الصحفي الخبير.. لقاح نادر في زمن كورونا

الصحفي الخبير.. لقاح نادر في زمن كورونا

قبل أزمة انتشار فيروس كورونا في العالم، كان هناك اعتقاد راسخ لدى قطاعات واسعة من أهل مهنة الصحافة وحتّى من الأكاديميين المختصين في هذا الحقل المعرفي بأنّ زمن الصحفي الخبير، أي المتخصص في مجال دقيق بعينه، انتهى بعدما أفل نجمه وأضحى خارج سياق التحولات التاريخية التي تعيش على وقعها المؤسسات الإعلامية بفعل الثورة التكنولوجية وإكراهات السوق وسطوة الميديا الجديدة. 

لقد كان هؤلاء يبشّرون بأنّ عصرنا اليوم عصر الصحفي الشامل الذي يقوم بكلّ شيء ويكتب في كل المجالات ويناقش جميع القضايا بلا استثناء، بقطع النظر عن الجنس الصحفي المعتمد.

غير أنّ السياق العالمي الجديد أحدث رجّة طالت عديد المفاهيم والنظريات التي تهمّ قطاع الإعلام، وساهم في دقّ ناقوس الخطر من أجل إعادة النظر والتفكير في هذه الثنائية الجدلية، حيث أكدت الوقائع حدود مقولة خسوف دور الصحفي الخبير وتراجُع مكانته من منظور المسؤولية الاجتماعية ووظيفته في المجتمع.

 

في المسؤولية الاجتماعية للصحفي زمن الأزمات

يعدُّ مفهوم المسؤولية الاجتماعية للصحفي من النظريات الحديثة التي تمّ اجتراحها في سياق تخليق العمل الإعلامي ووضع ضوابط تُنظّم مهنة الصحافة وأدوارها المجتمعيّة. فالصحفي ليس فقط صاحب حقوق مهنية تتعلق بالمسائل المادية والظروف المعنوية وهامش الحريات المتاحة له، وإنما هو أيضا فاعل اجتماعيّ بامتياز من واجبه الالتزام بجملة من الواجبات المناطة بعهدته والتي عادة ما تتبلور في مدونة أخلاقيات المهنة ومواثيق الشرف.

من هذا المنطلق، يمكن تناول مسألة المسؤولية الاجتماعية للصحفي التي تكون مضاعفة لا سيما زمن الأزمات، حيث يكون خلالها كمن يمشي على رمال متحركة. هذه المسؤولية تنبع مشروعيتها أساسا من انتظارات الجمهور وحاجيات المجتمع الذي لا يطالب فقط بالمعلومة الدقيقة والموثوقة، وإنما يرى في وسائل الإعلام -التي يمكن اعتبار العنصر الصحفي قطب الرحى فيها- الوسيلة التي يمكن أن تنير له درب الحقيقة بالتحليل والتفسير والتحقّق والتوعية، بعيدا عن أسلوب الإثارة الممجوجة، خاصة أنّ منصّات التواصل الاجتماعي ساهمت -بشكل أو بآخر- في انتشار الإشاعات والأخبار الزائفة والمضلّلة، ربّما بنفس مقدار تفشي فيروس كورونا في الأجساد أو أكثر.

إنّ الصحفي في هذا المضمار ليس من دوره تخويف الجمهور وتهويل الأمور، كما يدعو إلى ذلك بعض المسؤولين السياسيين حتّى يلتزم المواطنون بالحجر الصحي الشامل وبقرارات الحكومات والسلطات الرسمية للدول حمايةً للمجتمع والمصلحة العامة. وليس من دوره أأيضا إشاعة مشاعر الأمل بمبرر الحاجة إلى الموجات الإيجابية، على حساب الحقيقة التي هي جوهر عمله ورسالته الإعلامية. 

