لكل شيء أثر ورقي ما، أي بمعنى دليل يكشف الدعم المنظم لشبكة أو لشركة أو نشاط سري أوغير قانوني لشخص ما. المفتاح يكمن في إيجاد هذا الأثر.
مؤخرا، قامت "الشبكة الإفريقية لمراكز التحقيقات الاستقصائية" (ANCIR) بالتحقيق في عملية نصب مالي دولية يدفع فيها أرباحا للمستثمرين القدامى من أموال المستثمرين الجدد إلى أن تخسر الشركة ويفر مديرها. كان عقلها المدبر مديرا مقيما في المملكة المتحدة اسمه رونويك هاداو Renwick Haddow، كان الرجل يترأس كيانا تحت مسمى Capital Organization وقد استخدم شبكة تتألف من أكثر من 30 شركة صورية لبيع ما قيمته أكثر من 180 مليون دولار من الاستثمارات المزيفة على مدى خمس سنوات.
كان لدى منظمتنا ميزانية قدرها 500 دولار فقط لاستقصاء وكشف زيف هذه الشبكة الدولية من الكيانات المتصلة. قمنا باستثمار هذه الميزانية كاملة في تكلفة زيارة الصحفي التابع لنا في سيراليون لمزرعة مرتبطة بعملية النصب والاحتيال، وفي مقابلة السكان المحليين، وفي استخراج وثائق من الوزارات المعنية. وبنهاية الزيارة لم تعد لدينا أي ميزانية لتغطية الجوانب الأخرى من القصة، بما في ذلك تتبع المسار المالي.
كيف تمكنا من كشف الاحتيال؟ عن طريق العثور على الأثر الورقي وتتبعه، وهو في هذه الحالة الوصول إلى نطاق من المعلومات عن طريق قواعد بيانات، ومنشورات دعائية لشركات، وسجلات محاكم، ومصادر أخرى متاحة علنا. جميع الأدلة التي جمعناها متاحة هنا ويمكنك أن تقرأ تحقيقنا "Catch and Release" كاملا في عدد ربيع 2015 من دورية WorldPolicy Journal.
تشريح الاحتيال
عمدتِ الشركاتُ الصوريةُ إلى الحيلة لبيع الاستثمارات المختلقة للمستثمرين في مناطق نائية، وخاصة للمتقاعدين البريطانيين. تراوحت الاستثمارات المزعومة من الزراعة (مزارع تنتج زيت النخيل، والأرز، والكاكاو، والقمح) إلى المعادن (الذهب، والبلاتين، والألماس)، بالإضافة إلى العقارات وسندات المشروعات المائية، والبرمجيات، وأشياء أخرى. ووعدوا المستثمرين بعوائد كبيرة، وكثيرا ما كان ذلك بضمان إستراتيجيات مضمونة للتخارج، مما طمأن المستثمرين بأنه سيكون بمقدورهم استعادة أموالهم مع قدر من الربح.
لم يكن للشركات الصورية التي تحمل أسماء مثل Agri Firma وCapital Carbon Credits و Voiptel International أي موظفين أو حسابات بنكية أو مكاتب أو أي من مكونات الأعمال الحقيقية. عوضا عن ذلك، قام مدير الشركات رونويك هادوا وفريقه بتسريب الأموال إلى وكلاء تلقي أموال أودعوها بدورهم في ملاذات ضريبية مثل قبرص. وكانت الحوالات النهائية تصب في حساب شركات قابضة في جزر العذراء البريطانية مثل Rusalka وGlenburnie Investments.
كانت الكيانات الصورية تروج لخطط استثمارية غير منظمة، أو منظمة باستخفاف، من قبل هيئة السلوك المالي في المملكة المتحدة (FCA). بعد ذلك، يتم الترويج لهذه الاستثمارات من خلال شركات سمسرة وهمية تحمل أسماء مثل Capital Alternatives وVelvet Assets و Premier Alternatives و Able Alternatives وسواها. وكانت مقرات تلك الكيانات في المملكة المتحدة لتنتشر بعد ذلك في أنحاء العالم المختلفة من جبل طارق إلى دبي. وفي أحيان كثيرة لم تتضمن هذه الكيانات أي شيء سوى مكاتب لمدد قصيرة أو عناوين صناديق بريد، بل إن كثيرا منها من تشارك حتى في نفس رقم الهاتف أو العنوان.
في الصفوف الأولى، كان يقف في الأغلب مندوبو مبيعات لا غبار عليهم وكان يتم تحفيزهم بعمولات تترواح بين 25 و40 بالمائة مما باعوه كاستثمارات جديدة، أما الباقي فكان يتم تحويله إلى "مصاريف ترتيب استثمار" لحسابات خاصة خارج الدولة التي يعملون فيها لصالح القائمين على عملية الاحتيال مثل رونويك هادوا، وروبرت ماكندريك، وسواهما من اللاعبين الأساسيين.
