ردد مارشال ماكلوهان، صاحب عدة نظريات إعلامية، بأن وسائل الصحافة والإعلام التي يستخدمها المجتمع أو يضطر إلى استخدامها؛ تحدد طبيعة هذا المجتمع والطريقة والكيفية التي يفكر ويعمل بها، ومن دون فهم الأسلوب الذي تعمل بمقتضاه وسائل الإعلام، لن نستطيع أن نفهم التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تطرأ على المجتمعات.
ولفهم آلية عمل وسائل الصحافة والإعلام في العصر الحديث، فإن هنالك مجموعة من مناهج العمل الإعلامي العلمية التي تفسر ذلك، أبرزها المنهجُ الصحفي والذي يناظره منهج هندسة الجمهور. فكل منهج منهما لديه مبادئه وأهدافه ودوافعه وآثاره. إلا أنه مع تطور وسائل الإعلام والاتصال وتعدد استخداماتها وأدواتها، أصبح المنهج الصحفي يعاني من الذوبان والتهميش وربما الاندثار، واتجهت الأنظار نحو منهج هندسة الجمهور لقدرته على الاستقطاب والتأثير بشكل أكبر وملفت.
المنهج الصحفي
للصحافة تعريفات عدة، ولكن يمكن تعريف المنهج الصحفي حسب ما يقدمه علماء الصحافة بأنه السعي للوصول إلى الحقائق أو ما يقرب إليها وجمع وتحليل الأخبار حولها والتحقق من مصداقيتها وتقديمها للجمهور في الوقت المناسب بطريقة سليمة موضوعية وحيادية (2). ويظهر من هذا التعريف بأن الهدف الأساسي من الصحافة المهنة والمنهج هو الحقيقة، بكشفها ونشرها، ونقل المعلومات حولها كوظيفة أساسية لها، تمثل جزءا من صنع والحفاظ على البيئة الديمقراطية في الدولة والمجتمع، ويمكن تلخيص ذلك بدور الصحافة كسلطة رابعة تقوم بدور الرقيب بما يحقق العدالة بين فئاته وطبقاته، فهي تحاسب المتنفذين وصانعي السياسات وفي الوقت ذاته تعكس لهم صورة أوضاع الجمهور وحاجياتهم وردود أفعالهم.
وللصحافة وظائف عدة، فهي تقدم جانبا ترفيهيا ومسليا للمجتمع، وترسم له خلفيةً معلوماتية عن الأحداث والمحيط من حوله، وتقدم تفاسيرا للظواهر المحيطة، وتشرح العلاقات السببية للأحداث، وتحفز الجمهور لتعلُّم الأشياء الجديدة ومواكبة التطورات، بل إنها أداة هامة لحفظ السلم في المجتمع. كل ذلك لا بد أن يقدَّم في إطار التعريف الأساسي لمنهج الصحافة، بالسعي للحقيقة، فالصحافة قد لا تحتمل إلا وجه الحقيقة الموضوعية والمصداقية والقيم والأخلاق (3).
هذا الدور للصحافة يضمن تقديم المعلومات والمعطيات للأفراد بحيث يكونون قادرين على اتخاذ القرارات المناسبة المتعلقة بواقعهم، وبالأحداث التي تمسهم، فإن صحت المدخلات التي تقدمها الصحافة لهم ستكون قرارات الأفراد، كمخرجات، صحيحة وواقعية وحكيمة أكثر، والعكس صحيح. لذلك على الصحافة الالتزام بمبادئها المُقرّة ومسؤولياتها في خدمة القضايا والقيم الإنسانية والعادلة، وتطبيق المنهج الصحفي (3).
