منذ وصول حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة قبيل 15 عاماً، بدأ الاهتمام العربي بتركيا على كافة المستويات بشكل أكبر من السابق، وتزايد هذا الاهتمام تدريجياً مع انخراط تركيا في الأحداث المتلاحقة التي عاشها العرب منذ ثورات "الربيع العربي" وما نتج عنها من انتقال قرابة 4 مليون لاجئ عربي للعيش في تركيا.
تَزايد الاهتمام على المستوى الشعبي رافقه بالطبع تصاعد في اهتمام الإعلام وتركيزه على الشأن التركي بشكل عام وظهرت تدريجياً وسائل إعلام مختصة بالشأن التركي وزاد اهتمام الوسائل الكبرى بأخبار تركيا، وهو ما نتج عنه طبقة واسعة من الصحفيين والمحللين والكُتاب الذين يقدمون أنفسهم على أنهم مختصون بالشأن التركي.
ومع حداثة المعرفة بالشأن التركي لشريحة واسعة من الصحفيين، وضعف الخبرة ومعضلة اللغة وعدم فهم التركيبتين السياسية والإعلامية في تركيا، المختلفتين تماماً عن نظيراتيهما في العالم العربي، ظهرت العديد من المشاكل والمعضلات، أبرزها ما سأطلق عليه اسم "وهم المصادر الخاصة".
تركيبة سياسية وإعلامية مختلفة
اعتاد الصحفيون العاملون في وسائل الإعلام بالعالم العربي الحصول على أخبار حصرية وسريعة ومهمة من مصادر خاصة بهم، وهو أمر موجود بقوة في الكثير من الدول العربية، حيث يستطيع الصحفي الذي يمتلك شبكة قوية من العلاقات الحصول على معلومات حصرية من وزراء أو قيادات أحزاب أو مسؤولين كبار في الدولة والأحزاب والسياسية.
لكن هذا الأمر لا ينطبق بالطبع على الحالة التركية، فنحن هنا نتحدث عن تركيبة مختلفة إلى حد كبير، فتركيا دولة كبيرة تحكمها المركزية والبيروقراطية بدرجة كبيرة جداً، وبالتالي فإن الأغلبية الساحقة من الأخبار الهامة التي تتعلق بالرئاسة والحكومة والجيش لا تصدر إلا عن المسؤول نفسه بشكل مباشر أو المتحدث الرسمي وتكون في متناول جميع وسائل الإعلام في الوقت نفسه.
وبينما تتركز المنافسة بين وسائل الإعلام العربية حول القدرة على الحصول على أخبار وتسريبات ومعلومات خاصة من مصادر التفافية، فإن المنافسة في الإعلام التركي تتركز بشكل أكبر حول القدرة على استضافة المسؤولين أنفسهم للحصول منهم على تصريحات حصرية مباشرة، دون اللجوء بشكل واسع لتذييل المعلومات المنشورة بعبارة "مصادر خاصة" و"مصادر رفضت الكشف عن اسمها".
معضلة المصادر الخاصة في تركيا
يعاني الصحفي العربي العامل بالشأن التركي من صعوبة بالغة في الحصول على معلومات خاصة أو إجراء مقابلات حصرية مع المسؤولين الأتراك، والأمر هنا متعلق بعوائق كبيرة تتمثل أولا بالتركيبة السياسية والإعلامية في البلاد وثانياً بالإمكانيات المتاحة للصحفي العربي العامل في تركيا، وثالثاً بالقدرات والمهارات التي يتمتع بها الصحفي نفسه.
التركيبة السياسية والإعلامية في تركيا معقدة إلى حد كبير، فكبار السياسيين المنشغلين على مدار الوقت في متابعة التطورات السياسية في بلادهم وجولاتهم الخارجية، لا يجدون الوقت للظهور في لقاءات خاصة وفرعية ومحاولة التواصل الجزئي مع وسائل الإعلام، فتراهم يركزون على الخطابات العامة والمؤتمرات الرسمية. أما التواصل مع وسائل الإعلام فيقتصر على كبرى الفضائيات التركية التي تصل إلى أوسع شريحة ممكنة من الجمهور، وكثيراً ما يظهر كبار السياسيين في لقاء مع أكثر من وسيلة إعلام في آن واحد وتضطر العديد من الفضائيات لتوحيد بثها كون اللقاء موحدا مع وسائل إعلام أخرى.
أما فيما يتعلق بالإمكانيات، فمحاولة وسائل الإعلام العربية إجراء حوارات خاصة مع كبار المسؤولين والسياسيين الأتراك أمر يحتاج الكثير من الإمكانيات، لاسيما فيما يتعلق بالقدرة على التنسيق والسفر والإعداد، وهو ما يتطلب بدوره ميزانية عالية لا توفرها معظم الوسائل العربية التي تمتلك في أغلبها مراسلا واحدا فقط في تركيا.
