قبل أزمة انتشار فيروس كورونا في العالم، كان هناك اعتقاد راسخ لدى قطاعات واسعة من أهل مهنة الصحافة وحتّى من الأكاديميين المختصين في هذا الحقل المعرفي بأنّ زمن الصحفي الخبير، أي المتخصص في مجال دقيق بعينه، انتهى بعدما أفل نجمه وأضحى خارج سياق التحولات التاريخية التي تعيش على وقعها المؤسسات الإعلامية بفعل الثورة التكنولوجية وإكراهات السوق وسطوة الميديا الجديدة.
لقد كان هؤلاء يبشّرون بأنّ عصرنا اليوم عصر الصحفي الشامل الذي يقوم بكلّ شيء ويكتب في كل المجالات ويناقش جميع القضايا بلا استثناء، بقطع النظر عن الجنس الصحفي المعتمد.
غير أنّ السياق العالمي الجديد أحدث رجّة طالت عديد المفاهيم والنظريات التي تهمّ قطاع الإعلام، وساهم في دقّ ناقوس الخطر من أجل إعادة النظر والتفكير في هذه الثنائية الجدلية، حيث أكدت الوقائع حدود مقولة خسوف دور الصحفي الخبير وتراجُع مكانته من منظور المسؤولية الاجتماعية ووظيفته في المجتمع.
في المسؤولية الاجتماعية للصحفي زمن الأزمات
يعدُّ مفهوم المسؤولية الاجتماعية للصحفي من النظريات الحديثة التي تمّ اجتراحها في سياق تخليق العمل الإعلامي ووضع ضوابط تُنظّم مهنة الصحافة وأدوارها المجتمعيّة. فالصحفي ليس فقط صاحب حقوق مهنية تتعلق بالمسائل المادية والظروف المعنوية وهامش الحريات المتاحة له، وإنما هو أيضا فاعل اجتماعيّ بامتياز من واجبه الالتزام بجملة من الواجبات المناطة بعهدته والتي عادة ما تتبلور في مدونة أخلاقيات المهنة ومواثيق الشرف.
من هذا المنطلق، يمكن تناول مسألة المسؤولية الاجتماعية للصحفي التي تكون مضاعفة لا سيما زمن الأزمات، حيث يكون خلالها كمن يمشي على رمال متحركة. هذه المسؤولية تنبع مشروعيتها أساسا من انتظارات الجمهور وحاجيات المجتمع الذي لا يطالب فقط بالمعلومة الدقيقة والموثوقة، وإنما يرى في وسائل الإعلام -التي يمكن اعتبار العنصر الصحفي قطب الرحى فيها- الوسيلة التي يمكن أن تنير له درب الحقيقة بالتحليل والتفسير والتحقّق والتوعية، بعيدا عن أسلوب الإثارة الممجوجة، خاصة أنّ منصّات التواصل الاجتماعي ساهمت -بشكل أو بآخر- في انتشار الإشاعات والأخبار الزائفة والمضلّلة، ربّما بنفس مقدار تفشي فيروس كورونا في الأجساد أو أكثر.
إنّ الصحفي في هذا المضمار ليس من دوره تخويف الجمهور وتهويل الأمور، كما يدعو إلى ذلك بعض المسؤولين السياسيين حتّى يلتزم المواطنون بالحجر الصحي الشامل وبقرارات الحكومات والسلطات الرسمية للدول حمايةً للمجتمع والمصلحة العامة. وليس من دوره أأيضا إشاعة مشاعر الأمل بمبرر الحاجة إلى الموجات الإيجابية، على حساب الحقيقة التي هي جوهر عمله ورسالته الإعلامية.
