تحتل الدعاية الإعلامية لأي حزب أو كيان سياسي مكانة لا تقل أهمية عن الجهوزية الحربية، فهي بيانات ورسائل دبلوماسية مختارة ومُنمَّقة بعناية لتحقيق تغيير ناعم تعجز الحروب العسكرية عن تحقيقها، وتعمل على تشكيك الجبهة الداخلية للعدو وزعزعة ثقتهم بقيادتهم وزرع الشكوك في قدرتهم على تحقيق النصر، وهي ما يمكن وصفها بعمليات برمجة لعقول جماهير الخصم.
يولى الاحتلال الإسرائيلي اهتماماً كبيراً لوسائل الإعلام الجديد بمحاولات اختراق المجتمعات العربية بشكل عام، وصفوف فئة الشباب بشكل خاص، لما في ذلك من أهمية في تغيير الصورة النمطية السائدة عنه في العالم الخارجي كونه كيان دموي احتلالي للأراضي الفلسطينية. ومنذ الثورات العربية التي انطلقت في 2011 من مصر، ومع تفجر حالة الوعي السياسي سواءً الداخلي أو الخارجي نحو فلسطين، كثَّفت المؤسسة الإعلامية والاستخبارية "الإسرائيلية" من نشاطاتها عبر وسائل مختلفة، لكن هذه المرة بلسان عربي أقرب إلى العامية الشعبوية، أملاً في الوصول إلى 164 مليون مستخدم لموقع فيسبوك وحده في العالم العربي، حسب إحصائية صادرة عن Internet World Stats بنهاية ديسمبر 2017.
وفي هذا السياق، يُنسَب لأول رئيس وزراء لكيان الاحتلال الإسرائيلي ديفيد بن غوريون قوله: "لقد أقام الإعلام دولتنا واستطاع أن يتحرك للحصول على مشروعيتها الدولية"، ويمكن القول إن "إسرائيل" تعتمد في سياساتها الخارجية على ثلاثةمجالات رئيسة: السياسية والعسكرية والإعلامية، والأخير عبر وسائله المختلفة هو أداة الساسة والعسكر لتبرير عدوانهم وسياساتهم.
الفضاء الأزرق، أحد أدوات العدو الصهيوني في الدعاية الإعلامية التطبيعية مع أفيخاي أدرعي، الضابط في الجيش الإسرائيلي. بلغ عدد المُعجبين بصفحته الشخصية والمتابعين له أكثر من مليون وربع المليون شخص. وباستعراض بسيط لمنشوراته، تبين أنه زار مصر في عام 2003 ليتعلم اللغة العربية كما نشر ذلك عبر صفحته بتاريخ 22 أبريل/نيسان 2013، مُرفِقاً بمنشوره 5 صور لمناطق مشهورة في أنحاء مختلفة من مصر أثناء زيارته. حصد منشور أدرعي على 644 إعجاب، 702 مشاركة و1400 تعليق من حسابات لشخصيات عربية، وختم في نهاية المنشور عبارة "الزيارة لن تكون الأخيرة".
في تحليل دقيق لمنشورات أدرعي كنموذج، يعمل هذا الإعلام الموجه على الحديث باتجاه واحد إلى المجتمع العربي، عبر استخدام النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، والتأكيد على قوة جيش الاحتلال الإسرائيلي وتفوقه على غيره من الجيوش في المنطقة، وربط ذلك بالأخلاقية الحربية، وأنه جيش دفاع وليس جيش هجوم أو احتلال، بالإضافة إلى التحريض على المقاومة الفلسطينية واتهامهما بالإرهاب وأنها السبب المباشر في تدهور الأمن وإشعال فتيل الحرب في المنطقة.
