تستعر أحداث الحرب الروسية الأوكرانية منذ أسابيع، لتسيطر على المشهد الإخباري والإعلامي العالمي، وتفرض تداعياتها المتلاحقة حضورا كبيرا على المساحات الخبرية ونقاشات شبكات التواصل الاجتماعي. منذ أسابيع، أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته بالدخول إلى أوكرانيا بعد شهور طويلة ظل فيها حاشدا لأعداد كبيرة من هذه القوات على الحدود بما كان يسميه حينها بالمناورات والتدريبات العسكرية، في الوقت الذي كانت فيه دول أوروبية إلى جانب الولايات المتحدة تحذر من هجوم روسي مباغت ووشيك. وعلى مرأى شاشات التلفزيون وعلى المنصات الاجتماعية المختلفة، شاهد الملايين حول العالم الدبابات الروسية وهي تجتاح المدن الأوكرانية الواحدة تلو الأخرى في ظل مقاومة عنيفة، واشتباكات، ودوي للانفجارات، مخلفة الكثير من الدمار في الأرواح والمنشآت ومعيدة للأذهان مشاهد نزوح اللاجئين من الحروب العالمية. ولا تزال أحداث هذه الحرب مستمرة، في الوقت الذي تتوالى فيه التصريحات الأوروبية والعالمية المنددة بها تارة، والتي تتبنى مزيدا من الإجراءات والضغوطات على روسيا لدفعها لوقف الحرب تارة أخرى.
في المقابل، فرضت اتجاهات المعالجة الصحفية مسارات متعددة، ليس لأهمية التغطيات الحية والمباشرة في تشكيل اتجاهات الجمهور وتحويل العالم لمعسكرين فحسب، بل للمستوى الذي سيمكن وسائل الإعلام من تشكيل معاييرها الموضوعية للحرب، وربطها بالجوانب التحليلية التي تمكن من الاستفادة من التاريخ والواقع الحالي والأبعاد المستقبلية ثم الوصول لتراكم معرفي يسعف على تحليل الواقع.
إن هذه العودة الوشيكة والسريعة للحرب في أوروبا بما يذكر بآثار الحروب العالمية يفرض تساؤلات ملحة حول مستوى تعددية الاتجاهات والمعارف التي تقدمها وسائل الإعلام لا سيما في ظل الانتشار الكثيف لمقاطع الفيديو والأخبار القادمة من منطقة النزاع والاستحواذ الكبير للحرب على نقاشات منصات التواصل الاجتماعي.
لذلك، تأتي هذه المقالة التمهيدية التي لن تكون صارمة في تحليلها، نظرا لحداثة الحرب وتغيراتها المستمرة على الميدان، لكنها ستحاول تتبع تطور أدوات الرقابة والتأثير في الاتجاهات التي اعتمدت على وسائل الإعلام العربية والعالمية خلال تغطياتها الأولية للحرب الروسية الأوكرانية.
حرب التصريحات السياسية
خلال السنوات الماضية شهد العالم حروبا مختلفة أبرزها في سوريا واليمن وإثيوبيا، وأنهى الرئيس بايدن حربا طويلة في أفغانستان عبر سحب قواته، وفي كل مرة كانت وسائل الإعلام حاضرة لتغطية هذه الحروب بمختلف الأدوات والمعايير النزيهة والمتحيزة على حد سواء. بيد أن معظم مسارات الحروب في العالم كانت مغلفة بالدعاية وأشدها ما يعرف بالدعاية الغوبلزية للحرب من خلال نشر الأكاذيب والتحيزات والمعلومات المضللة وبنشاط يتخطى المتوقع في التصريحات والاتهامات بين الطرفين المتنازعين.
ولعل الحرب الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا كانت أكثر استحواذا على التغطيات الإعلامية العالمية من سابقاتها من الحروب التي حدثت في السنوات القليلة الماضية، لسببين رئيسين: الأول أوضحه كريستوفر بلاتمان الاقتصادي بجامعة شيكاغو ومؤلف كتاب: "لماذا نقاتل.. جذور الحرب والطرق نحو السلام" قائلا: الحرب هذه المرة لم تعد مجرد صراع إقليمي، وبالنسبة لكبار السياسيين والصحفيين حول العالم فإن هذه الحرب قد تكون نووية وتشكل حريقا عالميا محتملا. أما السبب الثاني فيمكن اختصاره في مستوى التصدع والخطورة الذي يمكن أن تخلقه هذه الحرب في العمق الأوروبي، ولدول فاعلة في السياسة والقرار الدوليين وهي بالتوازي تستحوذ على كبرى المحطات والمؤسسات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية، إضافة لشركات وادي السيلكون العالمية التي تحدث تأثيرا سياسيا عميقا في صناعة القرار والدعوات للتظاهر والتعبئة الجماهيرية.
