في مخيم الشاطئ هناك في غرب مدينة غزة، حيث هجر أجداده من قرية هربيا سنة 1948، ولد إسماعيل الغول عام 1997 في عيادة الرمال التابعة لوكالة الغوث. وفي أجواء المخيم حفظ أحاديث الأجداد عن البلاد وحلم العودة، وبين أزقته عايش ظروفه الصعبة، وشهد أكثر من خمسة حروب وتصعيدات مختلفة.
رحلة "الدراجة"
في المخيم درس إسماعيل المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدارس وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين، وحين أنهى مرحلة الثانوية العامة التحق بالجامعة الإسلامية بغزة لدراسة الصحافة والإعلام.
ولد إسماعيل عام 1997 في عيادة الرمال التابعة لوكالة الغوث، وفي أجواء المخيم حفظ أحاديث الأجداد عن البلاد وحلم العودة، وبين أزقته عايش ظروفه الصعبة، وشهد أكثر من خمسة حروب وتصعيدات مختلفة.
منذ ذلك الحين، كرَّس إسماعيل لهذا الطريق نفسه ووقته، فالتحق في أثناء دراسته الجامعية متطوعا بصحيفة الرسالة ثم صحيفة فلسطين، التي عمل فيهما لاحقا في غزة. ودأب على الالتحاق بالعديد من الدورات والورشات التدريبية؛ مثابرة منه لتطوير نفسه في مهنة الصحافة والإعلام. ولم يكتف بالصحافة المطبوعة فحسب، بل عمل في البث الإذاعي، وتعلم التصوير الصحفي، وكان ناشطا عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وتخصص لاحقا في الإعلام الرقمي والنشر عبر الإنترنت وصناعة المحتوى، وعمل مدربا لدى المركز الشبابي الإعلامي بغزة، وكثيرا ما كان يلجأ إليه زملاؤه الصحفيون للحصول على المشورة في هذا السياق.
"بعد معاناة التصوير تبرز معاناة أخرى وهي رفع المواد؛ لذلك علينا أن نتسلق أعلى قمة مبنى في المنطقة لرفعها"، بهذه الكلمات ظهر إسماعيل في أحد الفيديوهات المصورة في جو ماطر، يجلس القرفصاء أعلى سطح أحد المباني، يحمل في يده هاتفه المحمول، ويفرك بيده الأخرى جسده بسبب البرد القارس؛ لينقل لنا بعفوية نوعا من أنواع "النضال" اليومي الذي يخوضه الصحفي الغزي في سبيل تأدية الرسالة.
على دراجة هوائية تنقل إسماعيل الغول بين مدينة غزة وشمالها يتحسس طريقه الجديد في عالم المراسلة الميدانية؛ بحثا عن شبكة إنترنت في بعض الأحيان، وطلبا للمشورة في أحيان أخرى. صديقه الزميل إسلام بدر يقول إنه اقتحم ميدان المراسلة مع بداية حرب الإبادة بعد السابع من أكتوبر؛ إذ كان يعمل قبل ذلك في صحيفة فلسطين. التقاه قادما من مدينة غزة إلى المستشفى الإندونيسي في محافظة الشمال؛ سائلا الزملاء عن توفر شبكة إنترنت تمكنه من رفع المواد، ثم تبدأ رحلة العودة الصعبة على الدراجة نفسها قبل غروب الشمس.
على شاشة الجزيرة
بعد اشتداد حرب الإبادة، اضطُر العديد من الصحفيين ممن فقدوا بيوتهم، أو أمرهم الجيش بإخلاء مناطق سكناهم، إلى التوجه لمستشفى الشفاء طلبا للإيواء، لكن العديد منهم اضطروا إلى النزوح من شمال قطاع غزة إلى جنوبه خوفا من أن يصل إليهم جيش الاحتلال؛ الذي يستهدف الصحفيين حتى ولو كانوا يرتدون ما يشير إلى هويتهم الصحفية. أما إسماعيل فقد قرر البقاء في قلب المدينة رغم كل التهديدات والمخاطر.
يقول أخوه جهاد إنهم فوجئوا جميعا بظهوره على الشاشة؛ فالأوضاع الميدانية لمدينة غزة كانت صعبة جدا يجري فيها استهداف كل شيء، عدا عن انقطاع شبكة الاتصالات والإنترنت في تلك الفترة.
