مستقبل الصحافة والإعلام رهينٌ بقدرة المهنيين على مواكبة الطفرة التقنية الحالية، فبعد استعمال الإنترنت والبريد الإلكتروني والشبكات الاجتماعية كوسائل جديدة لنقل الخبر ومواكبة الأحداث، بدأ جيل جديد من الإعلاميين في خوض عالم صحافة البيانات.
وصحافة البيانات وسيلة تقنية تستدعي اللجوء إلى الحواسب والهواتف الذكية والألواح الإلكترونية بطريقة جديدة لإعداد الروايات والأخبار الصحفية.
فالصحافة القائمة على البيانات تشكل قطيعة مع الممارسة الصحفية التي كانت تعاني من شح المعلومات وصعوبة صيد الخبر وجمعه. وأما مع الطفرة التقنية، فقد أصبحت معالجة الخبر نفسِه أمرا أكثر أهمية.
إن التحدي المطروح مع تطور هذا التخصص الجديد في الصحافة هو كيف يمكن استخدام البيانات الرقمية لإنتاج وتوزيع المعلومات في عصر الثورة الرقمية؟
لا تحتاج صحافة البيانات فقط إلى صحفيين وإعلاميين، فهذا المجال الذي لا يزال في مرحلة جنينية يحتاج إلى أمرين اثنين: الرؤية الصحفية التي يتحلى بها الصحفي المتمرس، والمعرفة التقنية لخبراء رقميين.
فأول ما يميز صحافة البيانات أنها مساحة تلتقي فيها مجالات وكفاءات متعددة مثل فنون التصميم وعلوم الحاسوب والإحصاء. وهذا التداخل المهني هو ما أفرز تجارب صحفية جديدة استفادت من زخم البيانات المتوفرة، ووظفت التقنية في معالجتها لإنتاج قصص وروايات صحفية. ونسوق هنا على سبيل الذكر لا الحصر تجربة مشروع "Datablog" لصحيفة "ذي غارديان" البريطانية (2009)، حيث استطاعت هذه المؤسسة الإخبارية معالجة العديد من المواضيع الصحفية بالاعتماد على قواعد البيانات الإخبارية الضخمة، وتصوير البيانات والتصوير التفاعلي( )، و من بين المواضيع المعالجة تحليلُ نفقات البرلمانيين البريطانيين عبر دراسة أكثر من 450 ألف وثيقة.
وأما تسريبات ويكيليكس فقد ساهمت في بروز تقارير صحفية مبنية على تصريحات إخبارية مجهولة لكمّ هائل من البيانات (سجلات حرب العراق، الحرب الأفغانية، برقيات الدبلوماسية الخارجية الأميركية).
كما أن قناة "بي.بي.سي" راكمت تجارب رائدة في مجال صحافة البيانات، فقد قضى فريق أحد برامج القناة عدة أشهر في العمل مع مركز الصحافة الاستقصائية لجمع البيانات حول رواتب القطاع العام، وكانت النتيجة إنتاج فيلم وثائقي تلفزيوني وتقرير خاص نُشر على الإنترنت بعنوان "رواتب القطاع العام". وقد مكنت هذه التجربة الرائدة من تحليل الفروق الشاسعة في الرواتب في القطاع العام حيث أظهرت مثلا أن رئيس الوزراء يتقاضى راتبا أقل بالمقارنة مع مسؤولين آخرين بالإدارة العمومية.
ثم توالت التجارب عبر العالم في محاولة للاستفادة من هذه الطفرة التقنية وثورة المعلومات والبيانات لإنتاج مواد صحفية متعددة الوسائط، تقرن بين الرؤية الصحفية ووسائل تقنية معقدة كفيلة بتيسير استغلال البيانات المتاحة.
صحيح أن استعمال الحاسوب والتقنية ما انفك يواكب تطور الممارسة الصحفية منذ تسعينيات القرن الماضي، غير أن الجديد الذي حملته صحافة البيانات هو تسريع وتيرة الاستفادة من الطفرة التقنية خاصة منذ بداية القرن الحالي.
ولا شك أن نضج صحافة البيانات لم يكتمل بعد، إلا أن مستقبلها واعدٌ خاصة مع توالي الطفرات التقنية وتزايد الاهتمام الدولي بمفهوم المصادر المفتوحة (Open data)، فضلا عن انخراط المواطنين ومساهمة القراءة المتعددة الوسائط في خلق وإغناء الروايات الصحفية، وذلك بفضل تطور ظاهرة "حشد المصادر" أو "استخدام الجمهور كمصدر للمعلومات" ((Crowdsourcing، حيث صارت المؤسسات الصحفية والنشطاء يحصلون على المعلومات والصور والفيديوهات مما ينشره الجمهور عبر وسائل وشبكات التواصل الاجتماعية (فليكر، تويتر، فيسبوك، أنستغرام، يوتيوب وغيرها).
