رن الهاتف في الساعة السابعة والنصف مساء تقريبا.
كنت قد عدت لتوي إلى المنزل وكان أحد منتجي وحدة التحقيقات الاستقصائية في لندن قد أخبرني أنهم حصلوا على وثائق مسربة من حزب العمال البريطاني. حزب العمال واحد من حزبين اثنين يحكمان بريطانيا، وكانت الوثائق تغطي فترة رئاسة جيرمي كوربن للحزب في الفترة بين عام 2015 و2020.
كان كوربن ينتمي إلى اليسار في الحزب، ولديه أجندة اشتراكية ديمقراطية تقدمية تتضمن زيادة الإنفاق على خدمات الصحة العامة والتعليم الجامعي المجاني، وكانت أجندته تعد متطرفة من حيث معارضتها لأربعين عاما من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي كانت تركز الثروة في أيدي عدد قليل من الناس.
كما كان أول رئيس لأحد أكبر الأحزاب الغربية يعلن أنه سيعترف بدولة فلسطينية مستقلة في حال فوزه.
أول سؤال لي كان: هل تضمنت التسريبات الملفات التأديبية في الحزب؟
قد يبدو هذا سؤالا غريبا، لذلك سأقدم بعض المعلومات لشرح السياق لمن يقطنون خارج بريطانيا.
نشط كوربن طوال عمره ضد العنصرية، كما أنه اعتقل أثناء نشاطه ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وقد التقيت به في عدة مناسبات وسافرت معه إلى تونس عام 2011 بعد سقوط نظام بن علي، وفي ذلك الوقت كان قد خدم لفترة طويلة في البرلمان وكنت معجبا بمعرفته الدقيقة بالشؤون العالمية، كما أنه مع أحداث الربيع العربي آمن بشدة أن شعوب الشرق الأوسط لديها الحق في تحديد هويتها الخاصة بها.
جمعت فريقا يتكون من أربعة محققين قضوا أكثر من ستة أشهر في الاطلاع على الوثائق، وقد كانت مهمة مضنية وبالغة الدقة. ابتكرنا أداة بحث بهدف العثور على معلومات بالاعتماد على مواضيع وكلمات متضمنة في الملفات.
بعد أربع سنوات انتخب كوربن رئيسا لحزب العمال من قبل أعضائه، وانضم مئات الآلاف إلى الحزب، كان معظمهم من فئة الشباب الذين يشتركون مع كوربن برؤيته التي تسعى إلى بريطانيا أكثر مساواة وعالم أكثر عدلا، ثم أصبح حزب العمال أكبر الأحزاب السياسية في أوروبا.
ولكن بعد فوز أولي في استطلاعات الرأي، حدث أمر جدير بالاهتمام؛ وهو أن أعضاء حزب العمال من مناصري كوربن بدأوا يعلقون عضويتهم ويطردون من قبل إدارة الحزب، وكان من الغريب أن هؤلاء الأعضاء الاشتراكيين التقدميين متهمين بأنهم عنصريون متعصبون.
بحلول عام 2018، أصبح حزب العمال وتاريخه الحافل بمحاربة العنصرية والترويج للحقوق والمساواة، يقدم في وسائل الإعلام البريطانية على أنه حزب مكون من معادي السامية الذين يتبنون سياسات اليمين المتطرف، كما أصبح الناشطون اليساريون يوصمون علنا كما لو كانوا مناصرين لجماعات النازيين الجدد. أطلق على ذلك اسم "أزمة معاداة السامية"، التي ألقت بظلالها على الحزب بزعامة كوربن وأعاقت عمله السياسي، وكان ذلك أحد العوامل التي أدت إلى هزيمته الساحقة في انتخابات عام 2019، إذ إنه هو نفسه اتهم بمعاداة السامية من قبل البعض، بل إن من لم يتهموه بذلك مباشرة ادعوا أنه على الأقل غض الطرف عن معاداة السامية في الحزب.