كان الإعلان العالمي لأخلاقيات المهنة الصادر عن الاتحاد الدولي للصحفيين والمنقّح في المؤتمر الأخير المنعقد بتونس في يونيو/حزيران 2019، حاسما بخصوص هذه المسألة. فعلى امتداد 16 مادة، وردت واجبات الصحفيين وحقوقهم المتعلقة بأخلاقيات مهنة الصحافة بشكل واضح لا لبس فيه، حيث ينصّ في الديباجة على أنّ حقّ الناس في الحصول على المعلومات والأفكار بمثابة الركيزة الأساسية لرسالة الصحفيين المهنية، إذ إنّ مسؤولية الصحفي تجاه عموم المواطنين تتقدّم على أيّ مسؤوليات أخرى، حتّى لو ارتبط ذلك بالمسؤولية تجاه المشغلين أو إزاء السلطات العمومية. كما أنّ هذه الوثيقة العالمية المرجعية ذاتها تؤكد أنّ احترام الحقيقة وحقّ الجمهور في هذه الحقيقة، يشكلان المسؤولية الأولى للصحفي.

 

تحديات جديدة

من أهم التحديات التي فُرضت على الصحفي خلال أزمة انتشار فيروس كورونا من منظور المسؤولية الاجتماعية، بالإضافة إلى الأخطاء المهنية الكلاسيكية، خطر انزلاق هذا الفاعل الاجتماعي وتحوّله إلى مجرّد أداة اتصالية ودعائية للسلطات العمومية يتم عبرها نقل البلاغات والبيانات والرسائل السياسية، دون تدقيق وتمحيص وتفسير يشفي غليل الجمهور المتعطش إلى الحقيقة وإلى فهم ما يجري من حوله بخصوص موضوع تقني وفيروس طارئ قلب نسق حياته رأسا على عقب وبات يهدد مصير الإنسانية جمعاء.

لقد طرح هذا التحدّي إشكاليّة أعمق وأصعب، تتمثل في الحاجة إلى الصحفي الخبير الذي له من المؤهلات والكفاءة والدربة والمعرفة في الاختصاص الطبي ما يلزم لضمان معالجة صحفية مهنية ومسؤولة تخدم الصالح العام وتدور في فلك مفهوم صحافة الجودة، دون السقوط في أي مطبّ من المطبات، وكم هي كثيرة ومتشعبة في زمن مجابهة فيروس مستجدّ مثل فيروس كورونا الذي خلق مناخات أشبه بحالة الحرب.

بعيدا عن الجوانب النظرية التي يطول حولها النقاش، من المهم إلقاء نظرة فاحصة على هذه الإشكالية من منطلقات مهنية ميدانية وتجارب مقارنة. ففي حالة تونس أين يتمتّع الصحفيون بهامش كبير من الحريات، إذ يفيد أحدث تقرير لمنظمة "مراسلون بلا حدود" لسنة 2020 بأنّ هذا البلد الذي قطع خطوات عملاقة نحو الديمقراطية منذ ثورة 2011 ويعتبر الأوّل عربيا في مؤشرات حرية الإعلام بفضل الحصول على المرتبة 72 عالميا.

كشفت التجربة منذ انطلاق أزمة كورونا في مارس/آذار الماضي من السنة نفسها قصورا على مستوى التعاطي الإعلامي مع هذه الظاهرة، مردّه بالأساس إلى ندرة الصحفيين المختصين في المجال الصحي.

فقد أنجزت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري التي تُعنى بتنظيم قطاع الإذاعات والقنوات التلفزية (العمومية والخاصة) دراسة حول التغطية الإعلامية والإعلانات التوعوية المتعلقة بفيروس كورونا، حيث رصدت المضامين التي تمّ بثّها في 4 مؤسسات تلفزية تزامنا مع بداية الحجر الصحي الشامل وحظر التجول خلال الفترة الممتدة بين 16 و29 مارس/آذار 2020 من الساعة السادسة مساء إلى منتصف الليل. كما تمّ رصد مدى التزام هذه القنوات التلفزية بدورها التوعوي والمجتمعي من خلال تسليط الضوء على الحيّز الزمني الإجمالي الذي خُصّص لبث الإعلانات التوعوية طيلة 18 ساعة من البثّ بداية من الساعة السادسة صباحا وإلى حدود الساعة منتصف الليل.