ويبقى التحدي المطروح -بغض النظر عن آثار تطور صحافة البيانات على الممارسة الصحفية- هو: كيف يمكن تسريع وتيرة تملُّك هذه الممارسة الإعلامية المُجددة؟
إن العبرة ليست بشراء الآلات أو الحواسب الجديدة، بقدر ما هي بلورة اقتناع المؤسسات الإعلامية العربية بضرورة الاستثمار في الرأسمال البشري، إلى جانب تكوين فرق عمل متعددة الاختصاصات، فمحاربة الأمية الرقمية بين مهنيي الإعلام شرطٌ لازم لتشجيع تطور ممارسة صحافة البيانات في العالم العربي، إذ لا تزال معاهد الإعلام رهينة الأسئلة الخمسة التقليدية والهرم المقلوب، عوض أن تستشرف الطفرات المهنية المتعددة والمتسارعة التي يشهدها العمل الصحفي، وأن تسعى إلى تجديد برامج تدريب الصحفيين وإلى تملّك الآليات والأدوات الجديدة المستعملة عالميا لاستغلال الكم الهائل من المعلومات المتوفرة في عصر الثورة الرقمية.
وأما فيما يخص الصحفيين المتمرسين، فقد حان الوقت للعودة إلى فصول الدراسة لتحديث المعلومات والمعارف واكتساب مهارات تقنية جديدة كفيلة بمساعدتهم على استغلال ما راكموه من تجارب لإنتاج روايات وقصص صحفية في قوالب جديدة توظف فرص صحافة البيانات.
ولعلَّ تطور صحافة البيانات فرصة تاريخية على اعتبار أن العالم العربي هو الآن في قلب الرهانات الاستراتيجية ومسارات التغيير السياسي، سواء على المستوى القُطري أو الدولي. وهذا المخاض الجيوسياسي هو في حد ذاته فرصة للصحفيين والتقنيين لبلورة روايات وقصص صحفية بالاعتماد على أكوام الأرقام والمعلومات المتوفرة على الخط وعلى قواعد البيانات، سواء منها العمومية أو المحجوبة عن أنظار الرأي العام.
مجلة الصحافة
المزيد من المقالات
مقابلة الناجين ليست سبقا صحفيا
هل تجيز المواثيق الأخلاقية والمهنية استجواب ناجين يعيشون حالة صدمة؟ كيف ينبغي أن يتعامل الصحفي مع الضحايا بعيدا عن الإثارة والسعي إلى السبق على حساب كرامتهم وحقهم في الصمت؟
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة
طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.
الاستعمار الرقمي.. الجنوب العالمي أمام شاشات مغلقة
بعد استقلال الدول المغاربية، كان المقاومون القدامى يرددون أن "الاستعمار خرج من الباب ليعود من النافذة"، وها هو يعود بأشكال جديدة للهيمنة عبر نافذة الاستعمار الرقمي. تبرز هذه السيطرة في الاستحواذ على الشركات التكنولوجية والإعلامية الكبرى، بينما ما يزال الجنوب يبحث عن بديل.
الجنوب العالمي.. مناجم بوليفيا والإعلام البديل
هل أسست إذاعات المناجم في بوليفيا لتوجه جديد في دراسات الاتصال الواعية بتحديات الجنوب العالمي أم كانت مجرد حركة اجتماعية قاومت الاستبداد والحكم العسكري؟ وكيف يمكن قراءة تطور إذاعات المناجم على ضوء جدلية الشمال والجنوب؟
تحديات تدفق البيانات غير المتكافئ على سرديات الجنوب
ساهمت الثورة الرقمية في تعميق الفجوة بين دول الجنوب والشمال، وبعيدا عن النظريات التي تفسر هذا التدفق غير المتكافئ بتطور الشمال واحتكاره للتكنولوجيا، يناقش المقال دور وسياسات الحدود الوطنية والمحلية لدول الجنوب في في التأثير على سرديات الجنوب.