يحرِص أدرعي في منشوراته، أن تكون مُرفَقَة دائماً بصور ذات جودة عالية، لأفراد من جيش الاحتلال يرسمون الابتسامات من دباباتهم التي يعتلونها. وبالتأكيد، لا يقف أدرعي بنفسه خلف صفحته الزرقاء الموثَّقة وإن كان جزءً رئيساً منها، بل هو الوجه الذي يظهر للمتابعين ومن خلفه فريق من خبراء السياسة والإعلام والاستخبارات العسكرية، وبحوزتهم سياسات واستراتيجيات يعملون على تحقيقها، بالإضافة إلى التدقيق في حسابات المُعجَبين والمُعلِّقين ومعرفة توجهاتهم ومستوى فكرهم وانتماءاتهم الأيديولوجية.
وبشكل أوسع، يمكن القول إن الأهداف الاستراتيجية من وراء هذه الصفحات في التطبيع الإعلامي، تكمن في كسر حاجز العزلة بين كيان العدو الصهيوني والمجتمعات العربية عبر البدء بتقبل الوجود "الإسرائيلي"، وقراءة المجتمع العربي فقط لما يتم كتابته من قبل الإعلام الإسرائيلي الموجه بالعربية، كما أن توجيه متحدثين ومتحاورين من جنود العدو الصهيوني باللغة العربية –أدرعي مثالاً- يُراد منه الإيحاء بديمقراطية كيان الاحتلال وسط غابة من الدكتاتوريات العربية حسب وصف الاحتلال، وأنه يضم في صفوفه عرباً لا يواجهون مشكلة في الخدمة تحت علم "إسرائيل"، وأن البرمجة الأيديولوجية التي رُوِّج لها عن "إسرائيل" في المجتمعات العربية ليست صحيحة، ولربما بعد ذلك، الوصول بالعقل العربي إلى مرحلة الدفاع عن التطبيع الإعلامي مع "إسرائيل" كونها واقع جغرافي وحقيقة سياسية، وهذا ما ازدادت مشاهدته وسماعه من شخصيات خليجية وغير خليجية عبر القنوات الفضائية وعبر حساباتهم عبر منصات فيسبوك وتويتر، بل والتهجم على الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية.
عبر مشاركة المنشورات وكتابة التعليقات عليها، والإعجاب بصفحات الناطقين "الإسرائيليين"، بغض النظر عن رأي المتابعين لها وإيمانهم بما يُنشر فيها، يُعتبر –إسرائيلياً- بمثابة اختراق كبير للمجتمعات العربية والشباب العربي، وخطوة تستحق الإشادة والاحتفال "إسرائيلياً" على أعلى المستويات، في الوقت الذي يتم فيه محاربة المحتوى الإلكتروني الفلسطيني المناهض للاحتلال عبر شراكات رسمية علنية وغير علنية بين الاحتلال وشركة فيسبوك وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما كتبنا عنه بالتفصيل في مقال سابق.
ومن ضمن أهداف الصفحات "الإسرائيلية" الاستخبارية الموجهة بالعربية، إظهار التفوقيْن التكنولوجي والعسكري الإسرائيليَّيْن مقابل التخلف العربي في ذات المجالات، وهو ما يُحدِث صدمة لدى المتصفح العربي، وبالتالي الوصول إلى قناعة مفادها لا مجال لحرب أو الانتصار فيها على العدو، مما يعني الرضوخ للأمر الواقع والقبول بسلام تكون الغلبة فيه لـ "إسرائيل" من منطق القوة.
إنَّ مجرد "ضغطة زر" بالإعجاب لشخصية كـ "أدرعي" يعني إعجاباً بدرجة ما لِمَا تمثله هذه الشخصية، وقبولاً بحوار من طرف واحد بغض النظر عن ادِّعاء المُعجبين بصفحته بأن الإعجاب للاستهزاء به.
الشباب العربي، وفي ظل الطفرة الإعلامية في وسائل التواصل الحديثة، بحاجة إلى مزيد من الوعي السياسي والإعلامي والأمني، وبخاصة في منصات التواصل الاجتماعي والعمل الإعلامي، فما عجزت عنه ميادين السياسة قد تُسهِّلُه منصات الإعلامي.