وبيّنت نتائج هذه الدراسة تخصيص القنوات التلفزية حوالي 75% من البث خلال فترة الذروة لتغطية كلّ التطورات والمستجدات المتعلقة بفيروس كورونا، سواء كان ذلك في تونس أو في بقيّة دول العالم بما يعادل 15 ساعة من البثّ، مقابل تخصيصها بقيّة الحيز الزمني لطرح مواضيع أخرى ذات طابع ترفيهي ورياضي وثقافي بما يعادل زهاء 40 ساعة. كما أفادت هذه الدراسة التي تعدّ الأولى من نوعها منذ انطلاق الأزمة في تونس أنّ القنوات التلفزية التي شملتها الدراسة خصصت قرابة 21 ساعة من البثّ للإعلانات التوعوية طيلة فترة الرصد وإعادة بثها أكثر من 1115 مرّة.

ما يمكن أن نستشفّه من خلال نتائج هذه الدراسة، هو كيفية تحوّل الملفات والأخبار المذاعة في القنوات التلفزية ذات العلاقة بموضوع فيروس كورونا إلى أولوية قصوى، سواء في السياسات التحريرية أو حتى لدى الجمهور الذي هو جزء لا يتجزأ من المعادلة الإعلامية ربطا بقضيّة المسؤولية الاجتماعية. 

إنّ هذه الإحصائيات المقدّمة تبرز بشكل لا غبار عليه الطلب الاجتماعي الملحّ على المضامين الإعلامية ذات الارتباط بموضوع فيروس كورونا. وفي هذا الإطار، تزداد مسؤولية الصحفي صعوبة، فالمسألة هنا لا تتعلق فقط بالكمّ، بل تتطلب أيضا وقفة تأمل إزاء النوع والكيف، أي ما يمكن تلخيصه في مفهوم صحافة الجودة التي تتجاوز الإخبار بشكل برقي وسطحي والترفيه أيضا، لتشمل التفسير والتحليل والإنارة والتثقيف من خلال اعتماد مقاربات مهنية دقيقة ومسؤولة هدفها التوعية.

لقد كانت بدايات التعاطي الإعلامي مع أزمة فيروس كورونا مرتبكة حيث تعدّدت الأخطاء المهنية المرتكبة، لا سيما من قبل بعض القنوات التلفزية الخاصة، وهو ما دفع إلى إثارة النقاش حول موضوع المسؤولية الاجتماعية للصحفيين ولوسائل الإعلام في مثل هذه الوضعيات الحسّاسة. وعجّلت هذه الانزلاقات بتدخّل الهيئة التعديلية التي تهتمّ بالاتصال السمعي البصري حيث أوقفت برنامج "كلنا تونس" نهائيّا مباشرة بعد تمرير حلقته الأولى وإحالة ملفّه إلى هيئة مكافحة الفساد بسبب ما اعتبرتها مخالفات جسيمة مسّت قواعد المهنة وأخلاقياتها والإخلال بالمبادئ العامة للتعاطي الإعلامي زمن الأزمات.

كما أنّ النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين سارعت إلى اتخاذ موقف صادر عن لجنة أخلاقيات المهنة فيها، اعتبرت فيه أنّ ما تم بثّه على شاشة قناة "التاسعة" في سهرة يوم 27 مارس/آذار 2020 شابه العديد من الأخطاء المهنية والأخلاقية الجسيمة، لا سيما بسبب عدم الالتزام بالمعايير المهنية المعروفة من موضوعية وتوازن وعدم احترام حرمة المريض.

وقالت النقابة في بيانها إنّ "الجمهور صُدم خلال بثّ البرنامج المباشر بتلفظ الصحفية (المراسلة الميدانية) بعبارات مسيئة لكرامة شخص يخضع للحجر الصحي الإجباري في فندق بمحافظة سوسة، محمّلة أيضا المسؤولية لمنشّط البرنامج علاء الشابي (صحفي مختص في برامج تلفزيون الواقع الاجتماعي ولم يسبق له إدارة أيّ ملف متعلق بقطاع الصحة على حد علمنا)، حيث اعتبرت أنّه ضغط على الصحفيّة التي كانت موجودة في عين المكان لإلزامها بمواصلة الاستجوابات، وفي المقابل دافع الخاضعون للحجر الصحي عن حقهم في عدم تصويرهم وتمريرهم دون موافقتهم.

