مقدمة لشرح السياق
في السودان كانت هناك حرب أهلية في البلاد منذ فترة طويلة، تميزت بعدم احترام القانون الدولي الإنساني، أي قوانين الحرب، ومع انفتاح البلاد على استخراج النفط، أصبحت الحرب أيضًا تدور حول النفط والسيطرة على مناطق النفط في جنوب السودان.
تعمل شركة النفط السويدية (Lundin Oil AB) - تسمى الآن (Lundin Petroleum) المُدرجة في البورصة، والمملوكة جزئياً للبنوك السويدية الكبرى، في السودان منذ عام 1991.
في عام 1997، من خلال شركة فرعية مملوكة بالكامل، انخرطت "لوندين بتروليوم"، في اتفاقية مع حكومة السودان، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير، لاستخراج النفط فيما كان جزءا من السودان آنذاك (جنوب السودان الآن)، في منطقة تسمى بلوك 5A، وهي منطقة، تشكل ضعف مساحة الجمهورية اللبنانية. كانت هذه المنطقة حتى ذلك الحين بمنأى عن الحرب الأهلية، نسبيا.
وفقًا لاتفاقية السلام المحلية لعام 1997 بين الحكومة السودانية والعديد من الميليشيات في الولايات الجنوبية، فإن مسؤولية النظام والأمن في بلوك 5A، من بين أمور أخرى، ستقع على عاتق القوات العسكرية للولايات الجنوبية، وليس الجيش السوداني، بمعنى آخر كانت هذه القوات مسؤولة عن أمن عمليات شركة "لوندين بتروليوم" عندما بدأت في عام 1997.
بالتزامن مع بدء عمليات التنقيب، شنت مجموعة من المليشيات الموالية للنظام هجمات على بلوك 5A للسيطرة عليه، لكن لم تنجح في ذلك.
بعد وقت قصير من عثور لوندين بتروليوم للنفط في بلوك 5A في عام 1999، بدأ الجيش السوداني مع نفس الميليشيات الموالية عمليات عسكرية هجومية، في المنطقة للسيطرة عليها وتهيئة الظروف المناسبة للتنقيب عن النفط في لوندين بتروليوم.
دارت معارك على أراضي الشركة في جنوب السودان. ووصفت الشركة النزاعات المسلحة بأنها "حروب قبلية"، وهو وصف أصبح مألوفا حتى في وسائل الإعلام الغربية. أدت هذه المعارك، والهجمات العشوائية، والاستهداف المتعمد للمدنيين، إلى سقوط أكثر من 12 ألف قتيل من المدنيين، وحرق القرى والملاجئ والنهب، وتدمير الحاجيات الضرورية للبقاء على قيد الحياة، مع انخفاض مذهل في استخدام الأراضي الزراعية، واغتصاب النساء، واختطاف الأطفال، والتعذيب، والتهجير القسري وفرار أكثر من 160 ألف شخص من منازلهم، بعضهم وصل لاجئاً إلى السويد عبر برنامج إعادة التوطين التابع للأمم المتحدة.
قامت منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، وأطباء بلا حدود، بالإبلاغ عن الانتهاكات ضد المدنيين، لكن ذلك لم يصل إلى الرأي العام السويدي والأوروبي خصوصاً بعد لجوء الشركة إلى تعيين وزير الخارجية السويدي آنذاك كارل بيلد في مجلس الإدارة وما صاحب ذلك من ضغط على الصحفيين ووسائل الإعلام لوقف الكتابة والنشر عن الموضوع.
كيف بدأت القصة؟
المؤلفة والصحفية الاستقصائية السويدية كريستين لونديل التي كانت تعمل حينها في مجلة " البيئة" في السويد، بدأت بمراجعة تقارير تتعلق بعمل الشركة، واردة عن منظمات تطوعية أوروبية ناشطة في جنوب السودان، وطرحت السؤال الأساسي: هل الشركة السويدية متورطة حقاً في النزاع؟
جاء رد شركة لوندين في البداية على أسئلة كريستين، بالقول إنها تعتبر التقارير تشهيرية وتحتفظ بالحق في المطالبة بتعويضات إذا تم نشرها. وشككت في دقة التقارير واستنتاجاتها وتفسير القانون الدولي المنصوص عليه في التقارير. نفت الشركة أنها انتهكت القانون الدولي، وتنفي كذلك أنها كانت متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في النزاع في السودان أو أنها شاركت أو كان يجب أن تكون على علم بأي من الأعمال غير القانونية الموثقة في هذه التقارير.
