كانت يومها عطلة نهاية الأسبوع في إيران، وآخر خميس من عام 2017.. حينها وصلت الأخبار حول انطلاق احتجاجات في البلاد للصحفيين المقيمين متأخرة زمنيا، لربما كان السبب يرتبط بالاعتماد أكثر على المصادر الرسمية كون ما هو خارج هذا الإطار غير متاح بسهولة، وكون ما حدث، بدأ من خارج طهران التي يقطنها معظم الصحفيين الأجانب، فكان الفضل لناشطين على موقع تويتر استطاعوا أن يتبادلوا أخبارا حول ما كان يجري في منطقتي مشهد ونيشابور تحديدا، لتبدأ بعد ذلك الوكالات الرسمية بالحديث عما يجري.
في حالات من هذا القبيل، يفضل صحفيو ومراسلو الجهات غير الإيرانية التروي قليلا، كونهم غير محسوبين على أطراف الداخل وهو ما يجعل طريقة تغطية هؤلاء محكومة بتوجهات التيارات السياسية مثلا، وفي البدايات كانت التساؤلات بالنسبة للصحافة غير المحلية أكثر من المعلومات، هل هي بالفعل احتجاجات اقتصادية، أم غير ذلك؟ كم حجمها؟ ما مدى انتشارها؟ ما طبيعة الشعارات السياسية التي تخللتها؟ هل كانت هي الأساس أم أن صدى المطالب المعيشية كان أعلى؟ والمخرج يكون عادة بنقل التصريحات والأنباء مع نسبها لمصدرها، دون تبني أي رواية، لاسيما أن التواجد في الميدان لم يكن متاحا أصلا.
توجس فاستنفار، هكذا أصبح حال الصحفيين غير الإيرانيين اعتبارا من السبت، في هذا اليوم بدت الصورة أوضح. صباحا خرجت مظاهرات ضخمة إحياء لما يعرف بذكرى "9 دي" وفق التقويم الفارسي، والذي يوافق 30 ديسمبر/كانون الأول، وهي الذكرى التي يحيي فيها الإيرانيون ما حدث في عام 2009، حين خرج المحافظون ومؤيدوهم للرد على انتهاك الحركة الخضراء لمراسم عاشوراء الدينية وتحويلها لمظاهرات ذات مطالب سياسية، فكان اليوم الذي أنهى عمليا احتجاجات ضخمة خرجت بسبب نتائج انتخابات ذاك العام وتطورت رويدا رويدا، وما زال صدى تبعاتها يتردد في البلاد حتى الآن، وتزامن توقيتها هذه المرة مع التطورات الميدانية الأخيرة.
وما حدث بعد ذلك كان أهم وأخطر، ففي مساء ذات اليوم خرج محتجون يرددون شعارات سياسية في العاصمة طهران، المدينة الأثقل والأهم، ومن تواجد مصادفة في تلك المناطق شهد على ما حدث، ومن حاول الذهاب لتفقد الأوضاع ميدانيا، تعذر عليه الوصول بسبب إغلاق محطتي مترو والشوارع المؤدية للمكان، وبعدها بيوم واحد، بات الحصول على المعلومات شبه مستحيل، تباطأت سرعة الإنترنت، وقررت السلطات إغلاق موقع الإنستغرام، الوحيد الذي كان متاحا من بين وسائل التواصل الاجتماعي المحظورة أساسا منذ أحداث 2009، والقرار الأهم كان حظر تطبيق التليغرام الذي يستخدمه أربعون مليون إيراني مضافا إليهم متابعو شؤونهم وأخبارهم.
الغالبية كانوا يستخدمون حيلا لكسر الحظر سابقا، باستخدام برامج وتطبيقات تؤدي المهمة المضادة، لكن الحظر الجديد كان أقوى ولم يكن اختراقه سهلا، فبات بعض الصحفيين غير قادرين على تفقد أخبارهم بسرعة، والمخارج كانت متاحة لمحظوظين امتلكوا صدفة برامج كسر حظر استمرت بالعمل، على ندرتها.
المسبب الرئيس لإغلاق تطبيق التليغرام الأكثر شعبية في إيران، يرتبط بقناة معارضة اسمها آمد نيوز، كان فيها أكثر من 800 ألف عضو يتابعون أخبارا قادمة من الخارج، وارتفع عددهم إلى أكثر من مليون بعد يومين من الاحتجاجات، لكن آمد نيوز جنحت كثيرا، ولم تكتف بنشر أخبار الاحتجاجات السياسية وحتى الاقتصادية المعارضة للحكومة، بل بدأت نشر فيديوهات تعلّم المتابعين كيفية التخلص من قوى الأمن واستخدام مركبات حارقة لتشويش رؤيتهم، أمّا تعليمات تحضير قنابل المولوتوف فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، فكتب وزير الاتصالات الإيراني محمد جواد أذري جهرمي تغريدة على صفحته الرسمية على تويتر، مخاطبا إدارة التليغرام الروسية، وطالبها بوقف القناة التي تحرّض على أعمال العنف، وهو ما حدث.
