"سامحني يا وليدي"..
بهذه العبارة استقبل أول مصاب بفيروس كورونا المستجد في ليبيا زيارة وزير الصحة بحكومة الوفاق له في مستشفى طرابلس المركزي.
وحتى نفهم سبب اعتذار الشيخ المصاب (73 عاما)، لا بد لنا أن نرجع إلى الوراء قليلا لنعرف كيف تعامل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مع خبر إعلان تسجيل أول حالة إصابة في البلاد.
بدأ الأمر بتسريبات تتحدث عن تسجيل إصابة، وهو ما أثار الخوف لدى الكثيرين، ثم جاء الإعلان من قبل وزير الصحة عند منتصف الليل تقريبا، لتنفجر وسائل التواصل الاجتماعي بهذا الخبر وتبدأ في التكهنات عن اسم الشخص المصاب ومكانه. وبمجرد معرفة التفاصيل، بدأت حملة تنمّر قوية على الشيخ المصاب، من سبّ لأصله وفصله ودعوات بالهلاك وتحميله مسؤولية نقل الوباء والعذاب إلى هذا البلد، ليشعر الشيخ بالذنب ويعتذر لوزير الصحة فور رؤيته، وكأنه مذنب حقاً!
تسييس وشماتة!
غير أن محاولة الوزير في التخفيف عن المريض وزيارته وتصويره جاءت بنتائج عكسية أيضاً، وذلك بعد أن تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية المشهد المصور الذي يكشف وجه الرجل بوضوح، مما أثار غضب المواطنين بسبب عدم احترام خصوصية المصاب وتأثير هذا المقطع على أهله وذويه، ليتم حذفه من موقع الوزارة مباشرة وتتوقف القنوات عن إعادة المشهد، ويطلق عدد من النشطاء وسم "سامحنا يا بوي" تضامناً معه ضد الحملة التي شُنّت عليه.
ولأن ليبيا تشهد حالة من الانقسام المجتمعي والسياسي، حاولت بعض من وسائل الإعلام والنشطاء تسييس المرض -وحتى الشماتة- لضرب خصومهم، حيث اتهموا مدنا ومناطق بعينها بالتسيب والفوضى، خصوصا بعد تسجيل الحالات في مصراتة والعاصمة طرابلس غربي البلاد.
واستخدم ذلك في تبرير الحرب التي يشنها اللواء المتقاعد خليفة حفتر ضد العاصمة منذ أبريل/نيسان من العام الماضي، مما دفع المركز الوطني لمكافحة الأمراض إلى إصدار بيان يعلن فيه التوقف عن ذكر المناطق والمدن التي سجلت فيها الإصابات حتى لا تُستغل سياسيا واجتماعيا!
وتدل هذه الأحداث على التخبط الذي شهده الإعلام الليبي في التعامل مع هذه الجائحة العالمية، لكن يمكن القول إن الأمور تحسنت بعد أن تجاوز المسؤولون الصدمة.
ضعف الإعلام الرسمي
يرى المستشار الإعلامي لوزارة الصحة بحكومة الوفاق الوطني الأمين الهاشمي أن هناك تباينا واضحا في كيفية تعامل وسائل الإعلام في ليبيا مع فيروس كورونا المستجد، إذ يعتبر أن تعاطي الإعلام الرسمي التابع للدولة مع الوباء شابه الكثير من القصور، ولم يغط بالشكل المطلوب، واكتفى في الغالب بالأخبار الروتينية غير الكافية لتوعية المواطن صحيا.
ويضيف الهاشمي أن القنوات الخاصة عملت بشكل أفضل وخصصت مساحات كبيرة وتغطيات خاصة للحديث عن هذا الفيروس، بالإضافة إلى استقبال خبراء وضيوف مختصين لتوعية المواطنين بخطورة المرض، ناهيك عن إنتاج وصلات وومضات وإعلانات إرشادية مجانية توضح للمواطن كيف يمكنه تجنب الإصابة بالفيروس.
الفيروس لم يدخل بشكل كبير إلى ليبيا، حيث تم تسجيل عشرات الحالات فقط خلال شهر، ورغم ذلك كان تعامل المسؤولين مع وسائل الإعلام متسما بالضعف في بداية الأزمة، قبل أن ينظموا أنفسهم ليكون لديهم بيان يومي بخصوص الفحوصات والحالات المسجلة، إضافة إلى مؤتمر صحفي أسبوعي.