اقتفاء الأثر
أهم عناصر أي تحقيق هو التنقيب والاستماع وطرح الأسئلة المناسبة. ولكن طرح الأسئلة يحتاج إلى سياق، والاستماع للمصادر الصحيحة معناه العثور على صميم القصة. إن البيانات، سواء كانت مجانية أم غير ذلك، لا يمكن أبدا أن تحل محل البحث الاستقصائي الجيد. فلكي تقوم بعمل استقصائي جيد هذه الأيام عليك أن تكون على دراية بكيفية ومكان وجود المعرفة، وكيف تصل إليها بأفضل السبل وتطورها.
عرفنا من سجلات المحاكم أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يُفتح فيها التحقيق عن بعض الأشخاص والكيانات في هذا الاحتيال. ومع أن سجلات المحاكم المعنية لم تنظر إلا إلى ما يبدو أنه سؤال ثانوي - إن كان الاحتيال جماعيا أم فرديا - إلا أن العملية عادة ما تفرز أدلة وتقود إلى خيوط قد لا تكون ممكنة في ظروف أخرى.
جمعنا المنشورات الدعائية للشركات التي ذكرت أسماء وكلاء تلقي الأموال، والسماسرة، ومدققي الحسابات، والمكاتب الفعلية وتفاصيل أخرى تفصّل الروابط بين الشركات التي تبدو ظاهريا مستقلة.
استفدنا في عملنا من قواعد بيانات عامة مجانية مثل Duedil الذي يسمح بالبحث عن أشخاص ومديري شركات. وقواعد البيانات هذه تمكن مَنْ يستخدمها من تحديد عدد الشركات - القائمة والتي تم حلها - التي يرتبط بها المدير. كما أنها توفر معلومات أخرى مهمة عن: المساهمين، المكاتب المسجلة، وتسلسل زمني يسرد الأشخاص المعنيين المتقاعدين والحاليين. كما استخدمنا LinkedIn للبحث في الصلات الشخصية والتجارية للشركة.
بعض المصادر المجانية كانت فعالة فيما يخص الشركات التي لها علاقة بالمملكة المتحدة في هذا التحقيق. تتبعنا جوانب محددة مع Companies House و Orbis ومواقع أخرى لبيانات الشركات وجميعها مجانية للصحفيين عن طريق Investigative Dashboard. وتربط Dashboard"بين أكثر من 400 قاعدة بيانات على شبكة الإنترنت في 120 جهة قضائية قانونية حيث يمكنك أن تبحث عن معلومات لأشخاص وشركات يهمك أمرها".
تلعب "الشبكة الأفريقية لمراكز التحقيقات الاستقصائية" (ANCIR) دورا في تنسيق القسم الإفريقي في Dashboard. وعلى عكس النظم القضائية الأخرى، لا تلتزم الدول الأفريقية بإتاحة قواعد بيانات إلكترونية. ولذلك نقوم بتدريب ونشر باحثين داخل البلدان لهذا الغرض، كي يحصلوا ليس فقط على البيانات الدقيقة والحديثة المتعلقة بالأراضي والمحاكم والبيانات الأخرى، ولكن أيضا كي يزوروا مناطق الأزمات، ويقوموا بإجراء المقابلات الأولية، ويلتقطوا الصور وثيقة الصلة بموضوع البحث، ناهيك عن أمور أخرى.
بالإضافة إلى قواعد البيانات، نستخدم البحث على Whois، متى تيسر ذلك، لتحديد تاريخ إنشاء المواقع الإلكترونية التي لها مساس بالشبكة التي نستقصي عنها، ومعلومات عن ملكية تلك المواقع. بعد ذلك نقوم بمراجعة معلومات الاتصال الخاصة بالمواقع مع المعلومات المسجلة في قواعد بيانات الشركات للسماسرة والكيانات الصورية. وباستخدام عبارات دلالية محددة استطعنا أن نستخرج إشارات إلى أسماء معينة، وشركات، ومنتجات... إلخ، من ملفات مختلفة على الإنترنت. كما بحثنا في المقالات الإخبارية عن الأشخاص والشركات التي تم تحديدها في الشبكة التي نستقصي عنها. سرعان ما اكتشفنا أن في صفوفهم قتلة وغاسلي أموال وآخرين من هذه الشاكلة.
كجزء من التحقيقات، اختلقنا أيضا حسابات وهمية على شبكات التواصل الاجتماعي لتمكننا من الاتصال بالشركات والأفراد المعنيين، والانهماك معهم في مراسلات بالبريد الإلكتروني. ادعينا أننا نفكر في الاستثمار وذلك بغية الوصول بشكل شخصي إلى الطريقة التي تتم بها عملية الاحتيال.
