ترجمة: إيمان أبو حية
في الحادي عشر من يوليو/تموز 2025، احتشد عشرات الشبان في شوارع بلدة توري باتشيكو (Torre Pacheco) الواقعة في إقليم مورسيا جنوب شرقي إسبانيا التي يقطنها نحو 40 ألف نسمة. كان العديد منهم يرتدون قمصانًا سوداء ويتسلحون بالعصي ومضارب البيسبول، ويهتفون معا: "هيّا لصيد المهاجرين".
غير أنهم كانوا يقصدون فئة بعينها، وهم المهاجرين المغاربة، وعادة ما يُطلقون عليهم محليًا اسم "المغاربيين"، رغم أن المغربيين الذين ولدوا في المغرب يشكلون نحو 90% من إجمالي سكان إسبانيا المنحدرين من أصول شمال أفريقية، وثلثي المسلمين في البلاد. وعلى هذا الأساس يُختَزل كلٌّ من المسلمين والمغاربة وما يُعرف في بلدان أخرى "بـالعرب" في صورة عدو واحد: “الهجرة غير المرغوبة".
هذا التصوّر العدائي تشكّل عبر نشاط مكثف على شبكات التواصل الاجتماعي استمر لأشهر عديدة. وعلى خلاف خطاب أقصى اليمين في العقود الماضية، لم يعد الادعاء الرئيسي أن "المهاجرين يسلبون وظائفنا" بل انتقل خطابهم إلى اتهام المهاجرين بأنهم "مجرمون".
وقد كان الدافع المباشر لتجمع ناشطي أقصى اليمين في توري باتشيكو جريمة وقعت سابقا؛ حيث تعرض إسباني مسنّ لاعتداء وضرب مبرح على أيدي شبان ظُنَّ أنهم مغاربة في حين أن الفيديو الذي جرى تداوله عن الحادثة الذي استُخدم في الدعوة لـ "صيد المهاجرين" كان مفبركًا؛ إذ أظهر رجلًا آخر تعرّض للضرب قبل أسابيع على يد مهاجمين إسبان ليسوا من المهاجرين، لكن هذه الحقيقة لم تعد ذات أهمية بعد نجاح حملة التحريض.
وكان بابلو غونثالث غاسكا عضو حزب فوكس اليميني وأحد أبرز الداعين لتشكيل "ميليشيا مدنيّة" تمارس ما وصفه "الدفاع المشروع" ضد من " ينشرون الجريمة في شوارعنا". والحال أن غاسكا ليس من سكان مورسيا أصلًا، وهو معروف بنشاطه الطويل والمكثف على تويتر، حيث دأب على نشر صور ومقاطع فيديو يزعم أنها توثق حوادث إجرامية كالسرقة أو الاعتداء، مع إصراره شبه الدائم على أن مرتكبيها "مغاربيون"، من دون أن يقدّم أي دليل يثبت ادعاءاته.
وهناك آخرون يغرّدون بشكل منتظم بعناوين أخبار عن توقيف مشتبه بهم، ويكررون الادعاء ذاته، وعند التحقق من الخبر الأصلي يظهر أنه لا يتضمن أي إشارة إلى العِرق أو الجنسية. وعلى ذات النهج تقوم عدة مواقع إسبانية يمينية متطرفة - مواقع لا يصح وصفها بالصحف حتى لا نُهين المهنة - بنسخ حرفي للخبر من وكالة أنباء رئيسية كما تفعل معظم الصحف، ثم تضيف بعد ذلك ببساطة كلمة "مغاربي" في العنوان أو المقدمة.
في المقابل، فإن العديد من منصات التحقق الإسبانية فنّدت هذه المزاعم، وأثبتت أن المشتبه بهم في حالات كثيرة ليسوا من المهاجرين على الإطلاق. لكن هذه المهمة شاقة؛ فعادة ما تمتنع الصحف الإسبانية وبالمثل تصريحات الشرطة -التي تعتمد عليها بصفتها مصدرا - عن تقديم أي إشارة حول الخلفية العرقية أو الدينية للمشتبه بهم. وقد اعتُبر ذلك لسنوات "ممارسة صحفية سليمة"؛ لأن الإشارة إلى الجنسية أو العرق كان سيتيح لجماعة اليمين المتطرفة انتقاء العناوين وترويجها لربط الجرائم بالمهاجرين، في محاولة لإقناع الرأي العام بأن "المهاجرين يجلبون الجريمة إلى إسبانيا". لذلك جرى اعتماد قاعدة عدم ذكر هذه التفاصيل باعتبارها وسيلة لتفادي تغذية العنصرية."
لكن في الوقت الراهن لم تحقق هذه السياسة غايتها؛ فالغياب التام لأي معلومات عن الخلفية العرقية للمشتبه بهم أتاح لأقصى اليمين إلصاق كافة الجرائم بالمغاربة دون أن تتوفر وسيلة سهلة لدحض أخبارهم الزائفة. قبل سنوات كان اليمين الإسباني يوجّه خطابًا عنصريًا ضد المهاجرين من أميركا اللاتينية لكن الحال تبدّلت، واليوم يحاول بعض المقيمين من أميركا اللاتينية في إسبانيا الاصطفاف إلى جانبهم في مواجهة ما يسمونه "الخطر الإسلامي".