والآن بالعودة إلى المكالمة الهاتفية التي تلقيتها من منتج وحدة التحقيقات في لندن قبل أكثر من عام من نشر وثائقي "ملفات حزب العمال"، فقد كانت الوثائق تحتوي على كافة سجلات الحزب التأديبية منذ عام 2015 وحتى السنوات التالية، وهذا كان من شأنه أن يوفر معلومات مذهلة يمكن أن تسلط الضوء على ما كان يحدث داخل حزب العمال خلال "أزمة معاداة السامية" المتعلقة بكوربن.
المكالمة التالية مع المنتج كانت أكثر إثارة للقلق، إذ كانت الملفات القيّمة بحجم 450 غيغابايت، وهذا حجم ضخم. احتوت الملفات على مئات آلاف المستندات بصيغ وورد وبي دي إف بالإضافة إلى الرسائل البريدية، فكيف سنتعامل مع كل ذلك؟
جمعت فريقا يتكون من أربعة محققين قضوا أكثر من ستة أشهر في الاطلاع على الوثائق، وقد كانت مهمة مضنية وبالغة الدقة. ابتكرنا أداة بحث بهدف العثور على معلومات بالاعتماد على مواضيع وكلمات متضمنة في الملفات.
تحليل الملفات التأديبية قدم لنا أول اكتشافاتنا. لقد كشف لنا دليلا على أن الرواية التي سيطرت على النقاشات السياسية في بريطانيا لمدة خمس سنوات كانت خاطئة تماما.
تحليل الملفات التأديبية قدم لنا أول اكتشافاتنا. لقد كشف لنا دليلا على أن الرواية التي سيطرت على النقاشات السياسية في بريطانيا لمدة خمس سنوات كانت خاطئة تماما.
وحدة التحقيقات لا تنشر الوثائق المسربة مثلما تفعل المنظمات، فنحن من الموقعين على ميثاق هيئة تنظيم الاتصالات البريطانية "أوفكوم" الذي يضمن، جنبا إلى جنب مع قوانين حماية المعلومات، حماية الخصوصية المشروعة، لذلك فنحن فقط ننشر الوثائق التي تكشف المخالفات والتي يجدر للرأي العام معرفتها، ونحن نبلغ الأشخاص الذين تذكرهم الوثائق كما نطلب منهم ردا على الأدلة التي نجمعها.
لم نكن لننشر قط الملفات التأديبية، ولكن تحليلها قدم لنا قصة مذهلة.
خلال عامين ونصف قضاها كوربن على رأس الحزب، لم تكن له أي سيطرة على موظفي الحزب ولم يكن له أي دور في الإشراف على فريق النزاعات الذي كان يتعامل مع الشكاوى حول معاداة السامية. وفي تلك الفترة، وفي الوقت الذي كان أحد معارضي كوربن يشغل منصب الأمين العام لحزب العمال، قدمت أربع وأربعين شكوى متعلقة بمعاداة السامية للجنة التنفيذية الوطنية التابعة للحزب لتبت فيها، وهي الهيئة التي تتخذ القرارات المتعلقة بتعليق عضوية الأفراد أو طردهم، ولكن بمجرد أن عين كوربن أحد حلفائه في المنصب قفز عدد الشكاوى المقدمة للجنة إلى 379.
من بين الملفات المسربة كانت رسالة أرسلها كوربن إلى الأمين العام للحزب آنذاك، إيان مكنيكول، في عام 2018، يطلب منه القيام بالمزيد من العمل للتعامل مع شكاوى معاداة السامية، إذ يكتب كوربن: "من الواضح أن الإجراءات الحالية غاية في البطء ولا تتناسب مع حجم القضايا التأديبية التي يتعامل معها الحزب".
يزعم مكنيكول في مسودة أحد الردود أن حجم معاداة السامية في الحزب تضاعف، ويقول: "أكثر من نصف الشكاوى مرتبطة بأشخاص ليسوا أعضاء في الحزب، وبالتالي فإن هذا ليس من اختصاص فريق الشكاوى".