لقد اتسمت اتجاهات الحرب الروسية الأوكرانية عبر وسائل الإعلام باعتمادها على التصعيد والتحذير من الحرب بناء على وابل من التصريحات السياسية المتلاحقة. ولعل أبرز اتجاه يمكن رصده في هذا الجانب، كان في استباق وسائل الإعلام الشهيرة مثل بلومبرغ ونيويورك تايمز وواشنطن بوست وديلي ميل، لهذه الحرب بأشهر عندما تابعت أحداث الحدود الأوكرانية الروسية على مدار الساعة متأثرة بحالة التصريحات السياسية النشطة من جميع الأطراف على حد سواء.
ألقت التصريحات السياسية والسجالات التي تدور بين المسؤولين الروس وخصومهم في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بظلالها على مسار التغطيات الإعلامية، وتأطير معالجات وسائل الإعلام بشكل خاص، وكانت بقدر من القوة والحسم لتحديد التأثيرات التي يمكن أن تخلفها الحرب على مستويات عدة بينها: مكانة روسيا العالمية وعلاقتها بالمجتمع الدولي، ومستوى الدمار الذي يمكن أن تخلفه الحرب على العلاقات الروسية الأوروبية، والتأثير الذي يمكن أن تصنعه الحرب على أمن أوروبا والعالم. وظهر حينها مصطلح الحرب العالمية الثالثة، وهو المصطلح الدعائي التي استخدمته حكومة الرئيس الأمريكي في خطابها لوصف التحركات الروسية على أطراف أوكرانيا. ويمكن القول إن هذا المصطلح المستحضر لتداعيات الحروب العالمية ينال اليوم حضوره الكبير في وسائل الإعلام في الوقت الذي تشير فيه وسائل الإعلام العالمية إلى التصريحات الأكثر سلبية وحدة بشأن إمكانية استخدام الأسلحة النووية أو التحذير من حروب مدمرة تستخدم فيها معدات عسكرية محرمة دوليا.
يقود الخطاب الإعلامي العالمي اليوم شكلا دعائيا خاصا يتكئ على التصريحات السياسية الأكثر تخويفا وإرباكا لصالح الاستجابة الإعلامية والسياسية، مما عزز عودة مصطلحات الحروب العالمية التاريخية عبر وسائل الإعلام، مثل: "الحلفاء، النازيون الجدد، عودة الاتحاد السوفيتي، القيصرية الروسية"، إلى نشرات الأخبار العالمية. ومن الواضح أن تصريحات الرئيس بوتين اكتسبت حضورها في الصحافة العالمية بشكل مخالف للمتوقع، ويلاحظ الاهتمام العالمي بنقد المصطلحات والعبارات التي يستخدمها وتقديمها في إطار استبدادي وشمولي. في هذا الصدد، علقت بوليتيكو التي تستحوذ مقالاتها على تغطيات وسائل الإعلام: "بوتين يقول إن الأوكرانيين والروس هم نفس الشيء. تعني فكرة العالم الروسي هذه إعادة جمع كل المتحدثين بالروسية في أماكن مختلفة كانت تنتمي في مرحلة ما إلى القيصرية الروسية".
رقمنة الحرب صحفيا
فرضت أدوات الصحافة الرقمية حضورها في تغطية الحرب، واعتمدت عليها المحطات ووسائل الإعلام بشكل كبير لا سيما في ظل تأرجح كفة السيطرة على المدن بين الطرفين الروسي والأوكراني، والاشتباكات في مناطق الانفصاليين، ومكامن عزل وتحركات اللاجئين، ومسارات الطيران الحربي، وغيرها من العناصر ذات الطبيعة الديناميكية في التغطية الصحفية. ومن أبرز هذه الأدوات على مستوى الصحافة الإلكترونية الاعتماد الكبير على الخرائط التفاعلية وتحديثاتها، والصور بالأقمار الاصطناعية، واستخدام الإنفوغرافيك. ومن الأمثلة على ذلك اعتماد نيويورك تايمز على صفحة دائمة محدثة بعنوان "خريطة تتبع الغزو الروسي لأوكرانيا"، توضح مناطق الاشتباك على الخارطة، والمدن المسيطر عليها من الطرفين، وتوقعات تحركات الجيش الروسي خلال الأيام القادمة. كما أن تحديثات الخريطة تظهر الصور المستمرة بالأقمار الاصطناعية، ومن بينها صور جوية للمدن وصور مسربة من كاميرات المراقبة.
