أكثر من 120 صحفيا وصحفية استُشهدوا خلال الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، وفق الإعلام الحكومي في القطاع. ماتت حقوق عدد كبير منهم بمجرد الإعلان عن استشهادهم، واكتفت المؤسسات التي كانوا يعملون لصالحها -في أحسن الأحوال- بنعيهم وانتهى الأمر. نعم انتهى الأمر بكل بساطة، وأُغلِق الملف إلى الأبد، وكأن شيئا لم يكن!
"لتكن صرخة! أتمنى أن يكون هذا التقرير صرخة، وأن يصل صداه إلى المؤسسات القانونية والحقوقية في العالم لإنصاف صحفيي غزة ورفع الظلم عنهم أحياء وأمواتا"، كان هذا رد الصحفية "س" التي طلبت عدم الإشارة إلى اسمها بسبب عملها في إحدى المؤسسات الإعلامية الدولية، التي تمنع المنتسبين إليها من التصريح لأي مؤسسة أخرى.
حدثتني "س" التي تعمل في الوسط الصحفي منذ نحو 15 عاما عن الظلم اللامحدود الذي يقع على كاهل الغالبية العظمى من الصحفيين والصحفيات في قطاع غزة، ولا سيما أولئك العاديون منهم، أو دعنا نسميهم "غير المشاهير". وهنا نقصد الذين لا يظهرون على شاشات قنوات تلفزيونية دولية، أو لا يعملون لدى مؤسسات ووكالات صحفية كبيرة تمتلك أنظمة وفرقا قانونية، بل يعملون لدى قنوات تلفزيونية صغيرة ومؤسسات وشركات محلية، بعقود مؤقتة غير منصفة أو من دون عقود غالبا؛ إذ لا يُعترَف بما لهم حين يتطلب الأمر في الحالات العادية، فما بالكم حين نتحدث عن جنود من الصحفيين الذين يعملون وسط حرب ضروس لا تفرق بين أحد؟
"لا يمكننا أن نجد جهة نقابية أو حكومية تضمن حصولنا على حقوقنا في حال تعرضنا لأي استهداف خلال الحرب".
واقع أقرب إلى الخيال
على عربة يجرها حمار تتنقل الصحفية وفاء أبو حجاج -كغيرها من الصحفيين- من مكان إلى آخر لملاحقة التطورات وإعداد القصص والتقارير، في ظل انقطاع شبكات الاتصال والإنترنت وعدم توفر المواصلات العامة. السماء من فوقها ملبدة بالخوف والدخان وصوت الطائرات الحربية، وأمامها وخلفها وعن يمينها وشمالها صراخ وخوف وآلام لا يمكن سردها في كلمات. تظن لوهلة أنها تعيش في القرون الوسطى!
تعمل وفاء منذ سنوات ضمن نظام العمل الحر "الفريلانس" مع موقع محلي وبعض المنصات الرقمية في الخارج كلما أُتيحت لها الفرصة. أصبح عملها خلال الحرب شاقا للغاية ومرعبا في الوقت ذاته؛ إذ تُدرك وفاء تماما أنه لا أمان ولا تأمين على حياتها في حال حصل لها أي مكروه خلال الحرب.
"إن أكثر من 80% من الصحفيين الذين اسُتشهدوا خلال الحرب غير محميين قانونيا".
تقول: "لا يوجد تـأمين على حياتنا، لا تتوفر جهة تدافع عن حقوقنا في حالتي السلم أو الحرب... عدد كبير من الصحفيين الذين استشهدوا في الحرب لم تتعرف مؤسساتهم على حقوقهم، لم تتواصل مع عائلاتهم على الإطلاق، ماتوا وماتت حقوقهم".
ترفض أبو حجاج استصدار بطاقة من نقابة الصحفيين أو بطاقة من الإعلام الحكومي في قطاع غزة؛ لأنهما في نظرها "لا يُغنيان ولا يُسمنان من جوع". تُعلق: "نحتاج إلى جهة داعمة دوليا ومحليا لتحصيل حقوقنا والعمل في بيئة توفر على الأقل الحماية لنا".