ويقول لكوربن إن "تعليقات مضللة تهاجم وحدة النزاعات وتقوض العمل الذي يقومون به، وهي لا تخدم إلا العاملين في الصحف اليمينية".
ولكن صحافة اليمين كانت هي التي ادعت باستمرار أن كوربن لم يكن يفعل ما بوسعه للقضاء على معاداة السامية، بل إنها ادعت أنه كان يشجع عليها.
جمعنا الأرقام في رسم بياني ووجدنا أنه منذ لحظة استلام حليف كوربن لمنصب الأمين العام لحزب العمال، ازداد عدد عمليات التحقيق وتعليق العضوية والطرد بشكل كبير.
الرسم البياني وحده يناقض الرواية الرائجة لوسائل الإعلام خلال فترة رئاسة كوربن، وهو يقدم نظرة أورويلية تكتم فيها الحقيقة وتقلب فيها الوقائع.
كما تكشف الملفات التأديبية عن سر آخر، وهو أن تعريف معاداة السامية واسع جدا لدرجة أن أعضاء الحزب كانت تعلق عضويتهم بسبب انتقادهم للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، بل إن أحد الأعضاء علقت عضويته بسبب مطالبته بمحاكمة محكمة الجنايات الدولية لرئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو (الذي أعيد انتخابه مؤخرا) ولإسرائيل بسبب جرائم حرب.
حرب إسرائيل على غزة عام 2014، والتي أطلقت عليها إسرائيل اسم "الجرف الصامد"، تسببت في مقتل أكثر من ألفي فلسطيني، وقد أغضبت وحشيتها الكثيرين في حزب العمال، ولكن التعبير عن ذلك الغضب كان كافيا لتعليق عضوية أشخاص والتحقيق معهم بتهمة معاداة السامية.
وحدة التحقيقات لا تنشر الوثائق المسربة مثلما تفعل المنظمات، فنحن من الموقعين على ميثاق هيئة تنظيم الاتصالات البريطانية "أوفكوم" الذي يضمن، جنبا إلى جنب مع قوانين حماية المعلومات، حماية الخصوصية المشروعة.
كما تم تعليق عضوية أي شخص وصف إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري، رغم أن هيومن رايتس ووتش وأمنستي ومعظم المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان في العالم تتفق مع ذلك. هذه حقيقة.
كان من الواضح أن ثمة خطب ما. أما الأمر الأكثر إثارة للدهشة فهو أن بعض الأعضاء تم التحقيق معهم بسبب مشاركتهم روابط لتحقيق أجرته وحدة التحقيقات عام 2017 حول التأثير غير المشروع لإسرائيل في السياسات البريطانية، وفيه تسجيل سري يظهر فيه موظف بأحد المناصب السياسية العليا في السفارة الإسرائيلية وهو يتناقش مع موظفة خدمات مدنية بريطانية حول كيفية التعامل مع النواب الذين ينتقدون إسرائيل، فيسألها: "هل يمكنني أن أعطيك أسماء بعض النواب الذين أقترح الإطاحة بهم؟". هذا التحقيق أجبر السفير الإسرائيلي على الاعتذار للحكومة البريطانية وعلى تسريح الشخصية الدبلوماسية.
مع ذلك اعتبرت مشاركة روابط هذا التحقيق سببا كافيا لإيقاف عضوية أحد الأعضاء والتحقيق معه.
بعض الأدلة التي تم العثور عليها أيضا في ملفات حزب العمال تكشف عن تأثير المجموعات اليهودية الداعمة لإسرائيل في بريطانيا على قادة حزب العمال، فمثلا، التقت أماندا بومان - نائبة رئيس مجموعة "مجلس مندوبي يهود بريطانيا" واسعة التأثير- بستيف ريد، وهو وزير مقرب من السير كير ستارمر.
تثير بومان موضوع حركة المقاطعة "بي دي إس"، وهي حركة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية وسحب الاستثمارات بهدف الضغط على إسرائيل لإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية.