منهج هندسة الجمهور
ظهر وترسخ منهج هندسة الجمهور (The Engineering of Consent) في النصف الأول من القرن العشرين على يد رائد علم العلاقات العامة النمساوي إدوارد بيرنيز (Edward Bernays) الذي انتقل للعيش في الولايات المتحدة متشربا لأفكار خاله عالم النفس سيغموند فرويد (Sigmund Freud) والتي استخدمها في الدعاية بشكل عام والدعاية السياسية والبروباغاندا بشكل خاص، حيث تعتبر هندسة الجمهور إحدى الفروع والاستراتيجيات التي تندرج تحت علم العلاقات العامة، ونشر بيرنيز أول مقالة علمية له عن هندسة الجمهور عام 1947 (4).
ويمكن تعريف منهج هندسة الجمهور حسب بيرنيز نفسه وما اتفقت عليه مجمل الدراسات العلمية، بأنه عملية التأثير على العقل اللاواعي للجمهور المستهدف وحاجاته وغرائزه، عن طريق دراسة كافة تقسيماته، ومن خلال منهج هندسي قائم على دراسةٍ وفهمٍ وتخطيطٍ لجوانب العملية الاتصالية النفسية والاجتماعية والسياسية، وتقنيات التأثير والإقناع كافةً (5)، من أجل تحقيق أهداف ومصالح محددة. واعتبر جوزيف كلابر (١٩٤٨) المنهج بأنه كل ما يسعى إلى تغيير عقل الآخر. ويرى آخرون بأن هندسة الجمهور هي قصف جمهور محدد برسائل استراتيجية وتضليلهم، وتخويفهم، والتلاعب بالمعلومات التي تصلهم للتأثير عليهم تجاه قضايا محددة (6).
نجح بيرنيز في ذلك من خلال عدة حملات سياسية وتجارية كان أشهرها حملة "مشاعل الحرية" التي ربط فيها بين تدخين السجائر والعقل اللاواعي للمرأة، بأنها تشكل بالنسبة لها القوة والحرية والاستقلالية في عشرينيات القرن الماضي، حيث نجحت الحملة في رفع مبيعات السجائر لدى المرأة بشكل لافت، وهي الغاية التي كان ينشدها رئيس الشركة الأميركية للتبغ جورج واشنطن هيل (5).
إلا أن الحكومات والأنظمة تستخدم منهج هندسة الجمهور بطريقة ديماغوجية لأهداف غير ديموقراطية من خلال وسائل الصحافة والإعلام بما يخدم مصالحها ويؤثر على قرارات الجمهور وتوجهاته، وتعتبر فكرة صناعة الرأي العام والتلاعب به التي تحدث عنها وولتر ليبمان (Walter Lippmann) عام 1922 إحدى وسائل هندسة الجمهور (7).
وانطلاقاً من ذلك، يمكن القول إنه بإمكاننا استخدام هندسة الجمهور إيجابا وسلبا، فالحقيقة ليست هدفا لهندسة الجمهور ولا تعنيها كثيرا، وإنما الهدف والمحرك الرئيسي هو خدمة مصالح وأجندات
وأهداف الجهة التي تتبع لها وسيلة الإعلام، وتكمن خطورة هندسة الجمهور في أنها لا تقدم المعلومات والمعطيات ثم تترك الباب للفرد بأن يتخذ قراره ويكوِّن رأيه، وإنما تؤثر على عقله اللاوعي وتسيطر عليه بطريقة لا يمكنه أن يقاوم تأثيرها أو ألا يكون واعيا لها، وبالتالي التحكم بقرار الفرد وتوجهه.
أما مبادئها فإنها ليست واضحة كالصحافة، فهي تستخدم التقنيات النفسية والإقناعية وما يستثير العقل اللاواعي، بالإضافة إلى استخدامها الوسائل التكنولوجية الحديثة، مثل البيانات الضخمة لتحقيق غايتها المخطط لها مسبقاً، ووسائلها متنوعة ومتعددة ولا تقتصر على وسيلة أو شكل إعلامي محدد، ودوافعها هي أجنداتها الخاصة ومصالح الممولين لها، من شركات وأحزاب وحكومات وغيرهم.