أبعد من ذلك، فقد وصفت لجنة أخلاقيات المهنة في النقابة مثل هذا التعاطي الإعلامي بأنّه كان أكثر ميلا نحو الإثارة عوض الإخبار ووضع المشاهدين في الإطار. كما اعتبرت أنّ الضيوف في ذلك البرنامج كانوا من غير المختصّين، بالإضافة إلى كونهم يعبّرون عن توجّه واحد وصل حدّ التجني على وزير الصحة والإطارات الطبية وشبه الطبية.

لقد بيّنت مثل هذه الحالة المتعلقة بإخلال جسيم في التعاطي الإعلامي في تونس مع أزمة فيروس كورونا، حدود المقاربة القائمة على الصحفي الشامل في التعامل مع مثل هذه القضايا الخطيرة والحسّاسة، في حين كان الصحفي الخبير عملة نادرا ما نجدها، أو ربّما يجوز وصفها باللقاح الإعلامي النادر في زمن كورونا.

 

صحافة الجودة

تعدّ مقولة "كثرة الأخبار تقتل الأخبار" من المقولات الشائعة في المجال الإعلامي والاتصالي. ومن هذا المنطلق وفي الحالة التونسية، فقد كان ملحوظا أنّ التعويل فقط على الصحفي الشامل سواء في التغطيات الميدانية أو في إدارة البرامج الحوارية يمكن اعتباره من الأسباب التي أفضت إلى حصول قصور على مستوى التعاطي الإعلامي مع هذه الجائحة. 

فطرح موضوع فيروس كورونا من زاوية الإخبار فقط، قد يزيد من حيرة الجمهور الذي كان ينتظر من الإعلام أكثر من ذلك بكثير. كما أنّ المقاربة التفسيرية والتحليلية لموضوع تقنيّ صرف تتطلب كفاءات صحفية مختصة قادرة على إنتاج مضامين عميقة ذات جودة عالية، ومحاورة الأطباء والباحثين في مجال الصحة، ولا سيما في اختصاصات علميّة دقيقة مثل الأمراض المستجدّة والجرثومية، من أجل إنارة الرأي العام ورفع كل الالتباسات التي من شأنها التأثير بشكل عكسي وغير محمود.

إنّ الكفاءة الصحفية التي نتحدث عنها هنا في هذا المضمار لا تكون فقط بالشهادات العلمية، وإنما تُبنى أيضا بمراكمة التجربة والخبرة من خلال التخصّص في ميدان ما، فهذا هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى صناعة الصحفي الخبير الذي يعوّض من يسمّون المعلقين الصحفيين/السياسيين الذين ملؤوا المشهد الإعلامي التونسي صخبا، لا سيما بعد الثورة.

قبل أزمة كورونا، عرف المشهد الإعلامي في تونس "العصر الذهبي" لفئة المحللين -لا سيما السياسيين- الذين لم يكن يخلو منهم تقريبا أيّ منبر حواريّ. كما أنّ البرامج الترفيهية التي كثيرا ما تؤسس "لنظام التفاهة"، كما يسميّه الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتاب له مثير للجدل يعدّ من أهم ما كُتب على نطاق عالمي خلال مطلع القرن 21، كانت هي الطاغية على المضامين الإعلامية المقدمة للجمهور بطريقة أفقدت الإعلام هوامش كبيرة من مسؤوليته الاجتماعية من منحى وظيفي. 

بيد أنّ الوضع تغيّر في ظل هذه الجائحة العالمية التي أعادت الاعتبار إلى صحافة الاختصاص وخاصّة للصحفي الخبير الذي كان يعاني من التهميش والإقصاء. والحال أن الأطبّاء والباحثين في المجال الطبّي عوضوا من يسمّون المعلقين أو المحللين، ليصبحوا بذلك نجوم الفضاء الإعلامي، فكلّ البرامج تقريبا تسعى لاستضافتهم. لكنّ السؤال المطروح هنا هو: هل كلّ الصحفيين قادرون على طرح مثل هذه الملفات ومعالجتها بالعمق الكافي والمطلوب من الجمهور الباحث عن صحافة الجودة؟

في هذا الإطار يمكن اعتبار تجربة الصحفية بمؤسسة التلفزة التونسية عواطف الصغروني مثالا يستحقّ وقفة تأمل وتمعّن لاستخلاص الدروس الضرورية من هذه الأزمة. فعلاقة هذه الصحفيّة الخبيرة في مجال الاتصال الصحي بالإعلام الطبي، تعود إلى ما يزيد عن 20 سنة.

