لعلّ انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة عام 2016 يُمثّل نقلة مركزيّة في قضية "الأخبار الكاذبة"، فالرئيس الذي كان انتخابه مفاجئاً للجميع، وجد نفسه وسط حملة إعلاميّة هائلة من وسائل الإعلام المحسوبة على الديمقراطيين واليسار الأميركي بشكل عام، ولم يتوانَ هو بدوره عن ردّ الهجوم بمثله، واتّهام وسائل الإعلام بتلفيق الأخبار ضده عمداً.
ومهما يكن رأي المرء في ترامب، فمن المهمّ الإقرار بأن هذه الحقبة التي نعيشها، تشهدُ بالفعل انتشاراً هائلاً للأخبار الكاذبة، ولذلك أسباب عديدة ومتنوّعة.
من بين هذه الأسباب، أنه صار مقبولا تماماً، وشائعا إلى درجة الاعتياد، أن تكون لوسائل الإعلام انحيازاتٌ أيدولوجيّة معروفة ومعلنة، بحيث أصبحت وسائل الإعلام التي تُعرِّف نفسها باعتبارها وسائل موضوعيّة لنقل الأخبار، حالةً استثنائيّة أو أقليّة على الأقل، بينما الشائع والمعتاد أن يكون لوسيلة الإعلام توجّه معلَن ومعروف، كأن تكون يساريّة أو يمينيّة، محافظةً أو ليبراليّة، قوميّة أو عولميّة، وهكذا.
تُحاجِج وسائل الإعلام بأنّ هذا ليس مشكلاً بحدّ ذاتِه، طالما أنّ الوسيلة الإعلامية تلتزم بمعايير العمل الإعلامي وبالمصداقية. لكنّ الإشكال يكمن في صعوبة تحديد الخط الفاصل بين أن يكون للوسيلة الإعلاميّة توجهٌ معيّن يقود سياستَها التحريريّة، وبين أن يصل هذا التوجه إلى درجة متقدمة من الانتقاء والحذف والإبراز والتهميش والتّضخيم والتحجيم.
يضاف إلى ذلك أن تَزايدَ الاستقطاب السياسي والأيدولوجيّ في مجتمع ما، ينعكسُ بدوره على وسائل الإعلام التي تُصبحُ جزءاً من ذلك الاستقطاب. فمن المتوقّع أن تنخرط كلُّ وسيلةٍ إعلاميّة في هذا الصّراع بقدرٍ ما، وتحاولَ التركيز على الأخبار والتحليلات والتقارير والآراء التي تُؤيّدُ توجّهَها الأيدولوجي. وفي غمرة هذا الاستقطاب، يُصبحُ الاحتفاظُ بمعايير المهنيّة والمصداقيّة أمراً في غايةِ الصُّعوبة، بل قد يُصبحُ من يُنادونَ به متّهَمين بالتشبّث بمفهوم جامد للمهنيّة أو بالبرود الأخلاقي تجاه صراعٍ محتدمٍ يعتبرُه كثيرون مسألةَ حياةٍ أو موت.
من هنا، نشأت ما تُسمَّى "حقبة ما بعد الحقيقة" (Post-Truth Era)، ويُقصدُ بها عموماً تلك الحالة التي يتراجع فيها دور الحقائق والبيانات والمعلومات لصالح المعتقدات والرؤى الأيدولوجيّة والرّغبات. ينبغي هُنا تقديمُ استدراكٍ مهمّ: صحيحٌ أنّ هذه الحالة يمكنُ أن تشملَ التغاضي عن حقائق ثابتة أو تجاهل معلومات مؤكّدة لصالح المعتقدات والانحيازات الأيدولوجية، إلا أنه ينبغي التنبُّه إلى أنّ كثيراً مما يختلف حوله البشرُ سياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، ليس ممّا يمكنُ حسمُه بالمعلومات أو "داتا". فمثلا، قد يرى اليساري أنّ ارتفاع أعداد من لا يشملُهم التأمين الصحّي مؤشِّرٌ خطير وأمرٌ ينبغي التركيز عليه إعلاميّاً. أمّا اليميني -وإن أقرّ بالأرقام- فالقضيّة لا تبدو له بنفسِ الطريقة، إذ يرى أن على الأفراد أن يجتهدوا ويعملوا بجدّ من أجل أن يحظوا بتأمين صحيّ جيّد، وبالتالي فالقضيّة ليست بالنسبةِ له خبراً يستدعي القلق.