محمد أبو شعر صحفي آخر من غزة، يعمل في المهنة منذ سنوات، ولم يتمكن حتى كتابة هذا التقرير من الحصول على درع وخوذة لارتدائهما خلال عمله الميداني. ويمكن أن تتخيلوا صحفيا حربيا لا يملك أدنى مقومات السلامة المهنية في وسط الحرب! يقول محمد: "المؤسسات التي من المفترض أنها معنية بحقوق الصحفيين تقدم دعما محدودا ولأعداد قليلة، وهي مُطالَبة بتأدية مهامها في ظل أزمات انقطاع الكهرباء والإنترنت وشح الأدوات الصحفية اللازمة أثناء الحرب".
ما يزيد من معاناة صحفيي غزة أنهم أصبحوا يواجهون أعباء ثقيلة متعلقة بالمخاوف من استهدافهم خلال عملهم من جهة، والواجبات المتعلقة بعائلاتهم وحياتهم الخاصة من جهة أخرى، وهذا يفرض تحديات مضاعفة أمام قدرتهم على الاستمرار في أداء عملهم. يقول أبو شعر: "لا يمكننا أن نجد جهة نقابية أو حكومية تضمن حصولنا على حقوقنا في حال تعرضنا لأي استهداف خلال الحرب".
استغلال المؤسسات للصحفيين
معظم الشركات المحلية لا توفر عقدا واضحا للصحفيين العاملين لديها، وهذا يعني أنها لا تعترف بحقوق الموظفين لديها مهما جرى معهم. تقول الصحفية إسراء البحيصي وهي مراسلة تلفزيونية، "إن أكثر من 80% من الصحفيين الذين اسُتشهدوا خلال الحرب غير محميين قانونيا". أخبرتني إسراء أنَ لديها زملاء يعملون في شركات إعلام محلية لم يحصلوا إلا على نصف الراتب الشهري خلال الحرب؛ بحجة أن عملهم أصبح أقل من ذي قبل!
يتساءل صحفيو غزة عن المنطق الذي يتعامل به القائمون على تلك المؤسسات. يقول محمد أبو شعر: "معظم المؤسسات المحلية تفرض إجراءات تعسفية على الصحفيين الذين يعملون لديها؛ إذ يضطرون إلى قبولها تجنبا للخوض في إجراءات طويلة ومعقدة لمعالجة القضايا الخلافية أو الحقوقية في أروقة المحاكم، وهي قضايا تنتهي غالبا بالتصالح، مع حصول الصحفيين على جزء بسيط من حقوقهم".
ما يزيد من ضعف المطالبة بحقوق الصحفيين من ضحايا الحرب في غزة هو أن عددا كبيرا منهم لا يعملون لصالح مؤسسات كبيرة تستطيع أن تسلط الضوء على قضايا استهدافهم أو أن تكون لديها فرق قانونية قادرة على ملاحقة إسرائيل، كما فعلت قناة الجزيرة حيال جريمة استهداف عائلة مراسلها في غزة وائل الدحوح الذي قُتلت زوجته وعدد من أبنائه في استهدافات إسرائيلية متتالية. لكن مئات الصحفيين في غزة لا يملكون ظهرا قانونيا قويا قادرا على المطالبة بأدنى حقوقهم وملاحقة إسرائيل قانونيا في المحاكم الدولية.
يعترف محامي نقابة الصحفيين الفلسطينيين أن المشكلة الأساسية في تنفيذ خطة للإصلاح تتمثل بالانقسام الداخلي السياسي، وهو ما يصعب إمكانية التوصل إلى قانون موحد يشمل الضفة الغربية وقطاع غزة.
