أصبحت صحفية سنة 1977، وقد تم تعييني من طرف قناة إذاعية من أشهر القنوات في المكسيك آنذاك. يعود الفضل في ذلك لأني كنت أمتلك سبق استجواب كواوتيموك كارديناس بشكل حصري، وهو أول رئيس حكومة لمدينة مكسيكو. لم أكن أتجاوز حينها الـ 23 عاما، ولكن بفضل تحصيلي الأكاديمي في الجامعة الوطنية المستقلة للمكسيك (UNAM) -وهي أبرز الجامعات في أمريكا اللاتينية- حيث يتم ضخ السياسة في عروقنا ونحن لانزال طلابا. كنت على اطلاع واسع بالشأن الانتخابي، لذلك قاتلت بشراسة لأكون المراسلة الوحيدة لاستجواب هذا السياسي الذي يعد أحد أكبر قادة اليسار في المكسيك ممن فازوا بمنصب هام خلال تلك الانتخابات.
ولكن الرياضة كانت شغفي الحقيقي حيث أحببتها منذ نعومة أظافري؛ لذلك درست علوم التواصل لأتخصص في كتابة مقالات عن دوري كرة القاعدة الرئيسي (MLB) وعن الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية (NFL)، وهو ما لم أنله قط. عندما أخبروني في المحطة الإذاعية مونيتور أنه تم تعييني مراسلتهم الجديدة وطلبوا مني أن أخبرهم بالقسم الإعلامي الذي أود الالتحاق به، أجبتهم دون تفكير: القسم الرياضي؛ ليجيبوني في الحين أن رئيس القسم الرياضي -وهو رجل ستيني- لا يقبل النساء في فريقه، وطلبوا مني أن أختار شيئا آخر.
دفعتني الحاجة المادية آنذاك إلى القبول بالمتاح. وككل مستجد في العمل، كلفت بالتغطيات التي يرفض كبار المراسلين القيام بها، من قبل الحرائق والفيضانات والمسيرات الاحتجاجية لمختلف الفئات الاجتماعية التي لطالما عطلت الحركة في شوارع مكسيكو، كما كان علي التواجد في البلديات 16 التي تشكل عاصمة البلاد. لذلك كان ينبغي أحيانا أن أحضر إلى المناطق الريفية في الجنوب الشرقي، وأحيانا أخرى إلى المستعمرات الشمالية العنيفة والخطيرة.
كان لعملي حس اجتماعي أكثر من القيام بتغطية ندوات صحفية لصالح الموظفين الحكوميين، فقد كنت ومن معي من مراسلي تلك القناة في خدمة المواطنين، فالواجب يحتم علينا البحث عن كل معلومة مفيدة والتنديد بالمخالفات والتجاوزات والظلم أينما وجد. كان عملنا من المواطنين وإليهم. ومع مرور الوقت، انتقلت إلى تغطية ما يخص السلطة التشريعية ومجلس النواب الفيدرالي ومجلس الشيوخ الجمهوري والكونغرس المحلي لمكسيكو. كما أنيطت بي مهمة تغطية أنشطة كارديناس كرئيس للحكومة، ثم أنشطة روساريو روبليس، المرأة التي خلفته عندما استقال من منصبه ليتفرغ للكفاح من أجل الظفر بمنصب رئيس المكسيك؛ وآخرا، تغطية الحملة الانتخابية لأندريس مانويل لوبيث أوبرادور والذي كان يطمح في ذات المنصب والذي أصبح اليوم رئيسا للمكسيك.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات، سمحت لي المحطة الإذاعية مونيتور بتغطية الفعاليات الرياضية، ويرجع الفضل في ذلك لوفاة الرجل الستيني وتعويضه بشخص أكثر شبابا. لكن ذلك حدث في سبتمبر من سنة 2000، وكانت الألعاب الأولمبية في سيدني على وشك البدء. ومع أني لم أسافر هناك لأن زملائي في القسم كانوا قد حصلوا مسبقا على الاعتماد للقيام بالتغطية، إلا أن التغطية الصحفية للمسابقات التي قمت بها من داخل مقصورة إذاعية، والربط بين المراسلين في سيدني كان مذهلا. حينها اكتشفت أمرين في غاية الأهمية:
1- أن تكون مهووسا بالرياضة لا يعني بالضرورة أن تمتلك الأدوات والمعايير اللازمة للقيام بالتغطية المناسبة.
2- بدت لي التغطية الرياضية التي كانت تقوم بها وسائل الإعلام والمراسلون جوفاء: نقل النتائج، من الرابح ومن الخاسر... وما إلى ذلك. إذ إن كل المعلومات كانت تدور عما يحدث داخل الملعب، مما جعلني أشعر بالملل.