حجب المعلومات الحساسة لا يعني بالضرورة حماية المجتمع بل قد يمهّد الطريق لضرر أكبر؛ ففي واقعة توري باتشيكو، تبيّن أن المشتبه بهم الذين أوقفتهم الشرطة مغاربة فعلًا لكنهم ليسوا من البلدة. ومع ذلك لم يكن ليحدث هذا المسار كله لولا الرسائل المتداولة على المنصات الرقمية التي اتهمت المغاربة زورًا بجرائم لم يرتكبوها.
وقد شهدت بريطانيا العام الماضي حادثة مشابهة؛ حين أقدم مراهق على قتل ثلاث فتيات صغيرات في ساوثبورت، ولم تنشر الشرطة أي معلومات عن هويّته حماية للقاصرين لكنّ شائعةً سرعان ما انتشرت زعمت بأن القاتل طالب لجوء وصل حديثًا ويُدعى "علي" (4)، أدّت إلى استهداف متاجر المسلمين ومساجدهم ومراكز اللاجئين، وحين أعلنت الشرطة لاحقًا أن المشتبه به شاب بريطاني المولد من خلفية رواندية مسيحية بعيدة، كان الضرر قد وقع بالفعل.
تبين هذه المعطيات أن حجب المعلومات الحساسة لا يعني بالضرورة حماية المجتمع بل قد يمهّد الطريق لضرر أكبر؛ ففي واقعة توري باتشيكو، تبيّن بعد أيام أن المشتبه بهم الذين أوقفتهم الشرطة مغاربة فعلًا لكنهم ليسوا من سكان البلدة. ومع ذلك لم يكن ليحدث هذا المسار كله لولا مئات - بل آلاف - الرسائل المتداولة على شبكات التواصل الاجتماعي التي اتهمت المغاربة زورًا بجرائم لم يرتكبوها.
وبناء عليه ثمة حقيقتان ينبغي توضيحهما؛ أولًا: لا توجد علاقة بين ارتفاع نسبة المهاجرين في المجتمع وارتفاع معدلات الجريمة؛ ففي توري باتشيكو يشكل المهاجرون نحو ثلث السكان، نصفهم من المغاربة وفقا للإحصاءات الرسمية. غير أن "المعدل المحسوس" يبدو أعلى؛ لأن المهاجرين في إسبانيا يحصلون عادة على الجنسية بعد 10 سنوات من الإقامة القانونية، ومعظم الجيل الشاب المولود في إسبانيا هم بالفعل مواطنون وبالتالي لا يظهرون في الإحصائيات القائمة على الجنسية.
فعلى سبيل المثال، يبلغ معدّل الجريمة في بلدية توري باتشيكو 41 مخالفة قانونية لكل ألف نسمة، وهو أقل من المعدّل الإسباني العام البالغ 50، ويكاد يساوي نصف المعدّل المسجّل في بامبلونا (74)، حيث لا تتجاوز نسبة الأجانب نحو 13% من السكان، فيما لا تكاد تصل نسبة المغاربة إلى 1%. وعلى الصعيد الوطني، تُعدّ إسبانيا من أعلى الدول الأوروبية من حيث نسبة السكان المولودين خارج الاتحاد الأوروبي، لكنها في المقابل تقع عند الطرف الأدنى لمعدلات الجريمة في القارة.
أما الحقيقة الثانية فتظهر عند تحليل إحصاءات الجريمة؛ ذلك أن الأجانب (من دون تفصيل حسب الجنسية) يشكّلون نسبة أعلى مما تعكسه حصتهم الفعلية من السكان. وبما أن هذه حقيقة يصعب إنكارها فقد اتفقت الصحافة السائدة على حجب هذه البيانات تفاديًا لتغذية العنصرية. غير أن الأثر العكسي لذلك هو أن اليمين المتطرف بات لا يكتفي بالزعم أن "الهجرة تجلب الجريمة إلى إسبانيا" فحسب، بل يذهب أيضًا إلى اتهام الصحافة ذاتها بأنها تدرك ذلك وتختار تضليل قرّائها عبر إخفاء الأرقام.
أرى أنه من منظور أخلاقيات المهنة لا يُعدّ حجب المعلومات بذريعة "خدمة قضية نبيلة" أمرًا مقبولًا. صحيح أننا في العمل الصحفي يحكمنا مبدأ أساسي هو "تقليل الضرر" لكن هذا المبدأ يجب أن يشمل - قبل كل شيء - تفادي إلحاق الضرر بالأفراد.