كان الإعلان العالمي لأخلاقيات المهنة الصادر عن الاتحاد الدولي للصحفيين والمنقّح في المؤتمر الأخير المنعقد بتونس في يونيو/حزيران 2019، حاسما بخصوص هذه المسألة. فعلى امتداد 16 مادة، وردت واجبات الصحفيين وحقوقهم المتعلقة بأخلاقيات مهنة الصحافة بشكل واضح لا لبس فيه، حيث ينصّ في الديباجة على أنّ حقّ الناس في الحصول على المعلومات والأفكار بمثابة الركيزة الأساسية لرسالة الصحفيين المهنية، إذ إنّ مسؤولية الصحفي تجاه عموم المواطنين تتقدّم على أيّ مسؤوليات أخرى، حتّى لو ارتبط ذلك بالمسؤولية تجاه المشغلين أو إزاء السلطات العمومية. كما أنّ هذه الوثيقة العالمية المرجعية ذاتها تؤكد أنّ احترام الحقيقة وحقّ الجمهور في هذه الحقيقة، يشكلان المسؤولية الأولى للصحفي.
تحديات جديدة
من أهم التحديات التي فُرضت على الصحفي خلال أزمة انتشار فيروس كورونا من منظور المسؤولية الاجتماعية، بالإضافة إلى الأخطاء المهنية الكلاسيكية، خطر انزلاق هذا الفاعل الاجتماعي وتحوّله إلى مجرّد أداة اتصالية ودعائية للسلطات العمومية يتم عبرها نقل البلاغات والبيانات والرسائل السياسية، دون تدقيق وتمحيص وتفسير يشفي غليل الجمهور المتعطش إلى الحقيقة وإلى فهم ما يجري من حوله بخصوص موضوع تقني وفيروس طارئ قلب نسق حياته رأسا على عقب وبات يهدد مصير الإنسانية جمعاء.
لقد طرح هذا التحدّي إشكاليّة أعمق وأصعب، تتمثل في الحاجة إلى الصحفي الخبير الذي له من المؤهلات والكفاءة والدربة والمعرفة في الاختصاص الطبي ما يلزم لضمان معالجة صحفية مهنية ومسؤولة تخدم الصالح العام وتدور في فلك مفهوم صحافة الجودة، دون السقوط في أي مطبّ من المطبات، وكم هي كثيرة ومتشعبة في زمن مجابهة فيروس مستجدّ مثل فيروس كورونا الذي خلق مناخات أشبه بحالة الحرب.
بعيدا عن الجوانب النظرية التي يطول حولها النقاش، من المهم إلقاء نظرة فاحصة على هذه الإشكالية من منطلقات مهنية ميدانية وتجارب مقارنة. ففي حالة تونس أين يتمتّع الصحفيون بهامش كبير من الحريات، إذ يفيد أحدث تقرير لمنظمة "مراسلون بلا حدود" لسنة 2020 بأنّ هذا البلد الذي قطع خطوات عملاقة نحو الديمقراطية منذ ثورة 2011 ويعتبر الأوّل عربيا في مؤشرات حرية الإعلام بفضل الحصول على المرتبة 72 عالميا.
كشفت التجربة منذ انطلاق أزمة كورونا في مارس/آذار الماضي من السنة نفسها قصورا على مستوى التعاطي الإعلامي مع هذه الظاهرة، مردّه بالأساس إلى ندرة الصحفيين المختصين في المجال الصحي.
فقد أنجزت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري التي تُعنى بتنظيم قطاع الإذاعات والقنوات التلفزية (العمومية والخاصة) دراسة حول التغطية الإعلامية والإعلانات التوعوية المتعلقة بفيروس كورونا، حيث رصدت المضامين التي تمّ بثّها في 4 مؤسسات تلفزية تزامنا مع بداية الحجر الصحي الشامل وحظر التجول خلال الفترة الممتدة بين 16 و29 مارس/آذار 2020 من الساعة السادسة مساء إلى منتصف الليل. كما تمّ رصد مدى التزام هذه القنوات التلفزية بدورها التوعوي والمجتمعي من خلال تسليط الضوء على الحيّز الزمني الإجمالي الذي خُصّص لبث الإعلانات التوعوية طيلة 18 ساعة من البثّ بداية من الساعة السادسة صباحا وإلى حدود الساعة منتصف الليل.