تباطأ نشاط القنوات الرسمية وغير الرسمية على التليغرام أيضا، وقلّ حجم أخبارها، لكنها لم تتوقف بالكامل، فالمتابعون من الصحفيين وغيرهم اعتادوا استخدامه بشكل مستمر، وبذلوا المستحيل لفك الحظر عنه من خلال شراء برامج أو تحميل رموز جديدة، وعادت آمد نيوز بصورة حديثة بعدها، وباسم جديد، فأصبح "صداى مردم" أو صوت الناس، هو عنوانها. ورغم زيادة متابعيها من معارضة الخارج، لكنها فقدت المصداقية بالنسبة لصحفيي الداخل، ولعديدين من الشارع أيضا، فليس كل من أيّد شعارات المطالب المعيشية والمنتقدة لسياسات حكومة الرئيس حسن روحاني المعتدلة، يقف ضد نظام الجمهورية الإسلامية، وليس كل من لديه تحفظات سياسية على النظام أيضا يقبل الخروج في احتجاجات ذات طابع غير سلمي، وهو ما ساهم بشكل أو بآخر بتراجع زخم الاحتجاجات.
لم يعد هناك من إمكانية للتأكد من مصداقية الفيديوهات والمقاطع المنشورة على تلك القناة إلا بصعوبة بالغة، كونها باتت المصدر الوحيد لأخبار الاحتجاجات السياسية المنتقدة للنظام، وتعامل البعض مع قناة بي بي سي الفارسية، كمصدر أكثر اتزانا من تلك الأولى.
أصبح أمام الصحفيين مهمة صعبة، تتلخص في الاستماع لكافة الروايات من كل الجهات وتحليلها والتدقيق في مصدرها وفي شكل صورها وفيديوهاتها، فهناك الكثير من المقاطع المنشورة حديثا تعود لعام 2009، والصعوبة في التعامل مع الأحداث أصبحت مرتبطة بمنطلقين، سياسي وتقني، فلم يكن سهلا الحصول على معلومات تتعلق بالفيديوهات الصحيحة من قبيل أسماء مناطقها وحتى مواعيدها الدقيقة، وعلى سبيل المثال كانت المقاطع التي تصور الاشتباكات أو سقوط قتلى هي الأكثر تعقيدا على هذا الصعيد، بسبب رداءة الصوت أحيانا، وبسبب عدم القدرة على التأكد من موقعها الجغرافي.
فرز الشعارات والمطالب لم يكن مهمة هينة أيضا، وخاصة بعد أن اتجهت الاحتجاجات الاقتصادية نحو المنحى السياسي المنتقد للنظام، فلا يوجد حزب أو قائد ولا متحدث يمثل هذه الاحتجاجات للتعرف على المطالب بدقة، فضلا عن اختلاف مضمونها وحجمها ومنحاها من مكان لآخر، وهو ما تطلب ترجمة حرفية ودقيقة لما يقال، ولم يكن متاحا التأكد من حجم التجمعات التي صدحت خلالها الشعارات السياسية ذات المطالب عالية السقف، لتصنيف الأمر على أنه ثورة حقيقية خطرة على النظام، أم غير ذلك، دون أن ينفي أي أحد صحة وجود هذا النوع من المطالب على الأرض.
تزامن كل هذا، ووعود من قبل المسؤولين المؤيدين للانفتاح لإعادة فتح المواقع والتطبيقات المحظورة بعد انتهاء الأزمة، وهو ما قد يسهل تدفق المعلومات، وعاد موقع الإنستغرام للعمل دون أي كاسر للحظر بعد أسبوع واحد من انطلاق الاحتجاجات، لكن التليغرام ما زال مسألة خلافية.
الوزير جهرمي نفسه، أكد بداية أن الحظر على التطبيق سيكون مؤقتا، وقال بعدها إن الأمر مشروط بحذف القنوات المروجة للإرهاب على حد تعبيره، فيما أن رجال دين محافظين وعلى رأسهم إمام صلاة الجمعة في طهران أحمد خاتمي أبدوا تشددا في التعامل مع الملف، وقال هذا الأخير في خطبة صلاة الجمعة إن "مواقع التواصل تتحمل مسؤولية إشعال النار في الداخل الإيراني، ويجب إيقافها بالكامل، فلن تقبل البلاد أن يتفاعل مواطنوها مع وسائل تواصل تدار من الولايات المتحدة الأميركية"، داعيا لإيجاد بدائل محلية.
وجهة النظر هذه وإن كانت ستصعب المهام على الصحفيين، لكنها مقبولة من قبل شريحة معينة من الإيرانيين الذين يرون في الانفتاح تهديدا، وخاصة أن التعامل مع ما يجري بات على شاكلة مؤامرة خارجية من قبل البعض، وما زاد من حسم الأمر نحو هذا الاتجاه هو الموقف الأميركي الصادر من الرئيس دونالد ترامب، مقابل مواقف دولية أخرى دعت لعدم التدخل بالشأن الداخلي الإيراني رغم حض سلطاتها على تجنب العنف في التعامل مع المتظاهرين أيا كانت توجهاتهم.
أصبح الصحفيون بين مطرقة الداخل وسندان الخارج، في الداخل لم يكن التأكد من المعلومات سلسا، وأصبح يعتمد على صف المعطيات والأدوات جنبا إلى جنب وتحليلها وفق الخبرة المعرفية والمجتمعية بهذا البلد وبالشارع الإيراني وبالمناطق الجغرافية التي تتوزع فيها الاحتجاجات المعارضة من جهة والمظاهرات المؤيدة من جهة ثانية، وكل هذا ترافق وأولوية نقل صورة متوازنة وهي ليست بالمهمة السهلة بوجود هذه الظروف، أما التحديات والهواجس المتعلقة الخارج، فكانت في كيفية إيصال الخبر والمعلومة في ظل تباطؤ سرعة الإنترنت وعدم القدرة على فتح كل المواقع والتطبيقات، وفي أحيان أخرى كانت بالقدرة على تأكيد صحة ما يجري طالما أن التواجد في ميدان الأحداث لم يكن متاحا في أغلب الأوقات.