بالنسبة لي بصفتي صحفيا، أرى أنه من منظور أخلاقيات المهنة لا يُعدّ حجب المعلومات بذريعة "خدمة قضية نبيلة" أمرًا مقبولًا. صحيح أننا في العمل الصحفي يحكمنا مبدأ أساسي هو "تقليل الضرر" وهو يقتضي الامتناع عن نشر كل ما نعرفه من تفاصيل إذا لم تكن معلومات جوهرية وقد تلحق الأذى بأشخاص، لكن هذا المبدأ يجب أن يشمل - قبل كل شيء - تفادي إلحاق الضرر بالأفراد. فعلى سبيل المثال، لا يجوز نشر الأسماء الكاملة؛ إذ يحق لكل شخص التمتّع بقرينة البراءة غير أن الإشارة إلى كون المشتبه به من خلفية مهاجرة أو إلى جنسيته لا تضرّ بالفرد مباشرة، لكنها قد تُلحق الأذى بالجماعة الإثنية الأوسع التي ينتمي إليها. وهذا هو المنطق الذي استندت إليه ممارسة حجب هذه البيانات، غير أن ما نشهده اليوم يوضّح أن هذا الحجب بات يلحق الضرر نفسه بتلك الجماعة وبالمجتمع كله.
علاوة على ذلك، بعض الوقائع تمثل فيها الإشارة إلى خلفية المهاجر أو عدمها تفصيلا ضروريا لفهم الخبر. ولكننا لو تحدّثنا عن فتاة شابة قُتلت على يد عائلتها بسبب أسلوب حياة "غير لائق"، لأصبح من غير الممكن تجاهل خلفيتها الإثنية؛ لأن جريمة مماثلة لن تحدث لا في إسبانيا ولا في المغرب، لكنها -يا للأسف- تُمارس بصفتها عرفا اجتماعيا في "بعض" مناطق الشرق الأوسط أو أماكن أخرى.
وعلى هذا النحو، فإن الإيحاء بأن "أي شخص كان يمكن أن يرتكب هذه الجريمة" (وهو ما قد يترجمه كثير من القراء فورًا إلى "أي مسلم") يحرم القارئ من فهم الديناميات الاجتماعية والضغوط الثقافية المتجذرة في تقاليد محلية محددة تقف وراء مثل هذه الجرائم. وبالمثل، قد يكون من الضروري التنويه في بعض جرائم القتل إلى أن مرتكبها كولومبي أو إيرلندي مثلا، بالنظر إلى أن إسبانيا تُسجّل أحد أدنى معدلات جرائم القتل في أوروبا (0.7 لكل 100,000 نسمة)، حيث تمثّل جرائم القتل المرتبطة بالمافيات الأجنبية نسبة صغيرة لكنها غير مهملة من مجموع الجرائم.
من المؤكد أنه يُمكن لأي شخص ارتكاب جريمة سرقة، لكن من الأجدى أن نحاول تفسير الديناميات الاجتماعية التي تدفع بعض المهاجرين إلى الطبقات الدنيا من المجتمع. والبداية من أن النظام برمته الذي يسمح بتدفق الهجرة الضرورية إلى أوروبا يبدو كأنه مصمَّم لإبقاء المهاجرين لفترة طويلة في حالة من "اللاشرعية".
من المؤكد أنه يُمكن لأي شخص ارتكاب جريمة سرقة، لكن من الأجدى أن نحاول تفسير الديناميات الاجتماعية التي تدفع بعض المهاجرين إلى الطبقات الدنيا من المجتمع. ولعل البداية تكمن في حقيقة أن النظام برمته الذي يسمح بتدفق الهجرة الضرورية إلى أوروبا يبدو كأنه مصمَّم لإبقاء المهاجرين لفترة طويلة في حالة من "اللاشرعية". وهذا نقاش يتطلب مساحة أخرى، لكن من منظور صحفي، محاولةُ إلقاء الضوء على الأسباب التي تجعل هذه الأمور تحدث قد تكون أكثر أخلاقية وأكثر فائدة من مجرد التظاهر بأنها لا تحدث.
ربما حان الوقت للتخلي عما يعرف "بالممارسة الجيدة" المتمثلة في عدم ذكر جنسية أو أصل المشتبه به أو خلفيته في قضايا الجريمة، واعتماد نموذج وكالة الأنباء النمساوية (APA) التي جرت العادة لديها أن تذكر جنسية المشتبه به أو خلفيته العرقية بشكل روتيني في جميع أخبارها المستندة إلى تقارير الشرطة بشأن الجرائم أو الجنح، دون إبرازها في العنوان أو المقدمة. وبهذا الأسلوب تتجنب الإيحاء بأن الجنسية عامل رئيسي في الحدث، لكنها تتعامل معها كتفصيل من التفاصيل العديدة المحيطة بالقضية.
ختاما، الصحفي الجيد سيسأل نفسه دائما ما هي المعلومة الضرورية للسياق وتلك التي يمكن الاستغناء عنها. أما الحظر المطلق لذكر الجنسية في ضوء ما يجري في إسبانيا فلم يحقق أي فائدة، بل ساهم حتى في تدهور صورة الصحافة السائدة ووصمها بأنها "مضلِّلة".
المعلومة سلاح، لكن إخفاءها لا يجعلها أقل خطورة.