وخصصت صحيفة الغارديان صفحة خاصة أسمتها "الحرب الروسية الأوكرانية: دليل متكامل بالخرائط والفيديو والصور"، حيث لا تكتفي الصفحة بتحديثات الأخبار والتحركات وفق نظم الخرائط المختلفة بل تتبع ذلك بمقاطع الفيديو وإحصائيات تفاعلية لعدد اللاجئين ومقارنة بين مناطق الحدود الروسية الأوكرانية خلال السنوات الماضية إضافة لتتبع تاريخي لشكل العلاقة بين روسيا وأوكرانيا، مدعمة بالخرائط وإنفوغراف بالعتاد العسكري لكلا الطرفين.
وصممت الجزيرة الإنجليزية صفحة رصد مباشر الحرب الروسية الأوكرانية تقوم بتقديم خرائط مناطق السيطرة ومسارات هروب اللاجئين وخرائط المواقف العالمية إزاء الحرب وبعض المسارات التاريخية الهامة التي أفضت للحرب.
ثمة أداة أخرى أكثر شيوعا، هي الفيديوهات الإخبارية القصيرة Short Newsletters التي تقدمها معظم وسائل الإعلام لوضع الجمهور في صورة الأحداث عبر توليفة سريعة من التغطيات، والآراء والتحليلات المقتضبة إزاء ما يحدث في الميدان. وتبدو هذه الأداة فاعلة في ظل التراكم الكبير للمعلومات والبيانات القادمة يوميا من منطقة الحرب، وتعدد الآراء والمواقف، ما يضع الجمهور في حالة من التشتت إزاء أهم الموضوعات المقدمة عبر وسائل الإعلام. تقدم خدمة "فوكس" ما يعرف بتفسيرات فوكس وهي خدمة تتبع أداة الفيديوهات القصيرة لتفسير تصاعد الحرب في أوكرانيا. في مادة فيلمية سريعة نشرتها فوكس تم تقديم تبريرات سريعة لأسباب الحرب الروسية الأوكرانية بناء على تغطيات وسائل الإعلام العالمية. بنفس المستوى، قدمت شبكة "تي أر تي" التداعيات الأولية للحرب الأوكرانية اعتمادا على تساؤلات الصحافة الرئيسية: ماذا ومن وكيف ولماذا وأين ومتى؟
الرقابة طرفاً فاعلاً في إعلام الحرب
شهدت الأيام الماضية حضورا كبيرا للأخبار التي تنتجها وزارة الدفاع الأوكرانية والمسؤولين الأوكرانيين والصحفيين الذين يغطون في المناطق التي لا تزال تسيطر عليها أوكرانيا وكنتيجة لذلك تميل اتجاهات التغطية الإعلامية لصالح الطرف الأوكراني بالحرب مقارنة بقلة المعلومات والمصادر الموثوقة التي ترتبط بجهود الطرف الروسي.
وفي محاولة سريعة لاستطلاع اتجاهات المادة الصحفية لأكثر من 20 مادة صحفية منشورة عبر الديلي ميل ونيويورك تايمز ورويترز؛ يلاحظ أن المعلومات التي وردت من الطرف الروسي تعد قليلة نسبيا ولا تتجاوز 10% من مجمل المعلومات المقدمة من الطرف الأوكراني. وكان من الأخبار الهامة التي تثبت مستوى الاندفاع العالمي الإعلامي لصالح أوكرانيا، تلقف معظم وسائل الإعلام العالمية لتصريح القوات الأوكرانية والرئيس زيلينسكي بإحصائية تتجاوز 11 ألف قتيل من الجيش الروسي منذ بداية الغزو لأوكرانيا وهي لا تزال تستخدمه كأحد أهم المؤشرات الإعلامية على طبيعة الحرب ونتيجتها رغم أن القوات الروسية باتت تفصلها كيلومترات قليلة عن السيطرة على العاصمة كييف. في سياق ذلك عنونت ديلي ميل في تقرير مصور نشر بتاريخ 7 مارس: "توقف غزو بوتين، تزعم كييف أنها دمرت العشرات من طائرات الهليكوبتر الروسية بين عشية وضحاها، واستعادت مدينة، وقتلت 11000 جندي بينما لم يسيطر الروس على أية أراض مهمة مما أثار الآمال في فوز أوكرانيا بالحرب".