أن تكون مهووسا بالرياضة لا يعني بالضرورة أن تمتلك الأدوات والمعايير اللازمة للقيام بالتغطية المناسبة.
حينها اكتشفت أنني لو وظفت كل المعرفة التي اكتسبتها كمراسلة للشأن العام في تغطيتي للرياضة، سأتمكن من تقديم معلومات قيمة، ذات أهمية اجتماعية وتخدم الصالح العام؛ ومن شأنها أن تساعد على فهم السبب وراء فوز فريق وخسارة آخر، وكون الرياضيين مخادعين يتعاطون المنشطات، وفي الألعاب البارالمبية يتظاهرون بالإصابة ليتنافسوا في فئات أقل وبالتالي الظفر بالمزيد من الميداليات. ففي آخر المطاف، الرياضة ليست بمعزل عما يقع في المجتمع: هناك فساد واعتداء وتحرش جنسي بالرياضيين، رجالا ونساء، كما أن هناك مدربين يسيئون معاملة لاعبيهم، وكذا رهانات غير قانونية... إلخ. لقد حصل ذلك بانسيابية كبيرة، ودونما توقف عن تغطية مباريات وبطولات جميع الرياضات. بدأت بـ "تقصي" الحقائق، كفعل لصيق بمهنة الصحافة؛ أو هكذا يجب أن يكون.
بدت لي التغطية الرياضية التي كانت تقوم بها وسائل الإعلام والمراسلون جوفاء: نقل النتائج، من الرابح ومن الخاسر... وما إلى ذلك. إذ إن كل المعلومات كانت تدور عما يحدث داخل الملعب، مما جعلني أشعر بالملل.
وهنا اكتشفت أنه فيما يخص الرياضة، كان عمل المراسلين يتوقف على التصريحات التي يدلي بها المستجوبون، دون أن تتم مقارنة المعلومات أو التحقق منها. كان دورهم لا يتعدى نسخ تصريحات البعض وإعطائها المصداقية اللازمة، دون أن يتم تقصي صحتها من عدمه.
وبالكاد مرت ثلاثة أشهر بعد انضمامي إلى فريق القسم الرياضي، توقفت عن العمل في مونيتور. كان ذلك في ديسمبر من سنة 2000، حتى إنه لم يتسن لي نشر التحقيق الذي أجريته عن موظفي المعهد الرياضي لمكسيكو الذين تمكنوا من التحايل لاستخدام موارد حكومية في إعادة تأهيل أكبر مرفق عام في المدينة والذي هو المنشأة الرياضية. وبعد سنة من ذلك، توجهت لمجلة بروثيسو وقدمت لهم التقرير مكتوبا، وقد أعجب به الناشر عندما قرأه فاشتراه مني بصفتي مراسلة حرة وظل يطلب مني المزيد من المواد الصحفية. وفي أبريل من نفس السنة تم توظيفي من قبل الناشر لأبدأ مسيرتي كصحفية استقصائية متخصصة في الرياضة.
اكتشفت أنني لو وظفت كل المعرفة التي اكتسبتها كمراسلة للشأن العام في تغطيتي للرياضة، سأتمكن من تقديم معلومات قيمة، ذات أهمية اجتماعية وتخدم الصالح العام.
أعرف أنها تسمية طويلة ووقعها غريب، ولكن لابد منها في ظل القصور الحاصل في التغطيات الصحفية للرياضة. فحتى في الأخبار يعلن المبرمجون عن قسم الرياضة بالشكل الآتي: "والآن نترككم مع الأخبار الممتعة، نترككم مع أخبار الرياضة". لقد كرروا على مسامعنا حد الملل أن الأخبار الرياضية هي الجزء "الوردي" من الأخبار، فهي جميلة وممتعة ومسلية. لكن، هل يتوقف الأمر عند هذا الحد؟ نحن معشر المراسلين الرياضيين لنا نفس التزامات المراسلين في القسم السياسي أو الاقتصادي أو الشأن الاجتماعي، إذ نخدم الناس ونوفر لهم المعلومات القيمة، ذات النفع العام والأهمية الاجتماعية، ليتسنى لهم اتخاذ أنسب القرارات، مما يسهم في الدفع بالديمقراطيات.
لقد كرروا على مسامعنا حد الملل أن الأخبار الرياضية هي الجزء "الوردي" من الأخبار، فهي جميلة وممتعة ومسلية. لكن، هل يتوقف الأمر عند هذا الحد؟ نحن معشر المراسلين الرياضيين لنا نفس التزامات المراسلين في القسم السياسي أو الاقتصادي أو الشأن الاجتماعي.
