قبل عدّة أشهر، طلبت محرّرة في وسيلة إعلام عالمية، إعداد قصّة إخبارية لتنشرها في موقعهم، وحدّدت المحاور بدقة وكأنها تريد إعداد المادة عوضاً عني، كانت القصة قائمة على إعداد مقابلات مع نازحين من إحدى المناطق التي دخلها "تنظيم الدولة" شرق مدينة حمص السورية وبالفعل استغرق الأمر إحدى عشر يوماً وعدتُ لها بالقصة كما طلبتها، حيث حالفني الحظ بالحديث مع عائلتين وصلتا إلى منطقة قريبة تسيطر عليها المعارضة السورية المسلّحة.
في اليوم التالي، أرسلت لي المحرّرة ذاتها ملفّاً فيه قائمةً باسم كل شخص تحدّث ضمن المادة، وتحته الكلام الذي قاله، ومكاناً مخصّصاً ليوقّع على ما قاله، وذلك للتأكّد من صحّة المصادر، أخبرتُها حينها أن الأمر ضرب من الجنون ولا يُمكن لأي سوري أن يقبل ذلك بسبب المخاطر الأمنية الكبيرة، ثم توصّلنا إلى اتفاقٍ يقضي بإرسال التسجيلات الصوتية التي كنتُ أحتفظ بها، ولم تُنشر القصة إلا بعد تأكّد المحرّرة من التسجيلات.
بعد فترةٍ أخبرتني المحرّرة ذاتها ضمن حديثٍ ودّي على موقع "فيسبوك" أن طلبها جاء بسبب مشاكل سابقة وقعت بها الجهة الإعلامية مع صدقية المصادر ولاسيما أن البعض رفض إعطاء معلوماته الشخصية الكاملة، عرفتُ حينها أن مشكلة المحرّرة كانت في "المصادر المجهولة".
المصادر المجهولة يتم إسقاطها إعلامياً تحت عدة مسميات، منها: "مصادر خاصة، محلية، ميدانية، عسكرية، مطلعة، رفيعة المستوى، رفضت الكشف عن اسمها أو رفضت الإفصاح عن هويتها"، ومسمّيات أخرى لا يتّسع هذا التقرير لذكرها.
وقد سبّبت "المصادر المجهولة" متاعب كثيرة للمحررين، كان أبرزها، حادثة الاستقالة الجماعية التي أقدم عليها ثلاث صحفيين من شبكة "سي أن أن" الأميركية بينهم توماس فرانك ومحرر وحدة الصحافة الاستقصائية، إريك ليكتبلاو، الحاصل على جائزة بوليتزر، بسبب نشرهم تقريرا استقصائيا يحتوي معلومات مغلوطة، استند فيها الصحفيون إلى مصدرٍ واحد ومجهول، ليتبيّن أن المعلومات غير صحيحة، وضجّ المجتمع الصحفي العالمي بهذه الحادثة، التي أهدت الرئيس الأميركي دونالد ترامب نصراً مجانياً على سلطة الإعلام في الولايات المتحدة.
في هذا التقرير، نستعرض لكم أبرز الثغرات التي من الممكن استخدامها للهروب من المصادر المجهولة بطرق تكلّف الصحفي مزيداً من الجهد، لكنها بالمقابل تُعطي قصته قدراً كافياً من الدقّة والمصداقية.
عرّف بالمجهول
عملتُ لمدّة عامين كصحفي متعاون مع موقع إخباري في العاصمة السورية دمشق، قبل أن أغادر سوريا، كان المحرر الرئيسي في الموقع غالباً يكون مبتسماً لإضفاء الإيجابية على جو العمل، لم أكن أتردّد إلى غرفة التحرير كثيراً لأن عملي كان ميدانياً، لكن لاحظتُ تلك البسمة التي كانت تختفي فجأة ويتغير وجه المحرر تماماً عندما يرى جملة تدلّل على مصدر مجهول، وغالباً ما يجادلني للحصول على مصدر معلوم للقصّة، أخبرني ذات يوم أن تعابير وجهه عندما يرى مصدراً مجهولاً لا تختلف عن تعابير وجه القارئ، فهو أيضاً يتراجع عن تصديق الخبر عندما يرى جملة "مصادر خاصة أو مصادر رفيعة أو أسماء أشخاص مجهولين مثل محمد أو أحمد".
دفعتني التعايير "القاسية" لهذا المحرر للبحث عن الحل ووجدته أخيراً، إنّه "التعريف عن المجهول" فبإمكان الصحفي أن يعرف عن المجهول بكل بساطة.