ولكن في حال استخدامها إيجاباً؛ فهي أداة فعالة أكثر من الصحافة في إصلاح المجتمع والانتصار للقيم الإنسانية العادلة والمبادئ الأخلاقية، وبإمكانها قيادة المجتمع إلى السلم المجتمعي وتعزيز روابط وحدته، وبناء جيل حضاري. كما ويعتبر الوعي بهندسة الجمهور مهما لنا كصحفيين وإعلاميين حيث يساعدنا على كشفها وتوعية المجتمع بآثارها السلبية في حال وجدت كونها قد تسعى لإخفاء الحقيقة.
الصحافة أمام عاصفة هندسة الجمهور
تستطيع هندسة الجمهور أن تدفع بناخب للتصويت لصالح طرف في الانتخابات، في المقابل، تكمن وظيفة الصحافة في أن تكشف حقيقة أن الدعم المادي الذي تلقاه طرفٌ من طرفٍ خارجي لتحقيق مصالحه مثلا، وتبيان الوسائل والأدوات التي استخدمها هذا الطرف للتأثير على الجمهور وتوعيته بها وبمخاطرها.
ويمكن أن يكون هذا تماما ما حصل في الانتخابات الأمريكية الأخيرة ٢٠١٦، التي كشف فيما بعد بأن شركة كامبريج أناليتيكا (Cambridge Analytica) استهدفت الجمهور الأمريكي، بشكلٍ خاص عبر منصة فيسبوك، للتأثير على طرف لصالح طرف آخر باستخدام منهج هندسة الجمهور في تحليل الجمهور الأمريكي والتأثير على عقله اللاواعي، بحيث لا يستطيع هذا الجمهور مقاومة هذا التأثير (8). وهو ما اعترف به ضمنيا فيلسوف الكمبيوتر ورائد وادي السليكون الأمريكي على قناة الجزيرة الإنجليزية جارون لانيير (Jaron Lanier) بأن دونالد ترامب كان بإمكانه أن يصبح رئيسا بدون وجود تويتر، لكنه لم يكن بإمكانه أن يكون رئيسيا بدون فيسبوك (9).
ومن الأمثلة التي يمكن أن يتم دراستها وقياس عمل هذين المنهجين عليها هي قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، فالتكتم على القضية، وتأويل الشائعات حولها، وتشويه صورة خاشقجي نفسه، واستخدام "التريند" السياسي على تويتر، والجيش والتنمر الإلكتروني، والأخبار الزائفة، والتسريبات إعلامية، والتلاعب بمصادر الأخبار لمحاولة تغطية الحقيقة، وباستخدام قادة الرأي العام ووسائل الإعلام التابعة للجهات المتكتمة على الحقيقة. هذا كله وإن تم عبر وسائل صحافية وإعلامية كبيرة ومعتبرة ما هو إلا تطبيقٌ لمبدأ هندسة الجمهور.
في المقابل فإن دور المنهج الصحفي في قضية مثل هذه، هو السعي قدر المستطاع إلى كشف الحقيقة وكل ما يقرب لها، وتقديم المعلومات الدقيقة والموضوعية والحيادية للجمهور بكل ما يتعلق بهذه القضية، مع الانتباه إلى عدم المبالغة والتشهير والاعتماد فقط على تسريبات إعلامية، واستخدام الأساليب المخالفة لمبادئ الصحافة ومعاييرها الحقيقية بعيدا عن الأجندات والمصالح. فهذه يمكن اعتبارها صحافة حقيقة تقوم بدورها الحقيقي في المجتمع ومراقبة السلطات ومساءلتها.
تعزيز شكل حديث للصحافة
قد تتجهُ الكثير من الوسائل الإعلامية والصحافية إلى استخدام المنهجين معا، فهي تعمل من خلال المنهج الصحفي وتلجأ إلى منهج هندسة الجمهور عندما يتعلق الأمر ببعض القضايا التي تمس مصالحها، وهو ما يحتاج توعية حقيقة للوسيلة الصحفية أولا، وللجمهور ثانيا. كما يتوجب علينا كصحفيين ومؤسسات صحفية توعية الجمهور بدور وسائل الإعلام وتأثيرها وكيفية التعامل معها، فالجمهور ينبغي ألا يكون فقط متلقيا وخاصة في عصر وسائل التواصل الحديثة والتعددية الصحفية.