حسناً، ماذا يحدث عندما يتعذر تعقب مجموعات الأعمال والبرلمانيين والموظفين المدنيين؟ عليك الإجابة على أسئلتهم بنفسك، والبحث أكثر، والنظر في النماذج والحجج التفسيرية المحتملة، في أسوأ الأحوال، عليك تخمين ما يمكن أن يقولوه إذا أجابوا بشكل صحيح.
في كتابها "تجارة الدم والنفط، شركة لوندين في أفريقيا" جادلت كريستين، بأن الشركة تعمل في منطقة رمادية عالمية، حيث لم يجرؤ سوى عدد قليل من شركات النفط الأخرى على العمل هناك، وحيث يتم انتهاك القوانين بشكل مستمر، والذراع الطويلة للقانون السويدي ليست طويلة بما يكفي للوصول إلى دول مثل السودان والصومال وإثيوبيا. كما أن الاتفاقيات الدولية غير مجدية تقريبًا عندما يتعلق الأمر بوقف هذا النوع من النشاط. وبالتالي، فإن احتمال تورط الشركة في جرائم ضد الإنسانية، ليس له عواقب ولا يملك المساهمون السويديون معلومات كافية لوضع حد لها، وإن أجساد النساء المغتصبات والجنود الأطفال المفقودين والقرى المحروقة هي التي تمكن من تحقيق أرباح بالمليارات، التي يتم ضخها لاحقًا في جيوب المساهمين السويديين، ومدخري المعاشات التقاعدية، لتمويل شراء بيوت فخمة في الشواطئ المشمسة.
قامت كريستين بالسفر إلى السودان لتقابل المتضررين من السكان المحليين الذين قالوا: أولاً جاء الجنود وأحرقوا القرى، ثم بناة الطرق وأخيراً أهل النفط، قامت برسم خرائط واتباع أعمال لوندين في الأماكن التي يتم فيها ضخ النفط (بلوك 5A).
تزن كريستين الحجج والظروف ضد بعضها البعض. تدعي أن شركة لوندين لا يمكن أن تكون جاهلة بما حدث. كما تدعي أن الشركة تتحمل مسؤولية إبرام صفقات مع أنظمة، مثل النظام السوداني الذي كان يقوده آنذاك عمر البشير المطلوب بتهمة الإبادة الجماعية من قبل محكمة جرائم الحرب في لاهاي. ولا يمكن لأي شخص يعتمد على حماية القوة العسكرية في بلد مزقته الحرب أن يتفاجأ من اللجوء إلى العنف.
تشير كرستين لونديل إلى معلومات من منظمات محترمة مثل منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش وكريستيان إيد (المساعدات المسيحية)، وهي كلها تفيد بأن المنطقة كانت خالية من الناس عندما كانت لوندين تعمل هناك. كما أنها تستنسخ شهادات من النازحين. وتكتب عن ردود الفعل القوية في كندا عندما تم اكتشاف أن شركة النفط الكندية "تاليسمان" كانت تعمل في نفس المنطقة.
تمكنت كريستين من خلال الاستعانة بصور الأقمار الصناعية لكل متر مربع في المنطقة، من إعادة رسم خرائط توزع نفوذ شركات النفط العاملة في المنطقة، وتحدد المسؤولين عن تأمين المنطقة التي تعمل بها الشركة السويدية، والشركات الأمنية المستأجرة، ومع الصور التكميلية في الأرض ومقاطع الفيديو من تحديد أماكن بعض المقابر الجماعية بدقة.
