كان نبأ شركة فيسبوك مؤخرا، حول قرب اعتمادها استراتيجية جديدة تقضي بمحاربة محتوى المواقع، التي تنشر عبر صفحاتها بالفيسبوك المقالات المعروفة بـ "صائد النقرات" Clickbait، صادما لكل المواقع التي تعتمد منذ زمن طويل على سياسية صناعة ونشر المقالات التي لا تعكس عناوينها مضمونها، بغية زيادة عدد اللايكات والمتابعات والنقرات بمواقعها، وهي سياسة قديمة جديدة تطورت بتطور إمكانات إيصال المحتوى لأكبر عدد من المستخدمين، بفضل وسائل الإعلام الجديد.
وبات كل من ينهج سياسة النشر تلك، يترقب وبحذر شديد الوقت الذي ستصبح فيه مقالاتهم منبوذة من طرف شركة مارك زوكربيرغ وبعيدة عن متابعة المستخدمين الذين ملوا من العناوين المثيرة التي تجذبهم إلى المواقع دون فائدة ترجى وراءها، وصار أصحاب العناوين الخادعة يبحثون عن حل استباقي -إن أمكنهم ذلك- لمواجهة "الخطر الفيسبوكي الجديد" الذي يهدد "عرش مملكة متابعيهم".
صيد النقرات من الهواية إلى المهنية
المثير في محتوى صيد النقرات اليوم، أنها لم تعد تُحسب كعمل مستقل لأفراد مستقلين يرجون زيارات رواد النت، كما في سابق عهدها، وكما عرفناها مثلا في مواقع الفيديو في فتراتها الأولى، بل إنها اليوم تحولت وصبغت بصبغة مهنية، بعدما تبنتها عدد من المنابر التي يمكن إدراجها في خانة المواقع الإعلامية أو الصحفية، وذلك بعدما أثبتت تلك الطريقة "جدواها" لدى أصحابها في استقطاب عدد زيارات "محترم"، ولو كان المحتوى "غير محترم".
اعتماد هذه المواقع على أسلوب صيد النقرات، بات اليوم جليا بوضوح في عدد من المواقع الإخبارية العربية بكثرة وحتى ببعض المواقع الغربية. والمغرب، واحد من تلك الدول التي تنتشر فيها هذه الظاهرة التي يعتبرها جل رواد النت "مضلّلة"، ولا تخدم مضمون الرسالة الإعلامية عموما.
ربح سريع على حساب رسالة الإعلام
في المغرب يصطلح رواد النت على هذه المواقع بـ "مواقع الكليك"، كناية عن اعتمادها على النقرات وليس على رسم معالم مضمون إعلامي يحترم فيه صاحب الموقع -المفترض فيه أهليته المهنية- القارئ بصفته متلقيا للرسالة الإعلامية.
يأتي كل ذلك في ظل فوضى باتت تشهدها الساحة الإعلامية المغربية الإلكترونية مع ثورة مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة لانتقال الاهتمام بالمعلومة من صيغتها الورقية القديمة إلى أسلوبها الرقمي الجديد، في ظل ارتفاع عدد مستخدمي النت الذي وصل إلى حوالي 16 مليون مستخدم وما يقارب 10 مليون مشترك، حسب ما كشفت عنه الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات في آخر إحصاءاتها. فيما يقع كل ذلك التطور المهول لمستخدمي النت أيضا ومنذ 9 سنوات بالخصوص، في ظل انتشار متزايد ومتوازي لـ"موضة" إنشاء المواقع الإخبارية، من طرف مهنيي القطاع الإعلامي ومن طرف الهواة على حد سواء بدافع الربح السريع، الذي يسيل لعاب الكثيرين ولو باستخدام أساليب تبقى بعيدة كل البعد عن المهنية في القطاع.
تشير بعض الإحصاءات الأولية في المغرب إلى أن مجموع المواقع التي تحمل توصيف "إخبارية" يفوق 3000 موقع وأكثر، لكن وزارة الاتصال المغربية لا تعترف سوى بـ 500 موقع منها، حسب آخر تصريحات لوزير الاتصال مصطفى الخلفي. ولعل هذا الفارق في اعتراف الوزارة بالمواقع التي تعتبر مهنية وتحترم أساسيات المهنة وتندرج في سياق مشروع "المقاولة الصحفية" الجديد، هو ما حذا كذلك بالوزارة إلى الحرص على استصدار قانون جديد للإعلام بالمغرب، أطلق عليه اسم "مدونة النشر"، والذي اقترب من مرحلة اعتماده رسميا، بعد محطات جدل واسعة بين وزارة الاتصال ومهنيي القطاع. وهي المدونة التي يعول عليها للحد من الفوضى الإعلامية التي تتسع رقعتها يوما بعد يوم بالمغرب.
لذلك فجل المهتمين بتطوير المشهد الإعلامي المغربي ومنهم الوزارة المسؤولة باتوا اليوم يرون سبب فوضى الإعلام متجليا في غياب إطار قانوني يضع الحدود كما الحقوق والواجبات، لأي ممارسة إعلامية بالمغرب.
