لأسباب قد يطول شرح تفاصيلها، رفضت السلطات المغربية منحي رخصة العمل كمراسل لقناة الجزيرة في المغرب.. واقع جعلني لما يقارب السنتين مراسلا صحفيا مع وقف التنفيذ، قضيت معظم هذا الوقت في غرفة الأخبار بالدوحة على أمل أن يتغير مزاج صاحب القرار، لكن تلك الآمال تحولت تدريجيا إلى أوهام.
بالنسبة لشخص قضى سبع سنوات مراسلا ميدانيا، كان العمل في غرفة الأخبار تجربة مختلفة، وستصبح أكثر اختلافا وتشويقا عندما تكون هذه التجربة في أكبر غرفة أخبار بالعالم العربي.
إذا كان اليوم هادئا إخباريا، فتلك فرصة للتعلم بهدوء كيف تصنع النشرة الإخبارية، كيف تناقش المقترحات في اجتماع التحرير وكيف تصاغ العناوين، وكيف ترتب الملفات الإخبارية، أما عندما يحدث زلزال إخباري في مكان ما فتلك قصة أخرى.
رأيت من موقع الشاهد والمساهم كيف تصنع التغطيات الخاصة، ترى منتجي المقابلات يسارعون إلى تأمين الضيوف، تقرأ بريد المراسلين على الأرض الذين يحاولون إرسال المواد والأخبار أولا بأول، ثم تشاهد الزملاء في قسم التواصل الاجتماعي يحاولون التثبت من الصور المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي للتيقن من صدقيتها، قبل أن تجد طريقها إلى شاشة يسهر عليها منتجون يزاوجون بشكل بديع بين الدقة والسرعة المطلوبة.
كان رصيدي من الدروس والخبرات يتضاعف يوميا في غرفة أخبار الجزيرة، لكن الشوق استبد بي إلى الميدان، فأنا قبل كل شيء مراسل، ولا شيء يبعث على الحماس كأن يجد المراسل قصة تستحق أن تروى فينسج تفاصيلها ويسرد أحداثها، ويعرّف بجانب آخر من جوانب التجربة الإنسانية على ظهر هذا الكوكب الذي نتشاركه جميعا، بعيدا عن حدود مصطنعة وعصبيات زائلة.
حنين إلى الميدان
وبما أن العمل في بلدي كان محرما عليّ، اقترحت على مديري في العمل أن أسافر إلى أفغانستان.. وافق الرجل على الفور، وبدأت أحضر لرحلة أردت لها أن تكون استثنائية وقد كانت.
لا أستطيع أن أنكر أن إحساس الخوف قد راودني غير مرة، كما أن زوجتي لم تكن متحمسة بشكل كبير لفكرة السفر إلى بلد لم يعرف الأمن منذ أربعين عاما.. الخوف إحساس طبيعي ومفيد، ففي النهاية مخاوفنا -حتى التي لا نود الاعتراف بها- تحدّ من سلوكيات قد تكون متهورة ومضرة.. الأمر غير الطبيعي على الجهة الأخرى هو أن يستسلم الإنسان لمخاوفه ويمكّنها من ناصية أمره، هنا يصبح مصير الإنسان مرهونا بخوفه مما يكره، أكثر من إقباله على ما يحب.
بعد رحلة طويلة ومرهقة وصلت كابل.. بدا الطقس غاية في اللطافة مقارنة بصيف الدوحة الحارق، لكنه كان مألوفا شديد الشبه بطقس المغرب.. استقبلني الزملاء في مكتب كابل بشكل دافئ ولهم ينسب كثير من الفضل في نجاح هذه التجربة.
لم تمهلني التطورات الأمنية أي مجال لالتقاط أنفاسي، ففي غضون أقل من أسبوعين على وصولي، غطيت عددا من التفجيرات في أنحاء من العاصمة كابل وكافة الولايات.
مكتب الجزيرة في أفغانستان يعد مرجعا عالميا للأخبار، فقد تأسس المكتب منذ أكثر من عقدين، وكان زملاء من الجزيرة يغطون أحداث البلاد قبل الغزو الأميركي لأفغانستان بسنوات، وتميزوا في التغطية بعد الغزو وما لحقه من أحداث، وأصبحت القنوات العالمية تقدم لمشاهديها ما ينتجه المكتب نقلا عن الجزيرة.
وهذا التاريخ العريق من التواجد في الميدان صاحبه نمو شبكة مصادر المكتب، وهو ما مكننا من الوصول إلى الخبر في أحيان كثيرة قبل حدوثه، بل والتأكد من صحته عبر مطابقته بمعلومات تأتينا من مصادر أخرى.
في قلب المعركة
في أفغانستان، هناك جبهات ملتهبة بشكل شبه يومي، وعادة ما نغطي هذه الأحداث من مكتبنا في كابل، لكن أكبر حدث شهدته وقع بعد وصولي بأقل من أسبوعين.
في الساعات الأولى من فجر الجمعة 10 أغسطس/آب، هاجم أكثر من ألف مقاتل من حركة طالبان مركز مدينة غزني عاصمة الولاية التي تحمل الاسم نفسه.