لم تكن كريستين صحفية استقصائية، أو باحثة أو محققة شرطة، بل مزيج من أولئك وغيرهم. كانت موجودة في كل مكان، تقرأ التحقيقات، وتجري مقابلات مع اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا عبر قوارب الموت، أو عبر برنامج إعادة التوطين، والمحامين، والموظفين السابقين في الشركة، وتسافر لحضور المؤتمرات التي تناقش صناعة النفط، ولكن للأسف معظم الأشخاص الذين تلتقي بهم غالبًا ما يكونون شهودًا غير مباشرين على المآسي التي تحدث في عمق البلدان المعادية. مما جعلها تشعر بإحباط.
لكن دائماً كانت عائلة "لوندين" المالكة للحصة الأكبر من الشركة تتقدم بخطوة واحدة، بكفاءة مذهلة، بطريقة معقدة للغاية، مع تخطيط ماهر لمنع التدقيق والتحقيق، سواء من وسائل الإعلام أو السلطات. في كثير من الأحيان لا يكون من الممكن حتى إثبات من يملك الشركات المعنية.
الأمر الذي دفع كريستين إلى شراء حصة في أسهم الشركة، حتى تتمكن من حضور الاجتماع السنوي العام للشركة، والاطلاع على النتائج المالية، والسماح لها بطرح الأسئلة على مجلس إدارة الشركة، باعتبارها من حاملي الأسهم.
تكتب كرستين لونديل عن دور وزير الخارجية السويدي السابق كارل بيلت كعضو في مجلس إدارة شركة لوندين بتروليوم 2000-2006، وكيف يبدو بأنه "مقتنع بأن الوجود الأجنبي هو فرصة السودان للسلام والتنمية".
أثر الفراشة
الكتاب دفع الحكومة السويدية إلى فتح تحقيق جنائي ضخم في القضية في عام 2010. تم إجراء حوالي 270 استجوابا، من بين المستجوَبين كارل بيلدت وزير خارجية السويد ورئيس وزرائها من عام 1991 إلى عام 1994، وزير خارجية السويد من عام 2006 إلى عام 2014، وأعضاء مجلس الإدارة الآخرين والاستماع إلى 150 شخصًا في التحقيق، حيث يغطي تقرير التحقيق الأولي ما يزيد قليلاً عن 80000 صفحة. وبعد خمس سنوات تم تقديم الادعاء.
منذ عام 2016، يشتبه رئيس مجلس الإدارة إيان لوندين والرئيس التنفيذي أليكس شنايتر في المساعدة والتحريض على انتهاك صارخ للقانون الدولي، ومنذ عام 2018 أيضًا للتحريض على الانتهاكات في إجراءات المحكمة، بعد المعلومات عن تهديد الشهود، والتحريض على التجاوزات في الإجراءات القانونية. بعض الشهود الذين قابلتهم كريستين تم نقلهم سراً إلى السويد جواً لتوفير ظروف آمنة ومستقرة للاستماع إلى شهادتهم وروايتهم للأحداث.
في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وجه المدعي العام السويدي إلى المديرين التنفيذيين في الشركة، إيان لوندين (ابن صاحب الشركة) وأليكس شناير، لائحة الاتهام الأولية التي تتعلق بالمساعدة والتحريض على انتهاكات القانون الدولي، وهو ما قد يؤدي إلى السجن، من خلال تمويل عمليات طرد السكان المحليين بعيدًا عن الأرض التي عاشوا عليها لأجيال، و تمويل جرائم ضد الإنسانية كما يوضح رئيس التحقيق الأولي، المدعي العام للغرفة هنريك أتوربس، في لائحة الاتهام.
في البيان الصحفي للمدعي العام حول لائحة الاتهام، كتب رئيس التحقيق الأولي والمدعي العام في الغرفة هنريك أتوربس ما يلي:
"من المهم ألا تنسى هذه الجرائم الخطيرة. تعد جرائم الحرب من أخطر الجرائم التي يقع على مملكة السويد التزام دولي بالتحقيق فيها ومقاضاة مرتكبيها. تأثر عدد كبير من المدنيين بجرائم النظام السوداني التي نعتقد أن المتهمين شاركوا فيها. أُجبر العديد من المدنيين الذين نجوا على الفرار من منازلهم وعدم العودة أبداً، ولا علم لهم حتى يومنا هذا بما حدث لأقاربهم وأصدقائهم".
