إذا فتحت أية وسيلة إعلامية خلال النصف الأول من العام الحالي 2020، ستجد نفسك أمام فيض من الأخبار العلمية. والسبب بكل تأكيد يعود إلى جائحة كورونا (كوفيد-19)، إذ تم توجيه كل إمكانيات وسائل الإعلام من مراسلين لنشرات إخبارية وبرامج نحو إذاعة وتحليل وتدقيق الأخبار العلمية، سواء فيما يتعلق منها بالتأثيرات الصحية للجائحة أو بالتجارب العلمية للمصل واللقاح. وفي ظل هذه الطفرة غير المسبوقة للأخبار العلمية في وسائل الإعلام العربية، برز السؤال عن مدى حضور الصحافة العلمية في كل هذا الزخم الخبري والمعلوماتي المتدفق يوميا.
يقينا أن الإجابة عن هذا السؤال تحتاج أولا إلى تشخيص وضع الصحافة العلمية في سياق وضع الصحافة العربية عامة من ناحية التعريف والتمويل، ثم تسليط الضوء على مدى مواكبة الصحافة العلمية لجائحة كورونا، والدروس المستفادة من الجائحة وتأثيرها على مستقبل هذه الصحافة.
الصحافة العلمية عربيا
صدرت أول مجلة طبية متخصصة عربية في مصر عام 1865 تحت اسم "اليعسوب" عن مدرسة الطب حينها، وتميزت بعرض المعلومات الصحية والعلمية بطريقة يسهل على العامة فهمها واستيعابها. كما كانت أول مجلة تسمح للنساء بالكتابة فيها. توقفت التجربة بعد خمس سنوات، ولم تتكرر مرة أخرى إلا بعد نحو مئة عام، وتحديدا في 1969 مع تأسيس مجلة "طبيبك" الخاصة التابعة لدار "الهلال" المصرية الحكومية. توالت بعدها الإصدارات العربية التي بقيت محدودة الانتشار مقارنة بأنماط الصحافة الأخرى، لا سيما السياسية والاقتصادية والرياضية.
بشكل عام، تعد الصحافة العلمية أحد فروع الصحافة المتخصصة، مثل الصحافة الرياضية والفنية. غير أنها تختلف عنهما بكونها لا تقع ضمن منظومة اقتصادية مثل اقتصاديات الرياضة أو الأفلام وصناعة الترفيه. ولهذا، فإنها محرومة من مصدر مالي منتظم ومتدفق يسمح بتعدد منصاتها ونشر أخبارها. كما أن رأي الجمهور ليس عنصرا أساسيا في البحث العلمي مثلما هو الحال في المجال السياسي أو الرياضي أو الفني، الأمر الذي قلل من فرص السعي الحثيث للترويج للصحافة العلمية بين الجماهير.
وليس سرا أن الصحافة العربية بشكل عام تعاني من هيمنة السياسة على كافة مناحيها، وأن التمويل لأغراض سياسية يلعب الدور الأبرز في تأسيس واستمرار العديد من وسائل الإعلام العربية، سواء أكان هذا التمويل عبر الجهات الرسمية أو عبر رجال الأعمال.
ولا يعد وضع الصحافة العلمية في العالم العربي استثناء من وضعها في بقية دول العالم، مع فارق الانتشار ومستويات التمويل. فالصحافة العلمية في الدول الأوروبية مثلا تعاني من مشاكل أخرى تتعلق بغلبة العنصر المعلوماتي على العنصر التحليلي، والخلط بين الترويج للقضايا الصحية الهامة والجهد المفترض في سبر أغوار علاقات السطوة المالية والنفوذ والسياسة وتأثيراتها على البحث العلمي. هذا بالإضافة إلى تغول الخبر السياسي والرياضي والفني على الخبر العلمي.
"وباء المعلومات"
ومع إعلان منظمة الصحة العالمية عن جائحة كورونا، وجد الصحفيون العرب أنفسهم أمام حرب على جبهتين: أولاهما تبسيط المعلومات العلمية المعقدة لغير المتخصصين، وهي مهمة شاقة لدى جمهور متعطش لتفسير كثير من القرارات الصحية التي تمس نمط حياته مباشرة. وكان يفترض أن يقوم بهذه المهمة صحفيون علميون. والثانية تفنيد سيل متدفق من الأخبار المزيفة، الأمر الذي دعا مجلة "ساينتيفيك" الأميركية أن تخصص في نسختها باللغة العربية "للعِلم" سلسلة تقارير لمكافحة ما وصفته بانتشار "وباء المعلومات" الناجم عن الشائعات والمعلومات المغلوطة التي صاحبت انتشار الجائحة.