يضاف إلى ذلك، أنّ لدى البشر نزوعا سيكولوجيا قويا نحو تصديق ما يدعم رؤيتهم الإدراكيّة المسبَقة. هذا النّزوع يسمى "الانحياز التوكيديّ" (Confirmation Bias). يبدو الأمرُ منطقيّاً جدّاً، فتصديق ما يدعم وجهة نظري المسبَقة من قضيّةٍ ما، أسهلُ وأقلّ كلفةً من الناحية النفسيّة. أما حين أواجِهُ معلومةً أو خبراً أو تحليلاً مخالفاً لرؤيتي المسبقة، فهذا يُنتِج ما يسمى "التنافر المعرفيّ" (Cognitive Dissonance)، أي تلكَ الحالة غير المريحة التي تولدُها مواجهةُ حقيقةٍ جديدة تهزّ بقوّة تصورَنا بخصوص قضيّةٍ ما، وتشعرُنا بأنّ تصوراتنا محدودة أو خاطئة أو هشّة.
لذا، يبدو منطقيّاً أن نميل إلى متابعة الأخبار والأشخاص ووسائل الإعلام التي تؤكد تصوّراتنا عن القضايا التي تهمُّنا، وأن نتجنّبَ الأخبار والأشخاص ووسائل الإعلام التي تخبرُنا بالعكس. وفي مناخ استقطابيّ يشهدُ تحيُّزات حادّة، تصبحُ البيئة مُهيَّأة تماماً لتصديق الأخبار الكاذبة. حالاتُ الاستقطاب الشديد ترافقُها أجواءٌ عاطفيّة وانفعاليّة مشحونة، وحالاتُ شيطنةٍ للآخر وتعريفُه باعتباره خطراً. لذا، من المطلوب تبريرُ هذه المشاعر والانفعالات القويّة، وإن لم تؤدِّ الأخبار الحقيقيّة هذا الغرض، فالأخبار الكاذبة أو المبالغ فيها أو العالية الانحياز تصبحُ حاجةً سيكولوجيّة مُلحّة لدى وسائل الإعلام ومتلقّي إنتاجها على السّواء.
وممّا لا شكّ فيه، أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمتْ بقدر ضخم في ظاهرة الأخبار الكاذبة، ولذلك أسبابٌ كثيرة منها:
أولا- ارتفاع الطلب على الأخبار إنتاجا واستهلاكا
فمع ظهور قناة "سي.أن.أن" الأميركية كأول قناة إخباريّة كاملة، ودّعَ البشرُ الزّمن الذي كان فيه للأخبار وقتٌ محدّد. ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت الأخبار عبارة عن سيلٍ متدفّقٍ كلّ لحظة. وسائل الإعلام ومنصّات نشر الأخبار أصبحت بحاجة إلى حركة تصفّح عالية، وإلى المحافظة على جمهورها وتوسيع نطاقه باستقطاب جمهورٍ جديد باستمرار. وبالنسبة للمتلقّي، فهو كذلك في حالة اتّصالٍ مستمرّ مع الإعلام الاجتماعي، ويحتاج بالتّالي إلى "تغذية" متواصلة. هذا التّلاقي في الحاجة إلى تدفّق مستمر للأخبار بين المنتِج والمستهلك، يهيّئ الأرضية لاستسهال النّشر، والتّهاون في التوثّق من الأخبار، وتحويل تداعيات الأخبار والتعليقات على الأخبار إلى أخبار بدورها، وهذا يُفسح المجال أمام مناخ تنتشر فيه الأخبار الكاذبة بسهولة.