تتسع حدة التأطير وأدوار الرقابة في الحرب، الأمر الذي يزيد من الإجراءات التحريرية والإدارية على المحتوى المقدم عبر وسائل الإعلام، حيث تظهر التغطية اهتماما مطلقا بمجمل التحركات والانتصارات الأوكرانية مقابل ضعف الاهتمام العالمي الإعلامي بالتحركات الروسية على الميدان. بررت وكالة رويترز في تقرير ابتعاد وسائل الإعلام الأجنبية عن تغطية الأحداث من روسيا أو دخول أماكن سيطرتها في أوكرانيا بمساعيها لحماية الصحفيين العاملين في الميدان في الوقت الذي تستخدم فيه الحكومة الروسية قانونا يسمح لها بسجن الصحفيين 15 عاما في حالة اتهامهم بالتجسس، الأمر الذي قد يعرض الصحفيين الأجانب لتهم ملفقة بهدف الانتقام منهم.
يفضي هذا التأثير إلى أن تمارس وسائل الإعلام دورا كبيرا في عزل روسيا عن الخارطة الإعلامية العالمية بصورة أكثر من السابق خلال الأيام المقبلة، حيث ستتجه وسائل الإعلام إلى تصعيد حضور المسؤولين الأوروبيين والأوكرانيين. وغالبا ما سيتم تقديم التحركات ووجهات النظر الروسية على لسان أهم مسؤوليها فقط، مثل الرئيس بوتين نفسه أو وزير الخارجية سيرجي لافروف.
في الأسبوع الماضي أعلن عدد كبير من شركات وادي السيلكون التي تقود عالم الشبكات الاجتماعية وقف خدماتها أيضا في روسيا، بالتزامن مع منع السلطات الروسية للوصول لشبكتي فيسبوك وتويتر. وهذه هي المرة الأولى التي تتسارع فيها الخطوات الإجرائية التصعيدية من جانب الأوروبيين للتدخل في عمل الشبكات الاجتماعية ودفعها لتقييد وصولها للمستخدمين أملا في عزل المحتوى الروسي عن العالم. ينظر لذلك في إطار تعددي على أنه وسيلة جديدة للمزيد من التحيز والتحكم في المحتوى المقدم عبر الشبكات الاجتماعية.
على هذا الأساس، تثار ثلاثة مسارات هامة بشأن تأثير تراجع تعددية المعلومات المتوفرة خلال الحرب، وقدرة وسائل الإعلام على ممارسة نشاطها المهني دون ضغوط تحريرية ورقابية من قبل الحكومات في الوقت الذي أصبح فيه "المنع وتقييد العمل الصحفي" في روسيا أساسا للعقوبات الأمريكية الأوروبية المتخذة ضد نظام الرئيس بوتين:
- الأول بشأن مستوى تأثر وسائل الإعلام العالمية بالقيود الروسية المستمرة عليها وتراجع الحريات الصحفية في هذا البلد مما دفع بالكثير من المؤسسات الإعلامية العالمية لمراجعة إجراءات عملها في المناطق التي تخضع للسيطرة الروسية أو العمل داخلها لا سيما في ظل اتساع حدة الاشتباك في الميدان والتنبؤات بأن تسلك الحرب مسارا أكثر شدة وصعوبة في قادم الأيام.
- الثاني بشأن تأثر الإعلام العالمي بالسياسات الأوروبية والأمريكية إزاء الحرب لا سيما في ظل اعتمادها على التغطيات القادمة من كبرى المحطات الأوروبية والأمريكية، والثقل المستمر الذي تشكله وكالات الأنباء التي تأسست في تلك البلدان على خدمات الصحافة والإعلام الدولية.
- الثالث بشأن ضآلة استمالة الطرف الروسي لوسائل الإعلام وعدم قدرته على منح ضمانات للصحفيين للعمل في مناطق سيطرته دون إكراهات أو ضغوط.
وأخيرا، من المتوقع أن تأثيرات وسائل الإعلام في الحرب ستكون متزايدة خلال الأيام المقبلة لا سيما في ظل اشتداد حدة الصراع والاستقطابات العالمية للمواقف والآراء، والاعتماد العالمي على وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية ودورها الهام في التغطية الإعلامية العالمية. مع ذلك، يبقى الرهان صعبا بشأن أن تكون لوسائل الإعلام القدرة الكبيرة على التمدد في مناطق الحرب وتغطية كافة أشكال النزاع دون انسحابات من الميدان.