كانت بدايات الصحفية عواطف الصغروني في مجال الإعلام من خلال بوابة "قناة 21" (مؤسسة عمومية) الموجّهة أساسا للشباب. لكنّ تجربتها في هذا التوجه لم تعمّر طويلا، حيث انتقلت بعد 8 أشهر فقط إلى ميدان آخر وهو تقديم النشرة الجوية في قناة "تونس 7" سابقا (القناة الوطنية الأولى حاليا). غير أنّها في سنة 2000 قرّرت الدخول في مرحلة الإنتاج الخاصّ من خلال برنامج تلفزي يهتمّ بالصحة والطب، تحت عنوان "العيادة الصحية".

وقتها كانت عواطف صحفيّة يافعة لا تملك في جرابها سوى شهادة جامعية في اختصاص العلاقات الاقتصادية الدولية. تكوينها الأكاديمي البعيد نظريا عن اختصاص الإعلام عموما والطبيّ على وجه الخصوص، لم يحل دون خيارها التخصّص لخلق نهج مهنيّ وهويّة صحفيّة جعلتها تتميز عن غيرها من الصحفيين.

حافظت عواطف على امتداد 20 سنة تقريبا على برنامجها الأسبوعيّ الذي تغيّر عنوانه أكثر من مرّة، غير أنّ اختصاصها المهني لم يتغيّر. نجحت لاحقا بعد الثورة في الحصول على شهادة الماجستير في تكنولوجيات الإعلام والاتصال، علاوة على شهادة ماجستير أخرى في الاتصال السياسي. ولم تثبّط نسب المشاهدة المتدنية من عزيمتها رغم إرهاق السنين وميل الجمهور أكثر نحو البرامج الترفيهية التي ساهمت في كثير من الحالات في إفساد المشهد الإعلامي.

كان رهانها منذ البداية على الجودة وتثقيف المواطنين في المجال الصحيّ بصرف النظر عن عدد الجمهور الذي يتابع برنامجها الأسبوعي. ومن المؤكد أنّه كان للإعلام العمومي دور كبير في استمرارية هذا البرنامج الطبيّ الذي كان من شبه المستحيل أن تراهن عليه قناة خاصة لنحو 20 سنة دون مردودية مالية نتيجة للإكراهات التجارية وقضية المردودية المالية من الإشهار.

لقد راهنت عواطف الصغروني على "رأسمال رمزي" لا يقدر بأيّ ثمن، مقارنة بمختلف الإعلانات التجارية، وذلك إذا ما استعرنا العبارة الرشيقة لعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو صاحب كتاب "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول". وقد كسبت الرهان بعد تجربة 20 سنة اجتهدت فيها بكل ما تقدر وبذلت جهد الطاقة لتنير عقول التونسيين حول كلّ ما يهمّ صحتهم، حيث جنت من خلال أزمة كورونا اعترافا جماهيريا واسعا بقيمة ما تقدمه من مضامين إعلامية تقوم على مقاربة عمادها الصحفي الخبير المتسلح بخبرة الاختصاص على امتداد سنين طوال.

تميزت هذه الصحفيّة الخبيرة في المجال الصحي عن غيرها من الصحفيين ومقدمي البرامج الحوارية بأسلوب فريد في طرح الأسئلة ومعالجة المواضيع الدقيقة التي تتطلب معرفة ودراية بأبجديات المسائل الطبيّة. كانت تحاور الأطباء والباحثين في هذا المجال الندّ للندّ بطريقة تنحو أكثر نحو التفسير للجمهور والإنارة لا الإثارة.