قانون لم يدافع عن القارئ
لقد حذرت وأوصت المدونة الجديدة للنشر بالمغرب المشتغلين في الإعلام، ومع بدء التطبيق الفعلي لبنود المدونة الجديدة، باحترام خصوصيات الأفراد والجماعات وصونها عن الإشاعات والأخبار الزائفة، التي ترمي إلى شد الانتباه والتشهير بالبعض، على حساب حصد زيارات وافية للمواقع كطريق سريعة للربح المادي. وهو ما وضعته الوزارة أيضا، في خانة ضرورة احترام ثوابت الأمة والمقدسات الدينية للبلاد في كل مادة تحرر وتنشر للعموم، درءا للمفسدة وتجنبا للسقوط في المساءلات القانونية التي قد تصل في بعض الحالات الخاصة للعقوبات السجنية.
لكن المدونة الجديدة في المقابل، لم تلتفت إلى ضرورة محاربة ظاهرة العناوين المضللة والمواقع التي تعتمد أسلوب صيد النقرات وفرض عقوبات عليها، والتي قد لا تقل درجة في الإساءة لصورة المهنة الإعلامية عموما، حيث صارت اليوم أسلوبا شبه ثابت لمجموعة من المواقع، ومن بينها تلك التي تصنف ضمن الأكثر مشاهدة بالفضاء الإعلامي الإلكتروني المغربي.
صحيح أن المستخدم الإلكتروني لتلك المواقع اليوم هو المسؤول عن نقراته، وأكيد أيضا أنه لا يحبذ بتاتا أسلوب صيد النقرات، بل يمتعض مما تقدمه هذه المواقع، التي وللأسف الشديد يوجد على رأس بعضها مهنيون معروفون بتجاربهم الإعلامية العريقة، لكن المستخدم في النهاية يجد نفسه مضطرا للضغط مرات كثيرة على روابط مضللة العناوين، بسبب ضرورة كشف معلومات جديدة تتعلق بالشأن الوطني، وهو يمني النفس في كل مرة أن يكون الموقع الذي يزوره بنفس الطريقة دائما قد قرر تغيير سياسة العنوانين المضللة، قبل أن يصطدم بعكس ما تمناه ويعود بخيبة أخرى في مشهد إعلامي وطني لا بديل عنه، إلا من بعض المواقع المعدودة التي انتبهت لسوء الأسلوب وحاولت تجنبه أملا في حصولها على علامة الجودة.
الأبعاد السلبية لصيد النقرات
في هذا الإطار، يرى عدد من المراقبين للمشهد الإعلامي الوطني أن اعتماد تلك المواقع على أسلوب صيد النقرات، وكما أن له سلبيات على القارئ على مستوى قريب، له سلبيات أكبر وأعمق على المستوى البعيد، تتجلى بالخصوص في "تسطيح" المشهد الإعلامي المغربي وجعله سلعة رخيصة دون معنى. وذلك بسبب اعتماد تلك المواقع في صنع عناوينها المضللة دائما، على انتقاء وتصيد الأخبار السلبية فقط من فضائح جنسية وسياسية وصراعات ونزاعات ومعلومات ناقصة وبعض الإشاعات، حتى تكتمل الإثارة في العناوين المضللة، ويكتمل معها تهديد عمق مصداقية الرسالة الإعلامية، الذي قد يكون بغير قصد، لكنه في النهاية معول تدمير وإساءة، عوض أن يكون أداة للبناء والرقي بالذوق العام وبمستوى المادة الإعلامية المقدمة.
لقد صار القارئ المغربي اليوم في عدد كبير منه، يترقب بدأ تطبيق مدونة النشر الجديدة، على أمل أن تكون المرحلة القادمة مصفاة لسلة المواقع التي اختلط فيها الحابل بالنابل.
لكن ورغم كل هذا الأمل الوردي، فإن النقاش المفتوح على مستوى مُلاك أكثر المواقع الإعلامية متابعة بالمغرب، قد لا يُبشر بقرب القطع نهائيا مع ممارسة هذا التقليد، حيث يركز هؤلاء اليوم مع إعلان الفيسبوك عزمه محاربة مواقع صيد النقرات، على بحث صيغ قانونية يحمون بها "مصالحهم"، ما دامت شركة الفيسبوك تستفيد منهم ماديا أثناء شرائهم الزيارات لمقالاتهم المضللة من خلال آلية الترويج المدفوعة مسبقا في الفيسبوك، وهو ما يجعل التكهنات شبه أكيدة، بخصوص إمكانية اقتصار الفيسبوك في صيدها لـ "صائد النقرات" على تلك المواقع والصفحات التي تبحث السبل المجانية للانتشار، مع السماح بصيد النقرات لمن "يدفع أكثر"، مادام البعض قد قرر الاستغناء عن المهنية في مقابل الربح المادي اللامشروط.