قد يعتبر الوصول إلى الصحافة الحقيقية والخالصة أمراً مستحيلا في العصر الحديث، ولكن من المهم المساهمة في بناء وتعزيز الشكل الحديث لها بعيدا عن سطوة السياسة والأنظمة الحاكمة والمال، من خلال وسائل التواصل والصحافة قليلة التكلفة والقادرة على تمويل ذاتها بما يلتزم بمعايير المنهج الصحفي ويزيد موثوقيتها.
ما أحاول طرحه في هذه المقالة هو أن هندسة الجمهور تعيد تشكيل ذاتها لتصبح منهجا علميا متكاملا يوازي منهج وعلم الصحافة، وقد يكون إطارا علميا حديثا لاستيعاب التطور الحاصل في الأدوات والاستخدام لوسائل الإعلام والاتصال الحديثة. ولكن في الوقت ذاته، على الصحفيين والمؤسسات الصحافية أن يدركوا الفروقات بين المنهجين بدقة ووعي، وأن يكافحوا من أجل تطبيق المنهج الصحفي ومبادئه، بحيث لا تكون المؤسسة صحفية لكنها تطبق هندسة الجمهور حرفيا.
المراجع
1. ماكلوهان مارشال... قراءة في نظرياته بين الأمس و اليوم. تواتي نور الدين . ٢٠١٣، مجلة العلوم الإنسانية والإجتماعية ، الصفحات ١٧٧-١٩٠.
2. Why democracies need a Functional Definition of Journalism now more than ever. Shapiro, Ivor . 2014, Journalism Studies, pp. 555-565. 10.1080/1461670X.2014.882483.
3. سعد المشهداني. الصحافة العربية والدولية: المفهوم، الخصائص، المشاكل، النماذج، الاتجاهات. الإمارات العربية المتحدة : دار الكتاب الجامعي، ٢٠١٤.
4. The Engineering of Consent. Bernays, Edward L. 1947, The Annals of the American Academy of Political and Social Science, pp. 113-120.
5. The Engineering of Consent: A State-of-the-Art Review. Abu Arqoub, Omar. Famagusta : s.n., 2018, Unpublished Manuscript Submitted for Publication.
6. Bennett, Lance. Engineering Consent The Persistence of a Problematic Communication Regime. Domestic Perspectives on Contemporary Democracy : Domestic Perspectives on Contemporary Democracy. Baltimore : University of Illinois Press, 2004, pp. 132-154.
7. صفقة القرن من منظور الإعلام وهندسة الجمهور . عمر أبو عرقوب . ٢٠١٨، رؤية تركية ، الصفحات ٥٣-٧٦.
8. نواف التميمي. نموذج التواصل السياسي لــ"كامبريدج أناليتكا": فبركة الأخبار وهندسة الجمهور. مركز الجزيرة للدراسات. [متصل] ٨ أيار, ٢٠١٨. http://studies.aljazeera.net/ar/mediastudies/2018/05/180508093028286.ht….
9. Al Jazeera News. Would Donald Trump be President Without Facebook? Aljazeera.com. [Online] November 17, 2018. https://www.aljazeera.com/programmes/upfront/2018/11/donald-trump-presi….
10. El-Mahdi, Rabab. Engineering Consent: The De-Politicization of The Political. Empowered Participation or Political Manipulation? : State, Civil Society and Social Funds in Egypt and Bolivia. Leiden, NETHERLANDS : BRILL , 2011, pp. 155-173.
11. ماهية التدّفق الإعلامي الدّولي و تطورات خطاباته. عبد الله ثاني قدور. 2014، RIST، الصفحات 7-20.