كانت الدراسة صادمة جدا، والنقابة التونسية للصحفيين في مقاربة أولى لمسألة التحرش داخل مواقع العمل، أعلنت خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تزامنا مع الأيام الدولية لمناهضة العنف ضد المرأة، عن تعرض 80% من منخرطاتها من الصحفيات للتحرش على الأقل مرة واحدة أثناء أدائهن مهامهن الصحفية خلال العام 2018. وتعتبر فئة الصحفيات اللواتي يوجدن في وضعية هشة ويمثلن قرابة 20% من الجسم الصحفي في تونس، الأكثر عرضة للظاهرة.
تحرش في كل مكان
ورغم أن الأرقام الصادرة عن نقابة الصحفيين التونسيين تستند إلى استبيان رسمي داخلي، فإنها لم تجد قبولا لدى عدد كبير من العاملين في قطاع الإعلام وأثارت ردود فعل متباينة. لقد رأت صحفيات أن الرقم مضخم وغير حقيقي ولا يعكس في الأصل قراءة إحصائية لهذه "الظاهرة غير المنتشرة"، بقدر ما يمثل عنوانا لتشويه قطاع حساس ومفتوح أغلب العاملين فيه من النساء.
لكن هذا الرأي لا يحجب حقيقة أن صحفيات كثيرات يعتقدن أن النسبة التي أعلنت عنها نقابة الصحافة أماطت اللّثام عن مشكل كبير في قطاع الإعلام طالما عانت منه صحفيات داخل وخارج قاعات الأخبار، وينتشر أكثر في وسائل الإعلام السمعية والبصرية.
التحرش لا يقتصر فقط على وسيلة إعلامية دون أخرى، بل إن دراسة النقابة بينت أن التحرش ينتشر في كل المنصات. في تونس تجد الصحفية نفسها في مواجهة التحرش الجنسي اللفظي والجسدي داخل مؤسستها الإعلامية وفي مواقع العمل وخلال الحوارات واللقاءات والتغطيات الصحفية التي تؤمنها، وحتى خلال الزيارات الميدانية التي تقوم بها.
وتميل عدد من المتعرضات للتحرش إلى رفض الاعتراف بالظاهرة ومحاولة تبسيطها وإدراجها في خانة المتعود والاعتيادي، لسببين يرتبط أولهما بالثقافة المجتمعية التي تطغى عليها العقلية الذكورية الرجالية وتنحو دائما إلى وضع المرأة في موضع الاتهام، إذ ترى في طريقة لباسها وكلامها أو مكان جلوسها أو طريقة تبرجها دافعا وراء إقدام الرجل بصفة عامة على التحرش بها. وبالتالي، وحتى ترفع المرأة الصحفية الحرج عنها وتدفع التهمة المجتمعية، تتسامح مع مختلف التجاوزات ومحاولات التحرش التي يمكن أن تتعرض لها خلال عملها، وتغض النظر عنها إلى درجة أن بعضهن يصنفن حالات وحوادث التحرش بالأمر العادي الذي يصنف ضمن مخاطر العمل الصحفي.
أما السبب الثاني الذي يجعل المرأة الصحفية ترفض الاعتراف بانتشار ظاهرة التحرش في قطاع الإعلام، فيرتبط بجهل النساء -ومنهن الصحفيات- بمفهوم التحرش الذي يعرف على أنه "إقدام شخص على تصرفات ذات طبيعة جنسية غير مرحب بها من الطرف الآخر، قد تشمل التحرش اللفظي أو الجسدي أو كليهما. ولا يشترط أن يكون المتحرش من الجنس الآخر، فقد يكون من نفس نوع الضحية. والشرط اللازم لتسمية التلميحات أو التصرفات الجنسية تحرشًا هو عدم موافقة الطرف الآخر على هذه التصرفات أو التلميحات".
ويعرّف الفصل 226 ثالثا من المجلة الجزائية التونسية التحرش الجنسي بأنه "الإمعان في مضايقة الغير بتكرار أفعال أو أقوال أو إشارات من شأنها أن تنال من كرامته وأن تخدش حياءه، وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغباته أو رغبات غيره الجنسية، أو ممارسة ضغوط عليه من شأنها إضعاف إرادته على التصدي لتلك الرغبات".