وعن بداية عمل إسماعيل مع قناة الجزيرة، يقول أخوه جهاد إنهم فوجئوا جميعا بظهوره على الشاشة؛ فالأوضاع الميدانية لمدينة غزة كانت صعبة جدا يجري فيها استهداف كل شيء، عدا عن انقطاع شبكة الاتصالات والإنترنت في تلك الفترة. في نوفمبر/ تشرين الأول لعام 2023 ظهر إسماعيل أولا عبر مداخلاته الهاتفية من حين إلى آخر، ثم ظهرت تغطياته المباشرة، وتقاريره التلفزيونية التي بثتها أيضا وسائل إعلامية غربية كبرى؛ ليحدثنا عن صورة الوضع المأساوية من قلب الحدث.
"طريق الآلام"
رغم فجاعة ما ينقله من أحداث، وقف إسماعيل أمام الكاميرا ليل نهار في كل الظروف، وتحامل على نفسه في كثير من الأحيان لينقل صورة أوضاع صعبة، فحين وقف أمام العالم ليحدثه عن المجاعة التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي في شمال القطاع، اعترف كأي إنسان فلسطيني: "لا أخجل أن أقف أمام الكاميرا وأقول أنا جائع، يسألني كثير من الأطفال عن شيء ليأكلوه، وهم لا يعلمون أنني مثلهم لا أنام في الليل من الجوع". وأحيانا يحدثنا عن رحلة البحث المضنية عن الطعام: "بالكاد أستجمع قوتي بعد 24 ساعة من البحث عن الطعام، خسرت من الوزن قرابة30 كيلو في فترة وجيزة، والآن ها نحن نفقد حياتنا جوعا".
وها هو ينقل لنا ما جرى في الاقتحام الثاني لمستشفى الشفاء من اعتقال وتنكيل بالصحفيين، وتدمير معداتهم وتحطيم سياراتهم، وقد احتجزه الاحتلال الإسرائيلي لمدة 12 ساعة بعد أن قيد يديه، وعصب عينيه، واعتدى عليه وعلى زملائه بالضرب المبرح، قبل أن يفرج عنه، ويظل زملاؤه الصحفيون مجهولي المصير إلى هذه اللحظة.
ثمة نوع من الصراع النفسي المستمر يخوضه الصحفيون في غزة مع أنفسهم؛ فهم ليسوا منفصلين عن الواقع الذي يحاولون تغطيته وكشفه للعالم، وكثيرا ما عبّر إسماعيل عن هذا الواقع: "نعيش بلا مأوى وبلا عائلة وبلا أحباب، وسط طريق مظلم، ومصير مجهول، وظروف صعبة".
"خطيئة إسماعيل"
ظل إسماعيل على مدار عشرة أشهر ينقل حقائق لم تُرِد إسرائيل لها أن تظهر على الشاشات، ولم تُرِد لها الوصول إلى الرأي العام الدولي. ومثَّلت تغطياته المباشرة عين العالم على حقيقة ما يجري، وقدمت دليلا دامغا على ما تكذب إسرائيل بشأنه، بالتزامن مع القيود التي تضعها على الصحافة الأجنبية بمنعها من الوصول إلى تغطية ما يحدث داخل غزة.
وشكَّلت تقاريره المصورة شهادات موثقة على ما يرتكبه الاحتلال من مجازر وانتهاكات خطيرة بحق الإنسانية، وهو ما تسعى إسرائيل دوما لحجبه عن الرأي العام الدولي. فلولا وصول إسماعيل لموقع حادثة قتل الطفلة هند رجب حمادة التي حاصرتها دبابات الاحتلال لاثني عشر يوما، وتوثيقه بالكاميرا مسرح الجريمة للجثث المتحللة لها ولعائلتها ولسيارة إسعاف الهلال الأحمر المستهدفة بجانبهم، لنفى الجيش الإسرائيلي مسؤوليته الكاملة عن ارتكاب هذه الجريمة البشعة.
وكان إسماعيل شاهدا على محو عائلات كاملة من السجل المدني، واستهداف التجمعات المدنية والأبراج السكنية المكتظة، وتدمير مراكز ومدارس الإيواء التابعة لمنظمة الأونروا فوق رؤوس قاطنيها من المدنيين العزل. وكان شاهدا أيضا بصوته وكاميرته على أحداث مفصلية في حرب الإبادة، مثل حصار مستشفى الشفاء الأول، الذي راح ضحيته قرابة 100 شهيد؛ إذ وثق معاناة النازحين والمرضى والمصابين الذين اضطروا إلى المغادرة للنجاة بأرواحهم. ووثق كذلك اقتحام مجمع الشفاء الثاني الذي عاد إليه بعد أيام من الإفراج عنه؛ لينقل لنا الدمار الكامل الذي لحق بالمكان من حرق لمرافق المستشفى ونبش للقبور داخلها وسرقة بعض الجثث، ودفن بعض المصابين أحياء.