عمر الحاج.. مذكرات مراسل الجزيرة في سجون "داعش"
بين زمن الاعتقال وزمن الكتابة ست سنوات تقريبا، لكن عمر الحاج يحتفظ بذاكرة حية غنية بالتفاصيل عن تجربة الاعتقال في سجون تنظيم الدولة الإسلامية (المعروفة بداعش). "أسير الوالي.. مذكرات مراسل الجزيرة في سجون تنظيم الدولة الإسلامية"، ليس سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي، بل كتاب يجمع بين السيرة الغيرية والأفق المعرفي والسرد القصصي.
عن الصحافة الليبرالية الغربية وصعود الشعبويّة المعادية للإعلام
بنى إيلون ماسك، مالك منصة إكس، حملته الانتخابية المساندة لدونالد ترامب على معاداة الإعلام الليبرالي التقليدي. رجل الأعمال، الذي يوصف بأنه أقوى رجل غير منتخب في الولايات المتحدة الأمريكية، يمثل حالة دالة على صعود الشعبوية المشككة في وسائل الإعلام واعتبارها أدوات "الدولة العميقة التي تعمل ضد "الشعب".
ازدواجية التغطية الإعلامية الغربية لمعاناة النساء في العالم الإسلامي
تَعري طالبة إيرانية احتجاجا على الأمن، و70 في المئة من الشهداء في فلسطين نساء وأطفال. بين الخبرين مسافة زمنية قصيرة، لكن الخبر الأول حظي بتغطية إعلامية غربية واسعة مقابل إغفال القتل الممنهج والتعذيب والاعتقال ضد النساء الفلسطينيات. كيف تؤطر وسائل الإعلام الغربية قضايا النساء في العالم الإسلامي، وهل هي محكومة بازدواجية معايير؟
صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة
رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.
كيف يقوض التضليل ثقة الجمهور في الصحافة؟
تكشف التقارير عن مزيد من فقدان الثقة في وسائل الإعلام متأثرة بحجم التضليل الذي يقوض قدرة الصحافة المهنية على التأثير في النقاشات العامة. حواضن التضليل التي أصبحت ترعاها دول وكيانات خاصة أثناء النزاعات والحروب، تهدد بتجريد المهنة من وظائفها في المساءلة والمراقبة.
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"
شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.
التضليل والسياق التاريخي.. "صراع الذاكرة ضد النسيان"
ما الفرق بين السادس والسابع من أكتوبر؟ كيف مارست وسائل الإعلام التضليل ببتر السياق التاريخي؟ لماذا عمدت بعض وسائل الإعلام العربية إلى تجريد حرب الإبادة من جذورها؟ وهل ثمة تقصد في إبراز ثنائية إسرائيل - حماس في التغطيات الإخبارية؟
تهمة أن تكون صحفيا في السودان
بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.
أدوار الإعلام العماني في زمن التغيرات المناخية
تبرز هذه الورقة كيف ركز الإعلام العماني في زمن الكوارث الطبيعية على "الإشادة" بجهود الحكومة لتحسين سمعتها في مقابل إغفال صوت الضحايا والمتأثرين بالأعاصير وتمثل دوره في التحذير والوقاية من الكوارث في المستقبل.
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين
ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟
"أن تعيش لتروي قصتي"
في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".
نصف الحقيقة كذبة كاملة
في صحافة الوكالة الموسومة بالسرعة والضغط الإخباري، غالبا ما يطلب من الصحفيين "قصاصات" قصيرة لا تستحضر السياقات التاريخية للصراعات والحروب، وحالة فلسطين تعبير صارخ عن ذلك، والنتيجة: نصف الحقيقة قد يكون كذبة كاملة.
النظام الإعلامي في السودان أثناء الحرب
فككت الحرب الدائرة في السودان الكثير من المؤسسات الإعلامية لتفسح المجال لكم هائل من الشائعات والأخبار الكاذبة التي شكلت وقودا للاقتتال الداخلي. هاجر جزء كبير من الجمهور إلى المنصات الاجتماعية بحثا عن الحقيقة بينما ما لا تزال بعض المؤسسات الإعلامية التقليدية رغم استهداف مقراتها وصحفييها.
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة
ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"
أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.
الذكاء الاصطناعي "المسلح".. "ضيف" ثقيل على منصات التدقيق
تعقدت مهمة مدققي المعلومات في حرب الإبادة الجماعية على فلسطين بعدما لجأ الاحتلال إلى توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل مكثف لممارسة التضليل. كيف أصبح الذكاء الاصطناعي قادرا على التأثير زمن الحروب، وماهي خطة مدققي المعلومات لمواجهة هذا "الضيف الثقيل" على غرف الأخبار؟
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة
في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.
"مأساة" الصحفي النازح في غزة
بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين
كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.