إسرائيل قلقة كثيرا من حركة المقاطعة وقد وافق حزب المحافظين البريطاني على تقديم مشروع قانون يعتبر مقاطعة إسرائيل من قبل الهيئات العامة فعلا غير قانوني.
تقول بومان لريد إنها "تدرك أنه بينما قد يتردد حزب العمال حيال دعم المحافظين في مشروع القانون المضاد لحركة المقاطعة، فإنها تنصح بأن قيام العمال بأي شيء يعارض مشروع القانون سيكون سلوكا غير حكيم".
وتضيف بومان قائلة إن "مجلس مندوبي يهود بريطانيا حريص على مواجهة بعض الافتراضات لدى نواب حزب العمال بأنهم بسبب التزامهم الظاهري بمكافحة معاداة السامية فإن ذلك يعطيهم تفويضا مطلقا لقول ما يشاؤون عن إسرائيل".
يقول ريد إنه "لن يقبل على الإطلاق بالمحاولات للتفرد بإسرائيل ونزع الشرعية عنها"، وهذا يتضمن القول بأن إسرائيل دولة فصل عنصري.
هذا بالطبع كان يعني استبعاد الفلسطينيين من النقاش العام في المملكة المتحدة، ففي الوقت الذي يعيش فيه 4.7 مليون فلسطيني إما في سجن مفتوح أو تحت احتلال عسكري، يتم التكتم على معاناتهم في حين تنشغل الطبقة السياسية في بريطانيا بنقاش مصطنع حول ما إذا كان رئيس أحد الحزبين في الحكومة معاديا للسامية.
تحتوي ملفات حزب العمال على الكثير من المخالفات والمكائد وانعدام النزاهة، ولكن تشويه سمعة كوربن ومناصريه بمزاعم معاداة السامية هو على الأرجح أكثر ما اكتشفناه فظاعة. الرواية التي قدمت لعامة البريطانيين كانت خاطئة ببساطة، كما كان الكثيرون في حزب كوربن مستعدين لمنع رئيس حزبهم من الفوز بالانتخابات من خلال تصويره على أنه غير مؤهل للحكم.
ملفات حزب العمال أعادت صياغة مرحلة مضطربة في تاريخ بريطانيا السياسي، كما أنها تكشف عن الضعف الموجود في خطابها السياسي وعن انعدام الفضول لدى صحفييها في أقل التقديرات، وتبين أيضا كيف يمكن لمجموعات الضغط أن تقلب الحقائق.
لجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل الحق بالترويج لها، شأنها شأن جماعات الضغط الأخرى التي تروج لبلدانها، ولكن جماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل تلعب لعبة أخرى إذ إنها تُسكت أي نقاش يتعلق بأهلية إسرائيل بوصفها أمة من خلال الادعاء بأن النقاش من أساسه معاد للسامية، ولهذا أثر مرعب على حرية التعبير.
في الوقت الذي تضج فيه وسائل التواصل الاجتماعي بالنقاش حول الملفات تجنبت الصحف وقنوات التلفزيون البريطانية التعليق عليها بالمطلق تقريبا.
ميديا لينس وصفت انعدام الرغبة بتغطية ملفات حزب العمال بأنها تشبه ميثاق الصمت لدى المافيا، ولكن الأمر يتجاوز بكثير مجرد كونه اعترافا بخطأ، فـ "القضايا التي حققت فيها وحدة التحقيقات في الجزيرة لا تمس طريقة عمل حزب العمال فحسب، بل إنها تكشف عن ممارسات بالغة الإضرار بالديمقراطية البريطانية نفسها".
"ملفات حزب العمال" أعادت صياغة مرحلة مضطربة في تاريخ بريطانيا السياسي، كما أنها تكشف عن الضعف الموجود في خطابها السياسي وعن انعدام الفضول لدى صحفييها في أقل التقديرات، وتبين أيضا كيف يمكن لمجموعات الضغط أن تقلب الحقائق.