وقد حظيتْ بتفاعل كبير من قبل الجمهور لاسيما على منصات التواصل الاجتماعي، حيث كانت هناك إشادة بتميّزها شكلا ومضمونا من خلال النشرة اليومية التي تقدمها على شاشة القناة الوطنية الأولى كلّ مساء بخصوص مستجدات انتشار فيروس كورونا في تونس والعالم، وساهم ذلك -ولو جزئيا- في تحقيق بوادر مصالحة بين المرفق الإعلامي العمومي والجمهور الذي هاجر منذ سنوات نحو القنوات التلفزية الخاصّة، إذ تشير أحدث تقارير مؤسسة "سيغما كونساي" لاستطلاعات الرأي أنّ القناة الوطنية الأولى حلّت خلال مطلع أبريل/نيسان 2020 في المرتبة الأولى على مستوى الجمهور بنسبة مشاهدة ناهزت 36.8% ضمن مشهد إعلامي تعددي يضم في تونس 11 قناة تلفزية.

كانت أزمة كورونا بمثابة الولادة الجديدة للصحفية عواطف الصغروني التي أثبتت من خلال هذه التجربة الفريدة أنّها تكاد تكون بمثابة اللقاح الإعلامي النادر في زمن كورونا. تجربة حيّة أعادت للنقاش حول هذه الجدلية ألقه في قطاع الإعلام بتونس بعدما أعلن البعض نهاية عهد الصحفي الخبير الذي لم يعد قادرا -حسب رأيهم- على افتكاك مكان تحت أشعة الشمس في ظلّ التحولات الدراماتيكية التي تعرفها المهنة على صعيد عالمي، وليس محليا فحسب.

بيّنت أزمة كورونا جسامة ثقل المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتق الصحفي الخبير الذي تحتاجه مهنة الصحافة، كما تحتاج إلى الصحفي الشامل. فالعلاقة بينهما يمكن أن تكون قائمة على التكامل، لتصبّ في خانة مصلحة الجمهور الذي ينادي بصحافة الجودة.

ولا نبالغ إذا قلنا إن الصحفي الخبير هو حجر الزاوية في معادلة بناء منظومة إعلامية تقوم على مفهوم صحافة الجودة. هذا الهدف المنشود النابع من طلب اجتماعي ملحّ، يقتضي لزاما وضع سياسات وإستراتيجيات في مجال التكوين الأكاديمي الصحفي، علاوة على مؤسسات التدريب. ويمكن اعتبار صحافة الاختصاص من هذا المنطلق النواة الصلبة في عملية الارتقاء بالمشهد الإعلامي التونسي لمواجهة تحديات الانتقال الديمقراطي ومخاطر عصر "ما بعد الحقيقة" الذي تلعب فيه وسائل التواصل الاجتماعي دورا مثيرا للجدل بشأن مسألة صناعة الرأي العام والوعي الوطني.

هذه التجربة تثبت الأهمية القصوى والوازنة للصحفي الخبير، ليس فقط في المجال الصحي، وإنما أيضا في بقية التخصصات كالاقتصاد والبيئة وشؤون الهجرة وحقوق الإنسان والإرهاب والعلاقات الدولية وغيرها من المجالات، ليس في تونس فقط بل في العالم ككلّ، حتى تكون الصناعة الإعلامية ذات جودة عالية على مستوى المضامين الصحفيّة المقدّمة للجمهور. وفي هذا السياق بالذات، حتما سيكون الصحفي الخبير في الخطّ الأول للدفاع عن أخلاقيات المهنة عبر آلية التعديل الذاتي الضمني.

 

More Articles

Cameroonian Journalists at the Center of Fighting Illegal Fishing

While the EU’s red card to Cameroon has undeniably tarnished its image, it has paradoxically unlocked the potential of Cameroonian journalists and ignited a movement poised to reshape the future. Through this shared struggle, journalists, scientists, conservationists, storytellers, and government officials have united, paving the way for a new era of ocean advocacy.

Shuimo Trust Dohyee
Shuimo Trust Dohyee Published on: 21 Aug, 2024
The Gaza Journalist and the "Heart and Mind" Struggle

Inside the heart of a Palestinian journalist living in Gaza, there are two personas: one is a human who wants to protect his own life and that of his family, and the other is a journalist committed to safeguarding the lives of the people by holding on to the truth and staying in the field. Between these two extremes, or what journalist Maram Hamid describes as the struggle between the heart and the mind, the Palestinian journalist continues to share a narrative that the occupation intended to keep "away from the camera."