وبحسب الهاشمي فإن "التعبئة الإعلامية من قبل الوزارات والهيئات المختصة لم تكن بالمستوى المطلوب، ولم تقدم يد العون إلى مكتب إعلام وزارة الصحة الذي بكل تأكيد لا يستطيع وحده العمل في مواجهة هذا الوباء العالمي. كما أن تعامل المسؤولين وتصريحاتهم على وسائل الإعلام تعتبر ضعيفة جدا مقارنة بحجم هذه الجائحة".
هلع وخوف مبالغ فيه
الطبيب الليبي محمد فؤاد المقيم في شمالي إيطاليا يعتبر تعامل وسائل الإعلام في ليبيا جيدا جدا مع هذه الأزمة، ويتفق مع المستشار الإعلامي في كون الإعلام الخاص لعب دورا مهما في توعية المواطن.
ووفق رأي فؤاد فإن الإعلام الخاص هو الذي يعمل، ليس في قضية وباء كورونا فقط، وإنما في كل الأحداث داخل ليبيا، فالإعلام الرسمي بعيد جدا عن المشهد ولا يمكن التعويل عليه، بينما الإعلام الأهلي قدم برامج جيدة للتوعية، إذ يجري أطباء متخصصون حوارات مميزة على شاشات التلفاز، وهي أمور ساعدت في الرقي بوعي الناس.
وبخصوص حالات التنمر والخوف المبالغ فيه من المصابين، يعتقد فؤاد أنها كانت نتيجة الهلع الزائد عن الحد بسبب الأخبار التي يتم تداولها عالميا، فهي لم تصب ليبيا فقط بل كل دول العالم الثالث، ويتم التعامل مع المريض برعب مبالغ فيه، بل حتى وصل الأمر إلى إغلاق مستشفيات بعد مغادرة الأطباء خوفا من العدوى، رغم أن هذه الوضعية تغيرت بسبب حملات وسائل الإعلام.
"وبحكم أنني مقيم في إيطاليا إحدى أكثر الدول تضرراً بالفيروس، نلاحظ أن إعلامها -أو الإعلام الأوروبي بصفة عامة- ركز في تغطيته على الإحصائيات اليومية بشكل دقيق ومفصل عبر قنواته العديدة وصحفه المنتشرة، كما أنهم كانوا يستضيفون خبراء على مدار الساعة، وهو أمر يصعب كثيرا على وسائلنا الإعلامية بسبب فارق القدرات والتمويل"، يضيف فؤاد.
لا تقل الحقيقة على التلفزيون
غير أن طارق لملوم رئيس مؤسسة "بلادي" لحقوق الإنسان -وهي مؤسسة ليبية خاصة- اعتبر أن وسائل الإعلام الليبية بمختلف مشاربها وتوجهاتها لم تختلف كثيرا عن بعضها في طريقة تعاطيها وتغطيتها لجائحة كورونا.
وبحسب لملوم، فإن تعامل وسائل الإعلام مع تفشي الوباء يكاد يتطابق مع الأسلوب الذي تنتهجه هذه القنوات في تأجيج الصراع في ليبيا، والذي وصل تصنيفه إلى "حرب أهلية"، وذلك عبر الأقلام المأجورة سواء الليبية منها أو القادمة من خارج الحدود، وفق وصفه.
ويرى أن "تسييس" الجائحة كان بارزا، ونبذ من اشتبه في حمله للفيروس كان واضحا وجليا في التعليقات وردود فعل عامة الناس، وهذا يرجع إلى عدم وجود قوانين رادعة وواضحة تحكم وسائل النشر في ليبيا بالدرجة الأولى، كما يعود إلى قلة الوعي العام في مسألة التعامل والتعاطف مع المصابين بأمراض خطيرة، إذ في الغالب يعتقد الناس أن المرض المعدي يجب نبذ صاحبه.
وحمّل لملوم المسؤولين في القنوات الإعلامية وكل من يدير المواقع والصفحات الرسمية، مسؤولية ما يتم بثه ونشره عبر الشاشات والمواقع الإلكترونية، قائلا إن كل هؤلاء عليهم أن يعوا أنهم سيتحملون المسؤولية القانونية حين بتسبب ما تم تداوله ونشره في أي ضرر نفسي أو معنوي للمصابين والمشتبه في إصابتهم.