على سبيل المثال، المقابلات المحدودة جداً التي أجرتها بعض الفضائيات العربية الكبرى مع مسؤولين أتراك رفيعي المستوى جرى التنسيق لها على مستويات سياسية عالية قبل المستويات الإعلامية، وسُخِّرت لها إمكانيات ضخمة ومترجمين ومختصين خارجيين، رغم امتلاك هذه الفضائيات أعداداً كبيرة من العاملين معها.
مشكلة الإمكانيات السابقة مرتبطة بشكل كبير بالنقطة الثالثة المتعلقة بقدرات وإمكانيات الصحفي نفسه وبشكل أدق "مشكلة اللغة التركية"، حيث تعتبر اللغة التركية من أصعب اللغات بالترجمة لأسباب تتعلق باكتمال معنى الجملة عقب اكتمالها تماماً لوجود الفعل في نهايتها، وهو ما يجعل من إمكانية إجراء الصحفي العربي مقابلة مع مسؤول تركي - لو أتيح له ذلك- أمراً معقداً ويحمل مخاطرة كبيرة.
الهروب من "المعضلة" إلى "الوهم"
في الوقت الذي لا يجيد فيه أغلب المسؤولين الأتراك اللغة الإنجليزية ولا العربية بالطبع، يفتقر كثير من الإعلاميين العرب لـ"لغة تركية متقدمة"، وبالتالي يلجأ الكثير منهم إلى عدد قليل جداً من المسؤولين الأتراك وبعضهم ربما لم يعد على رأس منصبه من الناطقين بالعربية، للحصول على أخبار خاصة أو حصرية من أشخاص لم يعودوا في مواقع صنع القرار ويدلون بتحليلات تُنشر على أنها معلومات هامة وحصرية.
فالمعضلات السابقة والرغبة في إظهار التغطية الأقوى للشأن التركي دفعت -على ما يبدو- بالكثير من الصحفيين والمحلليين ووسائل الإعلام إلى ما أطلقنا عليه "وهم المصادر الخاصة"، وذلك من خلال ادعاء امتلاك أخبار أو معلومات أو تفاصيل خاصة عن شؤون تركية مهمة، بما يتنافى مع الأسس المهنية والأخلاقية للصحافة.
هذا الادعاء وإن كان ينطلي على المتابع العادي، فإن جميع العاملين في سوق الإعلام بتركيا يعلمون جيداً أنه مجرد بيع للوهم يصل في كثير من الأحيان إلى "الادعاء" و"الكذب" و"التضليل"، وأن وجود مشكلة وصعوبة في الحصول على مقابلات ومصادر خاصة ليس مبرراً للانحدار إلى هذا المستوى.
وتظهر هذه المشاكل على أكثر من صعيد، أبرزها
في كثير من الأحيان تلجأ وسائل إعلام عربية إلى نشر أخبار منسوبة إلى "مصادر تركية خاصة" و"مصادر تركية رفضت الكشف عن اسمها" و"مسؤول في الحكومة التركية رفض الكشف عن اسمه"، والكثير من هذه المسميات الغامضة التي تنسب لها أخبار تكون إما من محض خيال الكاتب أو هي أخبار منشورة أصلاً ويعاد نشرها بنسبتها إلى مصدر خاص لإظهار القوة والخصوصية.
يتطور الأمر في بعض الأحيان لينقل البعض "أخباراً خاصة" منسوبة إلى "ضباط كبار في الجيش التركي"، وهو أمر مثير للسخرية حقاً، سيما وأن جميع من يعمل في تركيا يعلم جيداً تركيبة منظومة الجيش في البلاد التي لا يمكن معرفة أي شيء عنها إلا من خلال البيان الرسمي الذي يصدر عن هيئة أركان الجيش فقط لا غير، وادعاء الحصول على معلومات حصرية من ضباط الجيش خطوة لم تتجرأ عليها الصحافة التركية نفسها.
وتظهر هذه المشكلة على مستوى آخر، حيث يلجأ البعض إلى نسب "تحليلات" بعض المحللين الأتراك الناطقين بالعربية على أنها تصريحات رسمية صادرة عن مسؤولين أتراك ويكتب عنهم "مسؤول مقرب من الحكومة رفض الكشف عن اسمه"، وهو أمر مناف للحقيقة والواقع؛ فالمحليين الأتراك الناطقين بالعربية عددهم محدود ومعروفين للجميع ولا أحد فيهم تولى أو يتولى حالياً أي منصب رسمي في الدولة، وهم على الأغلب لا يعلمون أصلاً أن تحليلاتهم تنشر على أنها تسريبات وتصريحات خاصة رسمية!