وبيّنت نتائج هذه الدراسة تخصيص القنوات التلفزية حوالي 75% من البث خلال فترة الذروة لتغطية كلّ التطورات والمستجدات المتعلقة بفيروس كورونا، سواء كان ذلك في تونس أو في بقيّة دول العالم بما يعادل 15 ساعة من البثّ، مقابل تخصيصها بقيّة الحيز الزمني لطرح مواضيع أخرى ذات طابع ترفيهي ورياضي وثقافي بما يعادل زهاء 40 ساعة. كما أفادت هذه الدراسة التي تعدّ الأولى من نوعها منذ انطلاق الأزمة في تونس أنّ القنوات التلفزية التي شملتها الدراسة خصصت قرابة 21 ساعة من البثّ للإعلانات التوعوية طيلة فترة الرصد وإعادة بثها أكثر من 1115 مرّة.
ما يمكن أن نستشفّه من خلال نتائج هذه الدراسة، هو كيفية تحوّل الملفات والأخبار المذاعة في القنوات التلفزية ذات العلاقة بموضوع فيروس كورونا إلى أولوية قصوى، سواء في السياسات التحريرية أو حتى لدى الجمهور الذي هو جزء لا يتجزأ من المعادلة الإعلامية ربطا بقضيّة المسؤولية الاجتماعية.
إنّ هذه الإحصائيات المقدّمة تبرز بشكل لا غبار عليه الطلب الاجتماعي الملحّ على المضامين الإعلامية ذات الارتباط بموضوع فيروس كورونا. وفي هذا الإطار، تزداد مسؤولية الصحفي صعوبة، فالمسألة هنا لا تتعلق فقط بالكمّ، بل تتطلب أيضا وقفة تأمل إزاء النوع والكيف، أي ما يمكن تلخيصه في مفهوم صحافة الجودة التي تتجاوز الإخبار بشكل برقي وسطحي والترفيه أيضا، لتشمل التفسير والتحليل والإنارة والتثقيف من خلال اعتماد مقاربات مهنية دقيقة ومسؤولة هدفها التوعية.
لقد كانت بدايات التعاطي الإعلامي مع أزمة فيروس كورونا مرتبكة حيث تعدّدت الأخطاء المهنية المرتكبة، لا سيما من قبل بعض القنوات التلفزية الخاصة، وهو ما دفع إلى إثارة النقاش حول موضوع المسؤولية الاجتماعية للصحفيين ولوسائل الإعلام في مثل هذه الوضعيات الحسّاسة. وعجّلت هذه الانزلاقات بتدخّل الهيئة التعديلية التي تهتمّ بالاتصال السمعي البصري حيث أوقفت برنامج "كلنا تونس" نهائيّا مباشرة بعد تمرير حلقته الأولى وإحالة ملفّه إلى هيئة مكافحة الفساد بسبب ما اعتبرتها مخالفات جسيمة مسّت قواعد المهنة وأخلاقياتها والإخلال بالمبادئ العامة للتعاطي الإعلامي زمن الأزمات.
كما أنّ النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين سارعت إلى اتخاذ موقف صادر عن لجنة أخلاقيات المهنة فيها، اعتبرت فيه أنّ ما تم بثّه على شاشة قناة "التاسعة" في سهرة يوم 27 مارس/آذار 2020 شابه العديد من الأخطاء المهنية والأخلاقية الجسيمة، لا سيما بسبب عدم الالتزام بالمعايير المهنية المعروفة من موضوعية وتوازن وعدم احترام حرمة المريض.
وقالت النقابة في بيانها إنّ "الجمهور صُدم خلال بثّ البرنامج المباشر بتلفظ الصحفية (المراسلة الميدانية) بعبارات مسيئة لكرامة شخص يخضع للحجر الصحي الإجباري في فندق بمحافظة سوسة، محمّلة أيضا المسؤولية لمنشّط البرنامج علاء الشابي (صحفي مختص في برامج تلفزيون الواقع الاجتماعي ولم يسبق له إدارة أيّ ملف متعلق بقطاع الصحة على حد علمنا)، حيث اعتبرت أنّه ضغط على الصحفيّة التي كانت موجودة في عين المكان لإلزامها بمواصلة الاستجوابات، وفي المقابل دافع الخاضعون للحجر الصحي عن حقهم في عدم تصويرهم وتمريرهم دون موافقتهم.