ثانيا- حلقة "الاشتباك" المُفرَغة
مفهوم "التفاعل" (Engagement) من أهمّ المداخل لفهم علاقة الإعلام الاجتماعي بالأخبار. يقيسُ هذا المفهوم مقدارَ تفاعل المتابعين مع المحتوى على شبكات التّواصل، بالوقت الذي يقضيه المتابعون مع المحتوى، وبالتفاعلات المختلفة معه، مثل التعليق عليه أو نشره أو إرساله إلى آخرين. وتشير دلائل مهمّة إلى أن المتابع يكون في أعلى حالات الاشتباك حين يكون في حالاتٍ شعوريّة تتّسِم بالخوف أو الغضب. من ناحية سيكولوجيّة، يبدو الأمر قابلاً تماماً للتفسير، فالخائف في حالة تيقُّظٍ دائمة لتقييم الخطر ومواجهته وللبحث عن الطمأنينة والأمان. أما الغاضبُ فهو كذلك في حالة تحفّز، وهو في حالة رغبة عالية ومستمرّة في تفريغ غضبه والتعبير عنه، والاشتباك بطرقٍ مختلفة مع من يعتبرُهم أسبابا لغضبه.
كمثالٍ بسيط، تُحقِّقُ أخبار المهاجرين في الغرب متابعة عالية باستمرار، من قبل وسائل الإعلام والمتابعين على حدّ سواء، والتفسير بسيط. يركّز الخطاب المعادي للمهاجرين على أنهم يرتكبون الجرائم أو يستولون على الوظائف أو يحملون ثقافة مريبة، ومن ثم فهو يلعبُ على وترَي الخوف والغضب، ويحقِّق بالتالي متابعة عالية.
وفي ظلّ هذا المناخ، والرغبة العارِمة لدى وسائل الإعلام والمتابِعين على السواء في البقاء مشتبِكين مع الحدث، لا يبدو أن لكلا الطرفين مصلحة كبيرة في التوثق من الأخبار والتعامل معها برصانة ورويّة، فتحظى الأخبار الكاذبة -خصوصاً ما يثير الغضب والخوف- باهتمام كبير وتصديق سريع ومجانيّ.
ثالثا- "الفزع الأخلاقي"
في ظلّ العجز المُتزايِد عن الاحتكام إلى معايير معقولة يمكن الاتّفاق عليها بخصوص القضايا التي تشغلُ إنسانَ هذا الزمن، تكتسبُ عمليّة "صناعة الانفعالات" تجاه القضايا أهمية قصوى. وصار ملحوظاً ومعتاداً أن تتحوّل جميع القضايا التي يثور بشأنها الخلاف إلى استقطاباتٍ حادّة يتبادل الخصوم فيها اتّهامات قاسية، بالعنصرية أو اللاوطنيّة أو التطرُّف أو غيرِها. هذا ما يُعبَّر عنه بصناعة "الفزع الأخلاقي" (Moral Panic)، فكلُّ قضيّة يتحوّل النّاس فيها إلى أخيار وأشرار، أعداء وحلفاء، معنا أو ضدّنا، حتى القضايا البسيطة، أو القضايا التي من الطبيعيّ أن يختلفَ الناس الجيّدون بشأنها، تتحوّل بقوّة الإعلام الاجتماعي إلى قضايا أخلاقيّة مصيريّة فيها حياة أو موت، وطنيّة أو خيانة، تخلّفٌ أو تحضُّر، وهكذا. في هذا الجوّ، من السّهل تصديقُ ما يضرُّ بخصمي وما يُحرجه، وما يرفعُ من شأن فريقي أو يمجّدُه، دون الاحتكام إلى الحوار المتّزن والفحص الموضوعيّ.
هذا المناخ العام مهيّأ تماماً للأخبار الكاذبة، صناعةً ورواجا وتصديقاً. وليس من المبالغة القول إن هذه القضيّة والتعاملَ معها من أهمّ تحدّيات الإعلام اليوم، وكذلك من أهمّ التحديات التي تواجهُ المتلقّين، إذ تطرحُ السّؤال الصّعب والمهمّ: كيف يحتفظ إنسان هذا الزّمن باتّزانه وموضوعيّته في بناء مواقفه من الأحداث والقضايا والأشخاص؟