Maram
Maram Humaid Published on: 18 Aug, 2024
India and Pakistan; Journalists building Bridges for Understanding

Amid decades of tension, journalists from India and Pakistan are uniting to combat hostile narratives and highlight shared challenges. Through collaboration, they’re fostering understanding on pressing issues like climate change and healthcare, proving that empathy can transcend borders. Discover how initiatives like the Journalists' Exchange Programme are paving the way for peace journalism and a more nuanced narrative.

Safina
Safina Nabi Published on: 12 Aug, 2024
Journalists Recount the Final Moments of Ismail Al-Ghoul

Journalists remembering the slain reporter of Al Jazeera in Northern Gaza, Ismail Al Ghoul. "He insisted on continuing his coverage from the northern part of the Gaza Strip, despite the challenges and obstacles he faced. He was arrested and interrogated by the Israeli army, his brother was killed in an Israeli airstrike, and his father passed away during treatment abroad."

Mohammad Abu Don
Mohammad Abu Don Published on: 11 Aug, 2024
Analysis: Media Disinformation and UK Far-Right Riots

Analysis on the impact of media disinformation on public opinion, particularly during UK riots incited by far-right groups. A look at how sensationalist media can directly influence audience behavior, as per the Hypodermic Needle Theory, leading to normalized discrimination and violence. The need for responsible journalism is emphasized to prevent such harmful effects.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 8 Aug, 2024
Monitoring of Journalistic Malpractices in Gaza Coverage

On this page, the editorial team of the Al Jazeera Journalism Review will collect news published by media institutions about the current war on Gaza that involves disinformation, bias, or professional journalistic standards and its code of ethics.

A picture of the Al Jazeera Media Institute's logo, on a white background.
Al Jazeera Journalism Review Published on: 5 Aug, 2024
Challenges for Female Journalists in Crisis Zones of Cameroon

Testimonies of what female journalists in Cameroon are facing and how they are challenging these difficulties.

Akem
Akem Nkwain Published on: 30 Jul, 2024
Daughters of Data: African Female Journalists Using Data to Reveal Hidden Truths

A growing network of African women journalists, data scientists, and tech experts is amplifying female voices and highlighting underreported stories across the continent by producing data-driven projects and leveraging digital technologies in storytelling.

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 23 Jul, 2024
Are Podcasts the Future of African Broadcasting?

The surge of podcasts across Africa is a burgeoning trend, encompassing a wide array of themes and subjects, and swiftly expanding across various nations.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 11 Jul, 2024
Video Volunteers: How India’s Marginalised Groups Tell Their Own Stories

Video creators like Rohini Pawar and Shabnam Begum have transcended societal challenges by producing influential videos with Video Volunteers, highlighting social issues within marginalized communities. Their work exemplifies the transformative power of storytelling in fostering grassroots change and empowerment across India.

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar, Jyoti Thakur Published on: 3 Jul, 2024
Climate Journalism in Vietnam's Censored Landscape

In Vietnam, climate journalists face challenges due to censorship and restrictions on press freedom, making it difficult to report environmental issues accurately. Despite these obstacles, there are still journalists working to cover climate stories creatively and effectively, highlighting the importance of climate journalism in addressing environmental concerns.

AJR Contributor Published on: 26 Jun, 2024
Challenges of Investigating Subculture Stories in Japan as a Foreign Correspondent

Japan's vibrant subcultures and feminist activists challenge the reductive narratives often portrayed in Western media. To understand this dynamic society authentically, journalists must approach their reporting with patience, commitment, and empathy, shedding preconceptions and engaging deeply with the nuances of Japanese culture.

Johann Fleuri
Johann Fleuri Published on: 24 Jun, 2024
Covering the War on Gaza: As a Journalist, Mother, and Displaced Person

What takes precedence: feeding a hungry child or providing professional coverage of a genocidal war? Journalist Marah Al Wadiya shares her story of balancing motherhood, displacement, psychological turmoil, and the relentless struggle to find safety in an unsafe region.