كما أن جزءاً كبيراً من المحللين الأتراك الناطقين بالعربية لا يتمتعون بهذه المكانة في الإعلام التركي نفسه، وبعضهم لم يظهر ولو لمرة واحدة على أي فضائية تركية أو معروف في الوسط السياسي التركي، وتقتصر شهرته ومكانته على الإعلام العربي فحسب، وهي ليست مشكلتهم فهم يقدمون أنفسهم كمحللين أتراك ناطقين بالعربية ولا يدعون أنهم يتولون مناصب رسمية.
ويصل الأمر أن تجد عناوين من قبيل "مصدر تركي خاص يكشف.."، وفي التفاصيل تكون التصريحات منسوبة إلى محلل سياسي ما باسمه، ولا تقتصر هذه المشاكل على الصحفيين فحسب، بل تمتد لتشمل بعض الكتاب المختصين بالشأن التركي الذين يحاولون في بعض الأحيان إضافة معلومة ينسبونها أيضاً إلى "مصادر تركية خاصة بهم".
وهنا وجب التنويه إلى أن الاستثناء الأبرز عن هذه القاعدة هي وكالة الأناضول الرسمية التي تنشر في كثير من الأحيان معلومات تنسبها إلى مصادر خاصة، وربما يندرج ذلك في إطار السياسة الرسمية في نشر بعض المعلومات بالتنسيق مع الوكالة الرسمية، وهو أمر مختلف عن الطرح العام هنا.
وباتجاه آخر، يلجأ البعض أيضاً إلى نسب بعض التقارير المهمة التي تنشرها الصحافة التركية، خصوصا فيما يتعلق بالعالم العربي والعمليات العسكرية في سوريا والعراق وغيرها على أنها تحليلات خاصة أو معلومات حصرية حصلت عليها الوسيلة الإعلامية، وهي في الحقيقة معلومة منقولة مترجمة من مصدر تركي معلن ومنشور في النسخة الأصلية باللغة التركية، ويقع الخلط هنا بين الخصوصية في الترجمة أم الخصوصية في المصدر.
يضاف إلى ذلك الأخطاء الشائعة بقصد أو بدون قصد، من حيث إلصاق مسميات غير دقيقة بأسماء بعض الشخصيات التركية لتضخيم حجمها وتصريحاتها، وبعض هذه المسميات ليس لها أساس من الصحة، وبعضها مسميات سابقة لم تعد سارية على هذه الشخصيات كالمسمى الشهير "مستشار رئيس الوزراء التركي".
يبقى أيضاً أن نشير إلى أن الكثير من الصحفيين والكتاب العرب الذين يزورون تركيا أيضاً ويرغبون بلقاء بعض المحلليين الأتراك الناطقين بالعربية يقعون أيضاً في نفس المشكلة، ويعودون إلى كتابة تقارير أو مقالات مستنبطة ممن يصفونهم بأنهم "مسؤولون أتراك" أو "مقربون من الحكومة التركية" وهي توصيفات غير دقيقة ولا تنطبق على المصدر الحقيقي للتحليلات التي استمعوا إليها.
مثال حديث
وعلى سبيل المثال أظهرت الأخبار المتعلقة بتركيا والأزمة السورية طوال السنوات الماضية حجم الأخطاء التي نشرت طوال هذه المدة، ويمكن إحصاء مئات الأخبار التي ثبت مع الوقت عدم دقتها وبعدها عن الواقع وكانت تتعلق بخطط وعمليات الجيش التركي في سوريا، حيث نشرت على الدوام أخبارا تتعلق بقرب تنفيذ عمليات عسكرية وتحديد وطبيعتها وحتى مواعيدها.
وحديثاً، نُشرت الكثير من "الأخبار الخاصة" والتحليلات عن قرب مهاجمة الجيش التركي للوحدات الكردية في مدينة عفرين السورية، وطبيعة التدخل التركي في إدلب، ورغم أن تصريحات كبار المسؤولين الأتراك كانت تُلمح إلى ذلك، لكن ضُخِّمت الكثير من الأخبار ونُسب الكثير من المعلومات غير الدقيقة إلى "مصادر خاصة"، وجرى الخلط بين خطط عزل عفرين أو مهاجمتها، وبين خطط إقامة مناطق عدم اشتباك في إدلب أو الدخول في حرب مفتوحة ضد هيئة تحرير الشام.
وبغض النظر عما إذا كان عزل عفرين سيتحول لاحقاً إلى هجوم، وما إن تحولت مناطق عدم الاشتباك لمعركة ضد هيئة تحرير الشام، فإن الحديث يدور هنا عن إشكالية تتعلق بالدقة والمصداقية في نسب المصادر الصحفية عبر نشر التحليل على أنه معلومة، وتحويل المحلل إلى مسؤول، والترجمة إلى "مصدر خاص" والكثير من الإشكاليات الأخرى التي تندرج تحت عنوان "وهم المصادر الخاصة في تركيا".