وفي الشرق الليبي حيث يسيطر اللواء المتقاعد خليفة حفتر، شُكلت لجنة يرأسها عسكري برتبة لواء، وبالطبع كان التعاطي الصحفي مع الجائحة بعقلية العسكر كما كان متوقعاً.
خلال حلقة بثتها قناة تلفزيون "الحدث" التابعة لحفتر، انتقد طبيب شاب الإجراءات المتخذة من اللجنة العليا لمكافحة المرض، وحذر من إمكانية تفشي الوباء في حال استمرار التعاطي مع الظاهرة بهذا الشكل الضعيف حسب وصفه. ولم يمض يوم حتى اعتقل الطبيب وفتح تحقيق معه بخصوص التصريحات التي أدلى بها، قبل أن يظهر رئيس اللجنة على نفس القناة ويتهم كل من ينتقد عملهم بالخيانة، ويقول إنهم سيتخذون إجراءات صارمة ضد كل من يتحدث عن عمل اللجنة حتى وإن كان المتحدث طبيبا!
وعلى نفس القناة، حاول مقدم البرنامج أن يوجه حوار إحدى الحلقات التي تناقش وباء كورونا إلى اتهام المركز الوطني لمكافحة الأمراض في طرابلس بالتقصير وعدم مساعدة المركز الوطني في الشرق. ورغم رفض الضيف لهذه الرؤية وإصراره على أن المركز في طرابلس تعاون معهم بشكل إيجابي، فإن المقدم حاول مرارا وتكرار استنطاق الضيوف لتوجيه الاتهامات، في إصرار غريب على استغلال الأزمة سياسيا وبشكل بعيد كل البعد عن أخلاق المهنة وحتى أخلاق البشر.
ولك أن تتخيل أن أحد المذيعين في ذات القناة، دعا الله على الهواء مباشرة أن يصاب الصحفيون في القنوات التي تختلف مع توجهاتهم بفيروس كورونا المستجد.. قد لا يصدق البعض ذلك، لكن هذا ما حصل فعلا.
عبث وتصفية حسابات
عندما سجلت أول إصابة بالفيروس في مدينة بنغازي شرقي ليبيا، خرج رئيس اللجنة التي شكلها حفتر في مؤتمر صحفي محمّلا المصاب المسؤولية، بل اتهم أيضا المواطنين بالتسبب في الأزمة نتيجة تسيبهم وعدم امتثالهم لإجراءات الدولة. وبدلاً من تقديم الحلول راح الرجل يوزع الاتهامات على الجميع وكأنه يتعامل مع طارئ عسكري لا مع وباء عالمي يحتاج إلى الكثير من التضامن والبحث عن الحلول بطرق علمية بحثية.
الأمر ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث وجه رئيس اللجنة الاتهام إلى مدينة مصراتة المناوئة لقواتهم بالتسبب في وصول المرض إلى الشرق، زاعما أن الحالة المصابة عادت إلى البلاد عبر مطارها ودخلت دون ختم الدخول على جواز سفره، ليتحول الأمر إلى عبث وتصفية حسابات عبر استخدام الإعلام، بدلا م توحيد الجهود لمواجهة هذه الجائحة العالمية.
يعتقد البعض أن الخوف والهلع ليس سببهما فقط الإعلام الداخلي، فاليوم يستطيع المواطن من أي مكان متابعة أخبار كل الدول سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر شاشة التلفاز.
وأخبار أعداد الإصابات الكبيرة والوفيات نتيجة المرض في دول مثل إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة بكل تأكيد كافية لخلق حالة من الذعر، وهي حالة تجعل من دور الإعلام الإيجابي -محليا ودوليا- دورا مفصليا في مواجهة مثل هذا الوباء، وتوعية الناس دون تخويفهم، ودون استغلال المرض سياسيا ومناطقيا، خصوصا في دولة مثل ليبيا التي لا تملك أي قدرات لمواجهة مثل هذا الوباء، وفي حال تفشيه -لا سمح الله- سيتضرر الجميع غربا وشرقا وجنوبا، ولن يميز الوباء بين الانتماءات السياسية، فهل نجد آذانا صاغية؟