يستطيع الصحفي تعريف ما هو مجهول من خلال وصف الشخصية بتفاصيلها الدقيقة دون ذكر اسمها الكامل، ووصف الجو الذي ساد عليه اللقاء، ووصف تعابير وجه المصدر المتحدّث والإيماءات التي صدرت عنه، فبدلاً من أن يكتب الصحفي في قصَّته "يقول محمد: "...." بإمكانه الحديث عمّا هو أبعد من اسم محمد، يجب التعريف بعمر محمد وحالته الاجتماعية وعدد أولاده وملامح الكآبة أو الحزن أو الفرح التي رُسمت على وجهه، ومواصفاته الجسمانية سواء كان نحيلاً أم سميناً، طويلاً أم قصيراً، ووصف الملابس التي كان يرتديها وحالتها بدقّة، فعندما تتحدّث عن ذلك النازح الهارب من هجوم تنظيم الدولة على قريته، من المهم أن تتحدث عن العَرَق الذي يسيل من جبهته وعن عبائته الممتلئة بالغبار وحذائه المُهترئ من كثرة المشي في رحلة النزوح، وعن قطعة القماش البيضاء التي يحتضنها وجمع داخلها أوراقه الثبوتية قبل أن يهرب من منزله تاركاً كلَّ شيءٍ خلفه.
جميع هذه التفاصيل ترسم في ذهن المتلقّي صورةً درامية عن حالة المصادر، وتغطّي تماماً على معلوماته المجهولة، ليس أمام المحرّر وحسب بل أمام الجمهور الذي له الحكم الأخير على مصداقية تقريرك، وتدفعه لقراءة تقرير آخر مُذيّل باسمك أو عدم قراءته مرّةً أخرى، والسبب يعود بذلك إلى أن الجُمل الفضفاضة داخل التقرير، ولاسيما تلك التي تحتوي على عبارات غير دقيقة مثل "أشار محمد، وأوضح محمد" تجعل الجمهور في حالة قرف ممّا يقرأ وتؤثّر على مصداقية الوسيلة الإعلامية ككل.
أمّا في حالة المصادر الرسمية، فبإمكان الصحفي وصف جو المقابلة ومكانها والظروف المحيطة بها، والتطرّق لأي معلومات تعرِّف بالمصدر دون أن تذكر اسمه صراحةً، وفي كلا الحالتين، أي عندما يكون المصدر معروفاً أو مجهولاً لا بأس بالاحتفاظ بنسخة مسجلة عن المقابلة، هذه النسخة ليست للنشر وإنما لتوثيق ما تقوله وهو ما تطلبه وسائل الإعلام الأجنبية في معظم الحالات.
داعب مُطلق الصفّارة
في الصحافة الاستقصائية، يُعرَّف مسرِّب المعلومات بأنه "مُطلق الصفّارة" أو "الحنجرة العميقة" كما أسماه صحفيا فضيحة "ووتر غيت"، وعندما تحصل على معلومةٍ مُسربة من مُطلق الصفّارة هذا، فإن احتمالية أن يكون المطلِق مجهولاً تصل إلى 95%، وهنا قد تجد حلّاً بديلاً.
في إحدى الجلسات الحوارية حول المصادر، أخبرنا أحد الخبراء الصحفيين السوريين المخضرمين، أن بإمكاننا هنا أن نسأل المصدر المجهول "من يعرف هذه المعلومة غيرك؟" وهنا يُصبح لدينا معلومةً جاهزة، ونريد فقط أن نجد مصدراً مناسباً ليفصح عنها، وربما هذا الحل يتطلّب مزيداً من البحث لكنه يحقّق لك فائدتين مهمّتين، الأولى أنّك هربت من المصدر المجهول وحصلت على المعلومة المُسربة من مصدر معلوم وواضح، والثانية هي أنّك حصلت على معلومة واحدة من مصدرين متطابقين، وبات بإمكانك كصحفي مُشاكس أن تقارن بين رواية كل مصدر وتقاطع المعلومات التي حصلت عليها منهما مع الظروف المحيطة بالحدث، وتكون قد نجوتَ من أي متاعب قد تلحق بك.
أظهر حجم المخاطر
لا يمتلك الصحفي أي مبرّر لطمس معالم المصدر إلّا إذا كانت نوعية المعلومات التي أطلقها المصدر تؤثّر على أمنه الشخصي، أو تحتوي على قدرٍ كبير من الخصوصية الشخصية، وفي كلا الحالتين بإمكان الصحفي استغلال هذه النقطة ليشرح للجمهور سبب عدم تعريف المصدر، فلا يُمكن أن تستند إلى مصدرٍ مجهول إذا كُنت تعدُّ تقريراً عن فوائد اللحوم الحمراء، أو الاحتفال بمناسبة رأس السنة الميلادية أو الاستعدادات لشهر رمضان، إذ أن هذه المواضيع لا تحتوي على أي مبرر لجعل المصدر مجهولاَ.
أمّا عندما يتحدث المصدر عن أمرٍ قد يؤدي إلى مقتله أو يتسبب بضرره أو ضرر أحد أفراد أسرته، فلا مانع في هذه الحالة من جعله مجهولاً، ولكن مع ذكر سبب مجهولية المصدر، كأن نقول إنه رفض ذكر اسمه لأن الجهة الفلانية قد تُقدم على قتله، أو لأنه عائلته تعيش في منطقة تسيطر عليها جهة قد تُلحق الأذى بها.. صحيح أنًّ المصدر لن يكون معلوماً لكن الجمهور سيقتنع بالدافع الكامن خلف طمس معالم هويته ويفسح له المجال أمام تخيّل حجم المخاطر.