كما طالب الادعاء بمصادرة 1.4 مليار كرونة سويدية (140 مليون دولار)، من شركة النفط. إنه الربح الذي تم تحقيقه في صفقة كبيرة في عام 2003 بعد اكتشافات النفط في السودان. ويمكن أن يؤدي التصنيف الجنائي إلى السجن مدى الحياة، وفقًا للمدعي العام في الغرفة هنريك أتوربس.
في المقابل حصلت الصحفية على إشادة دولية، وتم منحها جائزة Gold Spade (أرفع جائزة تمنح للتحقيقات الاستقصائية في السويد)، حيث جاء في جواب لجنة التحكيم حول الدافع وراء منحها الجائزة "لامتلاكها الشجاعة والمثابرة والالتزام المعلن عنها لفحص صفقات النفط المشكوك فيها، لشركة سويدية في إفريقيا، لها صلات بوزير خارجية السويد والدبلوماسية السويدية".
تتوقع منظمة العفو أن تكون القضية دليلاً في توضيح مسؤولية الشركات عن احترام حقوق الإنسان، حتى في المواقف الشديدة الخطورة.
تعتبر قضية المحكمة أيضًا مهمة للغاية للأفراد والجماعات في جميع أنحاء العالم الذين يعملون على مساءلة الشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات، لا سيما في الصناعة الاستخراجية، التي غالبًا ما تؤثر على السكان المحليين والبيئة بطريقة ملموسة، كما تقول أولريكا ساندبرج، الخبيرة في مسؤولية الشركات في منظمة العفو الدولية.
"الانحياز" كاحتمال
في الكتاب، يتم عرض العديد من الخيوط المتوازية حيث نلتقي بتجار المخدرات والشرطة وصناع القرار، بينما تحصل في نفس الوقت على نظرة عامة على تاريخ العائلة المالكة للشركة التي تُحب العمل في المناطق المتوترة.
وعلى الرغم من أنه من الواضح أن كريستين متورطة شخصيًا (بالمعنى الإيجابي طبعاً) في عرض المشكلة، لكنها نادرا ما تظهر العاطفة أو تكتب بمزاج.
من المحتمل أن تكون كريستين لونديل كانت على وشك الانزلاق إلى دور الناشطة، لكنها تقاوم بثبات. لأنه نادرًا ما يكون دور الناشط دورًا يختاره الصحفي، بل هو نتيجة حتمية لغياب المساءلة.
من الناحية الأسلوبية، فإن كتاب كريستين"تجارة الدم والنفط، شركة لوندين في أفريقيا" ليست تحفة فنية ولكنها حرفة رائعة تمامًا. هو كتاب حماسي إلى حد ما، يعطي صورة واضحة عن السعر الحقيقي للذهب الأسود.
الجزء الأكثر حزنًا في كتاب كريستين لونديل هو المقابلات مع النساء المغتصبات والمشوهات. كانت قراءة قوية وصادمة. إن مهارة وحساسية كريستين سمحا لها بتجاوز جدار الصمت الذي يحيط بأنشطة الشركات السويدية العابرة للحدود، "التي تنقل معها القيم السويدية إلى العالم "، كما يقول وزير التجارة السويدي في الحكومة السابقة إيوا بيورلينغ.
لكن من الناحية الموضوعية، يبدو أن الكتاب يرتكز على أرضية صلبة لأن كريستين اعتمدت بشدة الشهادات المباشرة التي جمعتها، وعلى التقارير الموثوقة، وصور الأقمار الصناعية، والمقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالسودان ولجنة الحقوقيين الدولية، حيث يدرك القارئ في كل لحظة كيف تتحرك مصائر بشرية معينة نحو البؤس.
إنه كتاب مهم وتغطية صحفية مهمة للفساد الذي ينمو بيننا. هي قصة تحول نموذجي في الصحافة الاستقصائية التي تسعى إلى تحقيق العدالة، والمساهمة في رفع مستوى النقاش المثمر والمثير حول أفريقيا، الطبقية، والعنصرية والازدواجية، والعمل، والعدالة.