Marah Al Wadiya
Marah Al Wadiya Published on: 29 May, 2024
Fighting Misinformation and Disinformation to Foster Social Governance in Africa

Experts in Africa are using various digital media tools to raise awareness and combat the increasing usage of misinformation and disinformation to manipulate social governance.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 22 May, 2024
"I Am Still Alive!": The Resilient Voices of Gaza's Journalists

The Israeli occupation has escalated from targeting journalists to intimidating and killing their families. Hisham Zaqqout, Al Jazeera's correspondent in Gaza talks about his experience covering the war and the delicate balance between family obligations and professional duty.

Hisham Zakkout Published on: 15 May, 2024
Press Freedom in Multiple EU Countries on the "Verge of Collapse" Reports Show

The European Civil Liberties Union's Media Freedom 2024 report highlights a decline in press freedom and media pluralism in several EU countries, with calls for comprehensive reforms. The report also points out biases in Western media coverage of the Israeli offensive in Gaza, including restrictions on certain terms and unbalanced reporting. It raises concerns about diminishing media pluralism, journalist prosecution and surveillance, and declining public trust in the media.

A picture of the Al Jazeera Media Institute's logo, on a white background.
Al Jazeera Journalism Review Published on: 13 May, 2024
Under Fire: The Perilous Reality for Journalists in Gaza's War Zone

Journalists lack safety equipment and legal protection, highlighting the challenges faced by journalists in Gaza. While Israel denies responsibility for targeting journalists, the lack of international intervention leaves journalists in Gaza exposed to daily danger.

Linda Shalash
Linda Shalash Published on: 9 May, 2024
Elections and Misinformation – India Case Study

Realities are hidden behind memes and political satire in the battle for truth in the digital age. Explore how misinformation is influencing political decisions and impacting first-time voters, especially in India's 2024 elections, and how journalists fact-check and address fake news, revealing the true impact of misinformation and AI-generated content.

Safina
Safina Nabi Published on: 30 Apr, 2024
Amid Increasing Pressure, Journalists in India Practice More Self-Censorship

In a country where nearly 970 million people are participating in a crucial general election, the state of journalism in India is under scrutiny. Journalists face harassment, self-censorship, and attacks, especially under the current Modi-led government. Mainstream media also practices self-censorship to avoid repercussions. The future of journalism in India appears uncertain, but hope lies in the resilience of independent media outlets.

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar, Jyoti Thakur Published on: 25 Apr, 2024
Journalism in chains in Cameroon

Investigative journalists in Cameroon sometimes use treacherous means to navigate the numerous challenges that hamper the practice of their profession: the absence of the Freedom of Information Act, the criminalisation of press offenses, and the scare of the overly-broad anti-terrorism law.

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 12 Apr, 2024
The Perils of Journalism and the Rise of Citizen Media in Southeast Asia

Southeast Asia's media landscape is grim, with low rankings for internet and press freedom across the region. While citizen journalism has risen to fill the gaps, journalists - both professional and citizen - face significant risks due to government crackdowns and the collusion between tech companies and authorities to enable censorship and surveillance.

AJR Contributor Published on: 6 Apr, 2024
Ethical Dilemmas of Photo Editing in Media: Lessons from Kate Middleton’s Photo Controversy

Photoshop—an intelligent digital tool celebrated for enhancing the visual appearance of photographs—is a double-edged sword. While it has the power to transform and refine images, it also skillfully blurs the line between reality and fiction, challenging the legitimacy of journalistic integrity and the credibility of news media.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 26 Mar, 2024
Silenced Voices: The Battle for Free Expression Amid India’s Farmer’s Protest

The Indian government's use of legal mechanisms to suppress dissenting voices and news reports raises questions about transparency and freedom of expression. The challenges faced by independent media in India indicate a broader narrative of controlling the narrative and stifling dissenting voices.

Suvrat Arora
Suvrat Arora Published on: 17 Mar, 2024
Targeting Truth: Assault on Female Journalists in Gaza

For female journalists in Palestine, celebrating international women's rights this year must take a backseat, as they continue facing the harsh realities of conflict. March 8th will carry little celebration for them, as they grapple with the severe risks of violence, mass displacement, and the vulnerability of abandonment amidst an ongoing humanitarian crisis. Their focus remains on bearing witness to human suffering and sharing stories of resilience from the frontlines, despite the personal dangers involved in their work.

Fatima Bashir
Fatima Bashir Published on: 14 Mar, 2024