أبعد من ذلك، فقد وصفت لجنة أخلاقيات المهنة في النقابة مثل هذا التعاطي الإعلامي بأنّه كان أكثر ميلا نحو الإثارة عوض الإخبار ووضع المشاهدين في الإطار. كما اعتبرت أنّ الضيوف في ذلك البرنامج كانوا من غير المختصّين، بالإضافة إلى كونهم يعبّرون عن توجّه واحد وصل حدّ التجني على وزير الصحة والإطارات الطبية وشبه الطبية.
لقد بيّنت مثل هذه الحالة المتعلقة بإخلال جسيم في التعاطي الإعلامي في تونس مع أزمة فيروس كورونا، حدود المقاربة القائمة على الصحفي الشامل في التعامل مع مثل هذه القضايا الخطيرة والحسّاسة، في حين كان الصحفي الخبير عملة نادرا ما نجدها، أو ربّما يجوز وصفها باللقاح الإعلامي النادر في زمن كورونا.
صحافة الجودة
تعدّ مقولة "كثرة الأخبار تقتل الأخبار" من المقولات الشائعة في المجال الإعلامي والاتصالي. ومن هذا المنطلق وفي الحالة التونسية، فقد كان ملحوظا أنّ التعويل فقط على الصحفي الشامل سواء في التغطيات الميدانية أو في إدارة البرامج الحوارية يمكن اعتباره من الأسباب التي أفضت إلى حصول قصور على مستوى التعاطي الإعلامي مع هذه الجائحة.
فطرح موضوع فيروس كورونا من زاوية الإخبار فقط، قد يزيد من حيرة الجمهور الذي كان ينتظر من الإعلام أكثر من ذلك بكثير. كما أنّ المقاربة التفسيرية والتحليلية لموضوع تقنيّ صرف تتطلب كفاءات صحفية مختصة قادرة على إنتاج مضامين عميقة ذات جودة عالية، ومحاورة الأطباء والباحثين في مجال الصحة، ولا سيما في اختصاصات علميّة دقيقة مثل الأمراض المستجدّة والجرثومية، من أجل إنارة الرأي العام ورفع كل الالتباسات التي من شأنها التأثير بشكل عكسي وغير محمود.
إنّ الكفاءة الصحفية التي نتحدث عنها هنا في هذا المضمار لا تكون فقط بالشهادات العلمية، وإنما تُبنى أيضا بمراكمة التجربة والخبرة من خلال التخصّص في ميدان ما، فهذا هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى صناعة الصحفي الخبير الذي يعوّض من يسمّون المعلقين الصحفيين/السياسيين الذين ملؤوا المشهد الإعلامي التونسي صخبا، لا سيما بعد الثورة.
قبل أزمة كورونا، عرف المشهد الإعلامي في تونس "العصر الذهبي" لفئة المحللين -لا سيما السياسيين- الذين لم يكن يخلو منهم تقريبا أيّ منبر حواريّ. كما أنّ البرامج الترفيهية التي كثيرا ما تؤسس "لنظام التفاهة"، كما يسميّه الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتاب له مثير للجدل يعدّ من أهم ما كُتب على نطاق عالمي خلال مطلع القرن 21، كانت هي الطاغية على المضامين الإعلامية المقدمة للجمهور بطريقة أفقدت الإعلام هوامش كبيرة من مسؤوليته الاجتماعية من منحى وظيفي.