التحرش في تونس مثل باقي دول العالم، ارتفع مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي ينطبق أيضا على الصحفيات اللواتي ذكرن أنهن تعرضن للكثير من محاولات التحرش من المسؤولين في مختلف المواقع.
وتعتقد بعض الصحفيات والصحفيين أن المغازلة أو الملاطفة الصادرة عن زملاء أو من قبل رؤساء في العمل أو من قبل شخصية عامة أو حتى من قبل مواطن، لا تعتبر تحرشا جنسيا بالضرورة.. في الوقت الذي تمثل فيه المغازلة أو الملاطفة أبرز مظاهر التحرش، فبمجرد أن تنظر "الضحية" إلى تلك المغازلة أو "الكلام الجميل" -كما يحبذ الأغلبية وصفه- أو الملاطفة أو التعامل الجريء أو إقدام الآخر على وضع يده على كتفها أو مسكها من يدها؛ على أنه أمر مزعج وغير مقبول، عندها ودون أي تبرير أو تأويل، يدخل السلوك تحت مسمى التحرش اللفظي أو الجسدي أو كليهما معا.
قضية جادة
ويمكن القول إنه رغم الاختلاف المسجل في المواقف فيما يتصل بقضية التحرش الجنسي في مواقع العمل بقطاع الإعلام، فالمؤكد أن هذه الظاهرة بدأت تخرج تدريجيا من دائرة المسكوت عنه في تونس، حيث تحولت إلى مادة إعلامية يتم الاشتغال عليها في مختلف الوسائل الإعلامية، ويقع تناولها في شكل قصص حقيقية للتحرش، مما ساهم في كشف الستار عن الموضوع الذي بقي لمدة طويلة في خانة الممنوعات المسكوت عنها.
كما يمكن القول إن جرأة عدد من الضحايا -سواء من خارج قطاع الإعلام أو من داخله- هو ما ساهم في نقل موضوع التحرش الجنسي في مواقع العمل خاصة، من مجرد مادة يتم عرضها وتناولها في برامج إعلامية هدفها خلق الإثارة وتحقيق أعلى نسب مشاهدة، إلى قضية تخضع للبحث السوسيولوجي والإحصائي حتى في المؤسسات الصحفية.
ويبقى المشكل الأكبر فيما يتعلق بموضوع التحرش في وسائل الإعلام -حسب عدد من الشهادات والجمعيات التي تعنى بالمرأة- هو مسألة الإثبات، فالتحرش الجنسي ليس من الجرائم العادية التي تثبت عبر أدوات الإثبات المنصوص عليها في المجلة الجزائية والنصوص القانونية على غرار شهادة الشهود والاعتراف وغيرها.
التحرش في تونس -على غرار بقية دول العالم- يطرح إشكالا على مستوى صعوبة الإثبات، إذ إن فعل التحرش الجنسي والمضايقات بالأقوال أو الأفعال لا تسجل وتكون في الغالب في مكان خاص غير مفتوح للعموم ويتيح للمتحرش حرية أكبر.
واليوم ومع ما سجلته فضاءات العمل والحياة العامة من تطور تكنولوجي كبير، صارت الوسائل التكنولوجية من تسجيلات صوتية وفيديوهات أبرز آليات الإثبات، ليبقى الفصل في مثل هذه القضايا مرتبطا بالمحكمة ووجدان القاضي.
وفي السياق نفسه، تقول إحصائيات صادرة عن منظمات وجمعيات تونسية أن 90% من النساء التونسيات تعرضن للتحرش الجنسي في وسائل النقل العمومي، وتعرضن للعنف النفسي في الأماكن العامة بنسبة 78.1%، وللتحرش الجنسي من قبل زملائهن في العمل بنسبة 75%، في حين بلغت نسبة النساء ضحايا العنف الجنسي 43.8%، حسب دراسة قام بها مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة على عينة من النساء التونسيات.
الصحفية التونسية تعمل في بيئة صعبة، ولا شك أن التحرش يشكل اليوم تحديا مهنيا جديدا ما زلنا نمارس الرقابة بشأنه، وتتحدث عنه وسائل الإعلام باحتشام إلى إشعار آخر.