فبفضل هذا النوع من الأخبار التي كتبت تقاريرها بعد التحري الجيد والاستقصاء استطعنا الاطلاع على الاتهامات التي ارتكبها طبيب الفريق الوطني النسائي للجمباز في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحنا على دراية بما قام به المدرب في جامعة بنسلفانيا من اعتداء جنسي على الصغار المشاركين في برنامج الأطفال الذي يرأسه المدرب، والذي انتهى به الأمر مطرودا من وظيفته لعدم التحرك لوقف تلك الانتهاكات، كما علمنا أن الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية قد أخفى الضرر الناجم عن الضربات المتكررة والمنتظمة في هذه الرياضة التي تقتضي الاحتكاك، والتي تمارس اليوم بقواعد واضحة تمنع الضربات المباشرة، وعلمنا كذلك بشأن فضيحة الفيفا بفضل الصحفي الإسكتلندي أندرو جينينغز -الصحفي المفضل دائما وأبدا-.
لطالما كانت التسريبات أداة حيوية في صحافة الاستقصاء، لكنني تعلمت مع مرور الوقت أن هنالك أدوات أخرى تتيح لنا طلب الوصول إلى المعلومات إذ نستطيع الولوج إلى ملفات وأرشيفات وفيديوهات وتسجيلات. لذلك فالصحافة لم تعد حرفة بل عملا يمكننا مزاولته بالاعتماد على مناهج علمية. فنحن مفسرون لظواهر اجتماعية وحقائق، لذلك يجب أن نتوفر على منهجية وتقنيات وأدوات للاستقصاء، لنتمكن من طرح فرضيات والبحث عن دلائل لتأكيد شكوكنا أو استبعادها. فهذه هي الطريقة الوحيدة لتحصين مقال ما، أن أبحث عن تفسيرات محتملة لما أعتقد أنه يقع؛ وقبل أن يكذبني أحدهم أبحث عن تكذيب نفسي بنفسي.
صحيح أن الصحافة الرياضية يمكن - بل ويجب - أن تُخلق من خلال قالب الاستقصاء، عن طريق التخطيط لما سنحقق بشأنه ومعرفة لماذا نقوم بذلك، وما هي المصادر الرسمية والرقمية والعامة والشفوية التي سنعتمدها، وما الملفات التي يجب أن نبحث فيها. يجب أن نتخصص في الموضوع الذي سننشر عنه، إذ لا يمكن الخوض في شرح حقيقة أو واقع دون أن نستوعبه أولا، أي إنه يتحتم علينا الاحتراف وتعلم العمل وفقا لنظام معين.
درست الماجيستير تخصص صحافة وسياسات عامة لتعزيز مهنتي كصحفية، وبفضل ذلك، ومنذ 2015، أحس أنني قدمت أجود المقالات الصحفية، وأفضل التغطيات بالفعل لا بالقول، بالتأكد ومقارنة الحقائق. وقد تمكنت من توجيه ضربات إعلامية قوية عندما أعلنت - مثلا - عن استخدام "الكلينبوتيرول" لتسمين الماشية في المكسيك، حيث نستهلك جميعا تلك المادة المحظورة من خلال تناول لحوم المواشي. وقد كان الدافع وراء هذا التحقيق هو فشل خمسة لاعبين من الفريق الوطني لكرة القدم في تجاوز اختبار المنشطات، ليتبين بعدها، في سنة 2011 عندما أقيمت بطولة كأس العالم لتحت الـ 17 سنة في المكسيك، أن 38% من أصل الـ 128 عينة بول التي تم جمعها كانت نتائجها إيجابية لاحتوائها على الكلينبوتيرول. كذلك الشأن بالنسبة لمنشوراتي عن المدربة الوطنية للسباحة الإيقاعية التي كانت تسيء إلى سبّاحاتها وتعنفهن جسديا ونفسيا واجتماعيا، وكذا الحالات العديدة للاعتداء الجنسي لمدربين في حق طالباتهم والذين كانوا يعمدون إلى جعلهن "حبيبات" في الخفاء للتستر على اعتداءاتهم عليهن. هذه هي الصحافة الرياضية التي يجب أن تتواجد بالموازاة مع نتائج المباريات، إذ ظلت كل هذه المعلومات محجوبة لسنوات، ولكنها رأت الضوء بفضل الصحافة الاستقصائية التي كان لي امتياز مزاولتها. وكما قال جورج أورويل: "الصحافة هي نشر ما لا يريد أحدهم أن ينشر، وما دون ذلك كلها علاقات عامة لا غير".