وقد حذرت عدة وسائل إعلامية ناطقة بالعربية من مغبة انتشار الخبر العلمي المزيف عن الجائحة في تقارير متعددة خلال الأشهر الماضية، مثل تقارير "الجزيرة" و"بي بي سي" العربية و"يورو نيوز" و"روسيا اليوم"، بالإضافة إلى الصحف والمواقع المحلية. ترافق ذلك، مع جهود منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر في إبراز الخبر العلمي المتعلق بفيروس كورونا، وتوفير أقسام خاصة لهذا الخبر من مصادر موثوق بها.
غير أن هذه الجهود لم تصمد كثيرا أمام قوة الأخبار المزيفة التي تفشت بشكل كبير، وأبرزها نظرية المؤامرة التي تشكك في وجود الجائحة أو تأثيرها الحقيقي، مثل فيديو الشابة المصرية "مي خريستي" الذي حصد أكثر من تسعة ملايين مشاهدة على فيسبوك في غضون أيام قليلة، قبل أن يتم حذفه بعد عدة بلاغات تتهمها بنشر معلومات مغلوطة.
بدا واضحا أن الإعلام العربي يدفع ثمن غياب الصحافة العلمية المتخصصة، سواء ضمن المؤسسات الإعلامية والصحفية أو عبر منصات إعلامية متخصصة في العلوم. فالجمهور من ناحية غير معتاد على التفاعل مع الخبر العلمي، وليست هناك برامج أو وسائل إعلامية علمية ذات شعبية يمكن أن تتفاعل بشكل جذاب لتقديم معلومات وتحليلات صحيحة حول جائحة كورونا، باستثناء برنامج "الدحيح" على منصة "AJ+" العربية.
وكانت المفارقة أن يزداد الطلب على مهمة الصحفي العلمي في وقت يبلغ تعداد هؤلاء الصحفيين نسبة قليلة جدا في العالم العربي، ويتركزون بشكل أساسي في النسخ العربية من المطبوعات الأجنبية -وهي محدودة- مثل الطبعة العربية لمجلة "نيتشر" البريطانية، أو مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" العربية، أو منصة "للعِلم" التابعة لمجلة "ساينتيفيك" الأميركية. ولا يزال المحتوى العربي الصحفي الجاد في العلوم غائبا، خصوصا فيما يتعلق بدقة الترجمة العربية للمصطلحات.
لقد مثلت جائحة كورونا جرس إنذار للمؤسسات الإعلامية وجهات التمويل الخاصة والحكومية حول أهمية الصحافة العلمية ومخاطر غياب تبسيط المحتوى الصحي والعلمي، تماما كجرس الإنذار الذي دقته للحكومات والأنظمة الدولية حول أهمية الرعاية الصحية وفداحة الإهمال في هذا القطاع وتأثيره على الأمن القومي. ولأن الصحافة العلمية غير مؤدلجة فكريا وغير قابلة للتسيّس بطبيعتها، فإن أمامها فرصة للتطور عبر استحداث أقسام وبرامج ومنصات علمية جديدة ذات محتوى عربي أصيل.
وربما يمثل البعد عن المشاكل السياسية ميزة لتوسع التمويل الأجنبي المرصود للتدريب الصحفي، إذ شهد هذا التمويل تركيزا على دعم الصحافة العلمية في الفترة الماضية، مثل مشروعات للكتابة العلمية للصحفيين المدعومة من معهد "غوته" الألماني والهيئة الألمانية للتبادل العلمي في كل من الأردن وتونس ومصر.
المصادر:
-
تاريخ الصحافة المصرية.. دراسة تاريخية ومعاصرة، د. عواطف عبد الرحمن، د. نجوى كامل، 2020
-
the Guardian. 2020. The Problem With Science Journalism: We’Ve Forgotten That Reality Matters Most. [online] Available at: <https://www.theguardian.com/media/2015/dec/30/problem-with-science-jour…;
-
زايد, ه., 2020 "كورونا المستجد" يوفر بيئة خصبة لـ"وباء المعلومات".
[online] للعِلم. Available at: https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/news/covid19-provides-fertile-environment-for-infodemic/
-
واقع وتحديات الصحافة العلمية في العالم العربي، هبة حسين، Arab Media & Society، الجامعة الأميركية بالقاهرة