لولا وصول إسماعيل لموقع حادثة قتل الطفلة هند رجب حمادة التي حاصرتها دبابات الاحتلال لاثني عشر يوما، وتوثيقه بالكاميرا مسرح الجريمة للجثث المتحللة لها ولعائلتها ولسيارة إسعاف الهلال الأحمر المستهدفة بجانبهم، لنفى الجيش الإسرائيلي مسؤوليته الكاملة عنها.
وبقدرته على الحضور في أماكن عديدة ومتباعدة -عدا عن كونها فائقة الخطورة- روى لنا بالصورة الحية كل ما استطاع أن يصل إليه من دمار ومجازر خلفها جيش الاحتلال الإسرائيلي وراءه في مناطق متفرقة من غزة حال انسحابه.
الصحفي إنسان
من هو الصحفي؟ كيف يستطيع الصحفي الفلسطيني في ظل هذه الإبادة أن يبقى على قيد التغطية؟ الصحفي في غزة إنسان في نهاية المطاف تنتابه كثير من لحظات الضعف، لكنه أيضا يظل يربي الأمل لإنهاء معاناة الناس.
أن تفقد أباك من دون وداع ثم تدفن أخاك بيديك، وتودع كثيرا من الأصدقاء إلى الأبد، أن تعيش وحيدا وجائعا ومشردا، وبعيدا عن عائلتك التي نزحت قسرا إلى حيث يتعذر اللقاء لخطورة الوصول، ثم تظل متشبثا بالأمل، كل هذه الأمور صناعة أتقنها إسماعيل الغول، وزوجته شاهدة على ذلك، تقول: "ظل يصبرني كل يوم بأمل اللقاء القريب، وكان يعبر عن شوقه الكبير لي ولابنتنا زينة التي أحزنه كثيرا رؤيتها تكبر بعيدا عنه".
إسماعيل من الناس وللناس، همَّهُ جدا أن ينقل وجع المواطن الغزي في ظل الإبادة المتواصلة، واعتبر أن هذا ما خُلِقت الصحافة لأجله؛ "أن نكون لسان الناس وحالهم ومواسين لهم، هذا واجبنا" كما يقول. فكان خير سند للناس، يساعدهم ويؤويهم ويقف إلى جانبهم ويقدم لهم يد العون بكل ما استطاع إليه سبيلا، يساعد المصابين ويطمئنهم ويطبطب على جراح الناس. وكان محبًّا للأطفال قريبا منهم، يلاعبهم، ويحضر لهم الهدايا ويتصور معهم، ويحتضنهم وقت الحدث، وساعد كثيرين منهم على السفر لتلقي العلاج عبر مناشدات كان ينشرها على حساباته الشخصية.
أما زميلته الصحفية يسرى العكلوك، التي شاءت الأقدار على حد تعبيرها أن تقابله قبل أسبوع من استشهاده، فقد رأت شابًّا متعبًا بعينين حمراوين، وهامة ذابلة، تقول:" ساعدني كثيرا في هذه الفترة القصيرة عن سنة كاملة؛ إذ وجهني كثيرا فيما يخص تقاريري، ونسّق لي لأجل إعدادها". لم يرُدّ إسماعيل أحدًا قط، وقف مع الناس جميعهم واستمع إليهم ولهمومهم، وقدم لكثير من العائلات المعونات من ماله الخاص؛ يروي صديقه المقرب أنس الشريف بكثير من الوجع كيف كان قلبه متسعا للجميع، رغم أن همومه الشخصية لم تكن أقل وجعا.
لم يرُدّ إسماعيل أحدًا قط، وقف مع الناس جميعهم واستمع إليهم ولهموهم، وقدم لكثير من العائلات المعونات من ماله الخاص.
عصر الأربعاء بتاريخ 31 يوليو/ تموز 2024 قتلت إسرائيل إسماعيل بصاروخ موجه، في محاولة متجددة لاغتيال الحقيقة.
قبل يوم من استشهاده أخبر إسماعيل أخاه جهاد بلكنته الغزية: "أنا تعبان كتير، وبدي أرتاح"، وعلى أمل أن ينتهي في اليوم التالي من تغطية خبر مقتل إسماعيل هنية من أمام أنقاض منزله في مخيم الشاطئ، وحين كان يحاول أن يرتاح ولو قليلًا، ارتقى شهيدا مغدورا بقصف إسرائيلي تركه هو وزميله رامي الريفي دون رأس.