في حديث لمجلة الصحافة، كشف محامي نقابة الصحفيين الفلسطينيين علاء فريجات عن خطة إعلامية شاملة لإصلاح المنظومة الإعلامية في فلسطين بما يضمن حقوق العاملين في القطاعات الصحفية المختلفة. يقول فريجات: "نعمل حاليا على خطة إصلاحية شاملة مع وزارة الإعلام، على نحو يكون فيه أحد شروط منح تصاريح العمل للمؤسسات الصحفية تثبيت حقوق العاملين لديها في عقود واضحة ومنصفة وفق القوانين المعمول بها محليا".
ويعترف فريجات أن المشكلة الأساسية في تنفيذ الخطة تتمثل بالانقسام الداخلي السياسي، وهو ما يصعب إمكانية التوصل إلى قانون موحد يشمل الضفة الغربية وقطاع غزة.
في حقيقة الأمر، أسهم الانقسام السياسي المستمر منذ 17 عاما في مضاعفة الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون؛ سواء من جهة إسرائيل، أو من المؤسسات والشركات المحلية التي يعملون لديها وتقدم من جانبها خدمات إنتاج المواد الصحفية لوسائل إعلام عربية ودولية.
غياب الملاحقة القانونية
تتنصل إسرائيل من مسؤوليتها عن جريمة قتل الصحفيين واستهدافهم خلال الحرب بذرائع مختلفة؛ منها ربط الصحفيين المستهدفين بالفصائل المسلحة في غزة والعمل لصحالها، ومن ثَم يُزال الغطاء القانوني عنهم. وهذا ما حصل فعليا مع عدد من الناشطين والصحفيين مثل المصور الصحفي حسن إصليح الذي تشن عليه إسرائيل حملة شرسة منذ بداية الحرب، بتهمة المشاركة في أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، لمجرد تصويره بعض المشاهد. وتسببت الملاحقة الإسرائيلية له بالضغط على بعض الوكالات الدولية التي تتعامل مع إصليح لوقف التعامل معه، ومن ثم الإسهام في قطع رزقه ورزق عائلته.
وما يشجع إسرائيل على استهداف الصحفيين غياب المساءلة القانونية والضغط الدولي الحقيقي عليها، واكتفاء معظم المؤسسات المعنية بحقوق الصحفيين بإحصاء أعداد الضحايا والتنديد بالجرائم المرتكبة تباعا من دون الإقدام على عمل يضع حدا لتلك السياسة، التي لا تستهدف الصحفيين أو مؤسساتهم فحسب، بل تمتد في كثير من الأحيان إلى استهداف عائلاتهم بدافع الانتقام منهم، وهو ما لفت إليه فريجات الذي قال إن إسرائيل "تقتل الصحفي وعائلته ومؤسسته".
الثابت الوحيد الآن أن الصحفيين يعيشون كابوس الموت يوميا، ومنهم من اضطُروا إلى خلع خوذ الصحافة والدروع الواقية التي لم تمنحهم أي شكل من الأمان، وغادروا عالم الصحافة حتى حين.
ويتحدث فريجات عن تقديم النقابة بلاغات للمحكمة الجنائية الدولية ومحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية لملاحقة الاحتلال الإسرائيلي على قتل الصحفيين واستهدافهم في القطاع. كما تحدث فريجات عن تشكيل فريق محلي قانوني لتوثيق كل الجرائم في حق الصحفيين والمؤسسات الصحفية بعد انتهاء الحرب وتقديمها إلى الجهات المختصة.
الثابت الوحيد الآن أن الصحفيين يعيشون كابوس الموت يوميا، ومنهم من اضطُروا إلى خلع خوذ الصحافة والدروع الواقية التي لم تمنحهم أي شكل من الأمان، وغادروا عالم الصحافة حتى حين، بعد أن شاهدوا ووثقوا بعدساتهم مقتل زملائهم، في ظل غياب الضغط الفاعل على إسرائيل لوقف مجازرها في حق الصحافة والصحفيين.