بيد أنّ الوضع تغيّر في ظل هذه الجائحة العالمية التي أعادت الاعتبار إلى صحافة الاختصاص وخاصّة للصحفي الخبير الذي كان يعاني من التهميش والإقصاء. والحال أن الأطبّاء والباحثين في المجال الطبّي عوضوا من يسمّون المعلقين أو المحللين، ليصبحوا بذلك نجوم الفضاء الإعلامي، فكلّ البرامج تقريبا تسعى لاستضافتهم. لكنّ السؤال المطروح هنا هو: هل كلّ الصحفيين قادرون على طرح مثل هذه الملفات ومعالجتها بالعمق الكافي والمطلوب من الجمهور الباحث عن صحافة الجودة؟
في هذا الإطار يمكن اعتبار تجربة الصحفية بمؤسسة التلفزة التونسية عواطف الصغروني مثالا يستحقّ وقفة تأمل وتمعّن لاستخلاص الدروس الضرورية من هذه الأزمة. فعلاقة هذه الصحفيّة الخبيرة في مجال الاتصال الصحي بالإعلام الطبي، تعود إلى ما يزيد عن 20 سنة.
كانت بدايات الصحفية عواطف الصغروني في مجال الإعلام من خلال بوابة "قناة 21" (مؤسسة عمومية) الموجّهة أساسا للشباب. لكنّ تجربتها في هذا التوجه لم تعمّر طويلا، حيث انتقلت بعد 8 أشهر فقط إلى ميدان آخر وهو تقديم النشرة الجوية في قناة "تونس 7" سابقا (القناة الوطنية الأولى حاليا). غير أنّها في سنة 2000 قرّرت الدخول في مرحلة الإنتاج الخاصّ من خلال برنامج تلفزي يهتمّ بالصحة والطب، تحت عنوان "العيادة الصحية".
وقتها كانت عواطف صحفيّة يافعة لا تملك في جرابها سوى شهادة جامعية في اختصاص العلاقات الاقتصادية الدولية. تكوينها الأكاديمي البعيد نظريا عن اختصاص الإعلام عموما والطبيّ على وجه الخصوص، لم يحل دون خيارها التخصّص لخلق نهج مهنيّ وهويّة صحفيّة جعلتها تتميز عن غيرها من الصحفيين.
حافظت عواطف على امتداد 20 سنة تقريبا على برنامجها الأسبوعيّ الذي تغيّر عنوانه أكثر من مرّة، غير أنّ اختصاصها المهني لم يتغيّر. نجحت لاحقا بعد الثورة في الحصول على شهادة الماجستير في تكنولوجيات الإعلام والاتصال، علاوة على شهادة ماجستير أخرى في الاتصال السياسي. ولم تثبّط نسب المشاهدة المتدنية من عزيمتها رغم إرهاق السنين وميل الجمهور أكثر نحو البرامج الترفيهية التي ساهمت في كثير من الحالات في إفساد المشهد الإعلامي.
كان رهانها منذ البداية على الجودة وتثقيف المواطنين في المجال الصحيّ بصرف النظر عن عدد الجمهور الذي يتابع برنامجها الأسبوعي. ومن المؤكد أنّه كان للإعلام العمومي دور كبير في استمرارية هذا البرنامج الطبيّ الذي كان من شبه المستحيل أن تراهن عليه قناة خاصة لنحو 20 سنة دون مردودية مالية نتيجة للإكراهات التجارية وقضية المردودية المالية من الإشهار.
لقد راهنت عواطف الصغروني على "رأسمال رمزي" لا يقدر بأيّ ثمن، مقارنة بمختلف الإعلانات التجارية، وذلك إذا ما استعرنا العبارة الرشيقة لعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو صاحب كتاب "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول". وقد كسبت الرهان بعد تجربة 20 سنة اجتهدت فيها بكل ما تقدر وبذلت جهد الطاقة لتنير عقول التونسيين حول كلّ ما يهمّ صحتهم، حيث جنت من خلال أزمة كورونا اعترافا جماهيريا واسعا بقيمة ما تقدمه من مضامين إعلامية تقوم على مقاربة عمادها الصحفي الخبير المتسلح بخبرة الاختصاص على امتداد سنين طوال.