جانب حيوي من التحقيق تم ميدانيا. فما أصبح جليا أن سيراليون نقطة مركزية في القصة، استثمرنا الخمسمائة دولار المخصصة من Open Society West Africa (OSIWA) لتعيين باحث داخل البلد اسمه سيلاس جبانديا Silas Gbandia، قام بالتأكد بنفسه إن كان يتم تسجيل عقود إيجارات الأراضي بشكل صحيح، وإن لم تكن تسجل، فأي من الجوانب أو العناصر كان يتم استبعادها.
أغلب المستثمرين في قصتنا كانوا يظنون أن إيجارات الأراضي تمت بطريقة مشروعة. مع ذلك، وفي كل الحالات، فإن الحق في تأجيرها من الباطن للمستثمرين كان غير قانوني. بعض عقود إيجارات الأراضي لم يتم تسجيلها رسميا في سيراليون، وبالتالي لم تكن قانونية (مثل تلك التي تتضمن صناعة زيت النخيل). وكانت عملية إيجار واحدة على الأقل مزيفة بالكامل. مستثمرون آخرون كانوا شرعيين بشكل جزئي فقط. إن استخدام باحثين من داخل البلد لاستخراج إيجارات الأراضي المسجلة كان مفيدا للغاية.
استخدمنا sourceAfrica وهي خدمة مجانية من ANCIR للتعليق على الوثائق الحاسمة وصياغتها ونشرها، بما في ذلك ما أرسل إلينا من مصادر موثوقة تم اختيارها بعناية.
في آخر الأمر، وبعد أن جمعنا المعلومات، اتصلنا بهنريش بوهمك Heinrich Bohmke، وهو مدعي عام من جنوب أفريقي وخبير في ANCIR، لفحص أدلتنا. أخذ بوهمك هذه العملية من عالم القانون وطوّعها للصحافة الاستقصائية. بحثنا عن الانحياز، والتناقضات، وإن كانت الأدلة ثابتة تحت جميع الظروف أم أنها تخضع للاحتمالات، وراجعنا الموارد، والمقابلات، والمصادر. يتوفر هنا دليل مفصل للفحص والتيقن والتثبت مخصص للصحفيين (اعتمدنا، بالإضافة إلى بوهمك، على جيوفاني بلوانو Giovanni Pellerano الخبير التقني في ANCIR للمساعدة في استخراج البيانات الوصفية من مصادر ووثائق إلكترونية متعددة).
في النهاية، وبتحديد العلاقات العريضة ضمن وبين الأشخاص، والشركات، والجهات القضائية القانونية، ووكلاء تلقي الأموال، والمنتجات، وبدراسة البيانات التجارية من Duedil و Companies House وآخرين، تمكننا من تصور هيكل الشبكة. كشف لنا ذلك كيف حدثت عملية الاحتيال ومن تورط فيها.
الكثير من هذا العمل تم إنجازه عن طريق تحليل المعلومات والوثائق المتاحة علنا. وساعدت تلك البيانات في وضع خريطة للأنشطة، والأشخاص والكيانات المعنية، وأعطتنا ما احتجناه من معلومات للمضي قدما في هذا التحقيق الاستقصائي.
الأسئلة الرئيسية
خلاصة القول، إن الأمر لا يتطلب عملا عبقريا لتطوير تحقيق استقصائي جيد أو كشف المستور عن الشركات؛ الأمر ببساطة يتطلب فضولا وتقنية والتزاما في القراءة بقدر الإمكان، وإلى أبعد مدى في الموضوع. نقّب عن أكبر قدر ممكن من مصادر المعلومات التجارية، والإعلامية، والمنظمات غير الحكومية، والنقل البحري، والتصاريح (أو العقوبات)، والأراضي... ابحث عمّا هو غير ظاهر وواضح، أي ما يبدو غير منطقي، أو ما يبدو غير قانوني، أو ما ببساطة ما يبدو لك واضحا. اتبع حدسك. أسأل أكبر قدر ممكن من الأسئلة. على سبيل المثال، عندما تفحص كيانا تجاريا اسع وراء أسئلة مثل هذه:
- ما الذي تفعله الشركة؟
- كم موظفا لديها؟ من هم؟
- في أي البلاد تعمل؟
- في أي البلاد مسجلة؟
- ما هي أسماء الشركات ذات الصلة في كل بلد تعمل بها؟
- أين تدفع ضرائبها؟
- أين تُفصح عن أرباحها؟
- ما مدى تحديد أسعار التحويل بين الشركات التابعة لها؟
- أي شركات تتعاطى مسألة أسعار التحويل، ولماذا؟ (وأين؟)
تذكر بأن لكل شيء أثر ورقي ما.
- هذا التقرير مأخوذ من كتاب "دليل التحقق للصحافة الاستقصائية"، لقراءة الدليل كاملا الرجاء الضغط على الرابط:
http://verificationhandbook.com/book2_ar/handbook2.arabic.pdf