفية. ما رأيتهُ فور خروجي من المنزل كان يستحق التوثيق عبر التصوير، وكانت هذه مهمة مستحيلة مع انتشار قوات الدعم السريع.
فارغ الرصاص يملأ الأرض، حواجز على جانبي الطريق، اشتباكات متقطعة تعلو وتيرتها وتنخفض، دخان الحرائق من اتجاه القصر الجمهوري يملأ السماء، الناس يحاولون الفرار من مناطق الاشتباكات وآخرون جلسوا على الأرض بلا مبالاة. في الطريق إلى ولاية الجزيرة انتشرت حواجز على طول الطريق لقوات الدعم السريع، وهو ما يناقض وقتئذ أخبارا عن محدودية انتشارهم.
لا يمكن للصحفي أن يكون حاضرا في ظل الحرب في أكثر من مكان لتغطية الحدث، وتضاءلت فرص الاعتماد على شهود العيان والمصادر ما ضيق على الصحفي فرص نقل الأحداث اعتمادا على وسائل كانت موثوقة قبل الحرب.
تظل الجهات الرسمية في الدولة من متحدثين باسمها أو الوكالات التابعة لها مصدرا رئيسا للمعلومات، ولكن غيابها كان بارزا منذ بدء الحرب. وصار الحصول على المعلومة من الصعوبة بمكان، لا توجد إحصاءات دقيقة أو سرعة في نقل المعلومات وفق ما يقتضيه واقع الحرب في السودان، وبات وقت إنجاز أيّ مادة صحفية يتوجب فيها استقاء المعلومات من المصادر الحكومية أطول من اللازم، على سبيل المثال أنجزت مواد صحفية قبل الحرب كانت تستغرق وقتا ما بين 24 ساعة إلى 48 ساعة، وبعد الحرب ما بين أسبوع إلى عشرة أيام.
شبكات الاتصال والكهرباء
مع تأثير الحرب على قطاع الكهرباء، تذبذبت جودة الكهرباء والإنترنت وساءت خدماتها ليجعل ذلك عددا من المناطق خارج دائرة التغطية الإعلامية، كما هو الحال على سبيل المثال في ولاية الجزيرة وسط السودان. ومع انتقالي إليها من ولاية الخرطوم، اضطرني ضعف خدمات الاتصال وانقطاع الكهرباء إلى الخروج من المنزل يوميا والبقاء لحوالي 5 ساعات بالقرب من أراضٍ زراعية تتوفر فيها شبكة التقاط أقوى للإنترنت والمكالمات.
وبعد سيطرة الدعم السريع واجتياحه ولاية الجزيرة وقراها، بات من الصعوبة بمكان الخروج إلى المزارع، فلجأتُ إلى أسطح المنازل لوضع جهاز الواي فاي المحمول عليها، متنقلة بالجهاز من سطح لآخر في ظل تذبذب الخدمات، وقد أثر ذلك على أدائنا الصحفي وأهمية نقل المعلومة في وقتها؛ فعوضا عن ممارسة عملنا الصحفي في نقل الحدث وتملك المعلومة، صرنا خارج دائرة الحدث وما يترتب عنه.
انتهاكات الحرب
أوقنُ تماما أن هناك آلاف القصص الإنسانية المُغيبة في حرب السودان التي لا تحظى بالتغطية الكافية في وسائل الإعلام المحكومة بالانحيازات التحريرية. ومن التحديات الأساسية أن الصحفي أصبح يتعرض لضغوطات من أطراف الصراع لإعلان الولاء لها، وهو ما يخالف تماما معايير العمل الصحفي بالانحياز لطرف دون آخر؛ ذلك أن مهمتنا بصفتنا صحفيين تقتصر على نقل المعلومة ووضع القارئ أو المشاهد في قلب الحدث، أو عرضها في أي من القوالب الصحفية.
وفيما يتعلق بالانتهاكات التي تقع تجاه المدنيين، يتوجب على الصحفيين الذين يحاولون تسليط الضوء عليها الاختباء وراء أسماء مستعارة، أو باسم الوكالة والمؤسسة الإعلامية التي يشتغلون فيها، وقد اضطررت إلى ذلك أكثر من مرة. ويضاف إلى ذلك امتناع شهود العيان الذين تعرضوا لانتهاكات عن الحديث عن قصصهم وهم في مناطق سيطرة أيّ من تلك القوات (الدعم السريع، الجيش) لضمان سلامتهم، وسيكون علينا الانتظار حتى وصولهم إلى مكان آمن إن تمكنوا من المغادرة أحياء، وبموتِ بعضهم غُيبت كثير من القصص والحقوق.
تهمة أن تكون صحفيا
كنتُ مجبرةً على إخفاء هويتي الصحفية خلال وجودي في مناطق سيطرة الدعم السريع أو وأنا خارجةٌ منها، وقيّد ذلك من فرص عملي على تغطية الأحداث في مناطق وقعت فيها انتهاكات؛ فإخفاء هويتي الصحفية حتم عليّ اللجوء إلى وسائل أخرى لاستقاء المعلومات والأحداث، وساعدني في ذلك أنني كنتُ في كثير منها جزءا من الحدث؛ بالنزوح والنوم على الطرقات، أو بأن أكون عالقة بين اشتباكات الجيش السوداني والدعم السريع، ولم تتح لي أحيانا سوى فرصة الإنصات من دون أن أطرح الأسئلة والالتزام بالصمت وتخزين المشاهد في ذاكرتي دون اللجوء إلى التصوير الذي يضعنا في دائرة الشبهات أو الاتهام بالتجسس لصالح طرف ضد آخر.
إخفاء هويتي الصحفية حتم عليّ اللجوء إلى وسائل أخرى لاستقاء المعلومات والأحداث، وساعدني في ذلك أنني كنتُ في كثير منها جزءا من الحدث؛ بالنزوح والنوم على الطرقات، أو بأن أكون عالقة بين اشتباكات الجيش السوداني والدعم السريع.
ختاما، أوقن تماما أن هناك آلاف القصص والملفات والقضايا التي ينبغي توثيقها والكشف عنها حفظا للحقوق والتاريخ، وواجبٌ على كل ممارسٍ للمهنة البعد عن فوهة البنادق والنظر حيثُ تسقط قذائفها، وتتبع آثارها، هنا تكمن القصة، هنا الحدث.