تميزت هذه الصحفيّة الخبيرة في المجال الصحي عن غيرها من الصحفيين ومقدمي البرامج الحوارية بأسلوب فريد في طرح الأسئلة ومعالجة المواضيع الدقيقة التي تتطلب معرفة ودراية بأبجديات المسائل الطبيّة. كانت تحاور الأطباء والباحثين في هذا المجال الندّ للندّ بطريقة تنحو أكثر نحو التفسير للجمهور والإنارة لا الإثارة.
وقد حظيتْ بتفاعل كبير من قبل الجمهور لاسيما على منصات التواصل الاجتماعي، حيث كانت هناك إشادة بتميّزها شكلا ومضمونا من خلال النشرة اليومية التي تقدمها على شاشة القناة الوطنية الأولى كلّ مساء بخصوص مستجدات انتشار فيروس كورونا في تونس والعالم، وساهم ذلك -ولو جزئيا- في تحقيق بوادر مصالحة بين المرفق الإعلامي العمومي والجمهور الذي هاجر منذ سنوات نحو القنوات التلفزية الخاصّة، إذ تشير أحدث تقارير مؤسسة "سيغما كونساي" لاستطلاعات الرأي أنّ القناة الوطنية الأولى حلّت خلال مطلع أبريل/نيسان 2020 في المرتبة الأولى على مستوى الجمهور بنسبة مشاهدة ناهزت 36.8% ضمن مشهد إعلامي تعددي يضم في تونس 11 قناة تلفزية.
كانت أزمة كورونا بمثابة الولادة الجديدة للصحفية عواطف الصغروني التي أثبتت من خلال هذه التجربة الفريدة أنّها تكاد تكون بمثابة اللقاح الإعلامي النادر في زمن كورونا. تجربة حيّة أعادت للنقاش حول هذه الجدلية ألقه في قطاع الإعلام بتونس بعدما أعلن البعض نهاية عهد الصحفي الخبير الذي لم يعد قادرا -حسب رأيهم- على افتكاك مكان تحت أشعة الشمس في ظلّ التحولات الدراماتيكية التي تعرفها المهنة على صعيد عالمي، وليس محليا فحسب.
بيّنت أزمة كورونا جسامة ثقل المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتق الصحفي الخبير الذي تحتاجه مهنة الصحافة، كما تحتاج إلى الصحفي الشامل. فالعلاقة بينهما يمكن أن تكون قائمة على التكامل، لتصبّ في خانة مصلحة الجمهور الذي ينادي بصحافة الجودة.
ولا نبالغ إذا قلنا إن الصحفي الخبير هو حجر الزاوية في معادلة بناء منظومة إعلامية تقوم على مفهوم صحافة الجودة. هذا الهدف المنشود النابع من طلب اجتماعي ملحّ، يقتضي لزاما وضع سياسات وإستراتيجيات في مجال التكوين الأكاديمي الصحفي، علاوة على مؤسسات التدريب. ويمكن اعتبار صحافة الاختصاص من هذا المنطلق النواة الصلبة في عملية الارتقاء بالمشهد الإعلامي التونسي لمواجهة تحديات الانتقال الديمقراطي ومخاطر عصر "ما بعد الحقيقة" الذي تلعب فيه وسائل التواصل الاجتماعي دورا مثيرا للجدل بشأن مسألة صناعة الرأي العام والوعي الوطني.
هذه التجربة تثبت الأهمية القصوى والوازنة للصحفي الخبير، ليس فقط في المجال الصحي، وإنما أيضا في بقية التخصصات كالاقتصاد والبيئة وشؤون الهجرة وحقوق الإنسان والإرهاب والعلاقات الدولية وغيرها من المجالات، ليس في تونس فقط بل في العالم ككلّ، حتى تكون الصناعة الإعلامية ذات جودة عالية على مستوى المضامين الصحفيّة المقدّمة للجمهور. وفي هذا السياق بالذات، حتما سيكون الصحفي الخبير في الخطّ الأول للدفاع عن أخلاقيات المهنة عبر آلية التعديل الذاتي الضمني.