هاجم مقاتلو الحركة مراكز الشرطة والجيش ومقر المخابرات، ودارت أمام هذه المقرات معارك طاحنة خلفت مئات القتلى من الجانبين، كما لم يسلم المدنيون من تداعيات الهجوم حيث اندلعت المعارك أيضا في المناطق المأهولة.. أسواق بأكملها احترقت، وقطعت خدمات الكهرباء والهاتف، وتوقفت خدمات الإذاعات المحلية.
منذ اليوم الأول لاندلاع الأحداث حاولنا التحرك نحو المدينة التي لا تبعد عن كابل سوى 150 كلم، لكن الطريق كانت قد قطعت بدوريات لحركة طالبان، وبعد تنسيق مع مسؤولي الجيش الأفغاني وافقوا على اصطحابنا معهم في إحدىالمروحيات المتوجهة إلى المدينة.
وصلنا غزني بعد ثلاثة أيام من المواجهات.. كانت المحلات مغلقة على امتداد شوارع المدينة.. تواجد كثيف لقوات الجيش الأفغاني لم يُقنع السكان بأن الوضع تحت السيطرة.. مستشفى المدينة لم يكن بحال جيدة كذلك، فقد استقبل المئات من الجرحى والقتلى خلال أيام قليلة، وهو ما كان فوق طاقة المستشفى وطاقمه.
وصلنا ساحة المعركة، تقدمنا حتى الخطوط الأمامية للمواجهة، في وقت كانت الاشتباكات فيه لا تزال مستمرة في الأطراف الغربية للمدينة، ورافقنا الجيش في دوريات ليلية.
كنا في مرافقة الجيش الأفغاني في معظم الوقت، وعند الأسئلة التي نطرحها لاحظنا أن هناك بعض المعلومات التي لم تكن تُمنح لنا، أو كانت تُقدّم لنا بصورة لا تعطي الحقيقة كاملة. ولا أستطيع أن أنكر دور زميلي المنتج حميد الله محمد شاه الذي أكمل عقده الأول مع الجزيرة في مكتب كابل، والدور الذي لعبه في تدقيق كافة المعلومات التي تصلنا من كافة المصادر والتأكد من مدى مطابقتها لروايات المصادر الأخرى.
هذه في حد ذاتها لم تكن مهمة سهلة، فالحكومة الأفغانية تصرح بروايتها حول ما حدث، ثم لا تلبث حركة طالبان أن تُصدر عبر المتحدث باسمها بيانا تعطي فيه رواية مخالفة تماما.
في بعض الأحيان يمكن الاعتماد على شهود العيان لترجيح رواية على أخرى، وأحيانا تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورا حيويا في إعطاء رواية أخرى قد لا تكون محايدة بالضرورة، لكنها توفر في طياتها تفاصيل -صورة أو فيديو- قد تدعم صحة إحدى الروايات. أما فيما يتعلق بأرقام الضحايا، فلا يمكن إلا تقديم الأرقام كما تتبناها كل جهة ونسبة ذلك إليها، والاعتماد على المصادر الصحية فيما يتعلق بأرقام الضحايا المدنيين.
خرجت من غزني وقد كانت أقرب نقطة مواجهة بلغتها منذ وصلت أفغانستان.. عاد الهدوء بطيئا إلى المدينة وبدأت الأسواق تفتح تدريجيا، لكن الرعب الذي سكن النفوس بسبب أحداث تلك الأيام سيحتاج وقتا أطول لكي يتبدد.
حصاد التجربة
تعلمت من العمل في أفغانستان أن الحياة قطار لا ينتظر أحدا.. وجدتُ بين الناس إقبالا على الحياة كأن الغد غير موجود، في بلد أنهكته الحرب الأهلية والأطماع الأجنبية وموجات غزو متكررة.. في الأسواق والشوارع لا يكاد يظهر تأثير لهذا إلا إذا استوقفتَ أحدا وسألته.
في هذا البلد جيل جديد من الشباب، جيل حي يتمتع بعنفوان وإدراك عميق لواقعه.. شباب يتفاعل مع قضاياه وإن كبلته معيقات الواقع، لكن معطى أن يكون في أفغانستان التي تعُدّ 35 مليون نسمة أكثرُ من عشرة ملايين مستعمل للإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وما توفره هذه النوافذ من إطلالة على المعارف والعلوم وما ابتدعه البشر من تقنيات.. هذا المعطى وحده يدفع للاعتقاد بأن سيادة هذا الجيل بأفكاره الجديدة المعاصرة مسألة وقت لا أكثر.
على المستوى الشخصي كانت أفغانستان الأرض التي نقلتُ فيها الأخبار باللغة الإنجليزية.. انتصرت على شكوكي ولبيت طلبا من قناة الجزيرة الإنجليزية للعمل معهم، وقد كانت لحظة فارقة في تاريخي المهني، فتحت لي آفاقا أرجو أن تكون رحبة، رحابة الحضن الذي استقبلتني به هذه الأرض الطيبة.