رُبّما يظنّ البعض أن دور الصحافة العلمية يقتصر على نقل المعلومة العلمية من المجتمع الأكاديمي البحثي إلى العموم؛ بغية نشر المعلومات العلمية، ورفعِ نسبة وعي المجتمع وثقافته في الشؤون العلمية. ويحاول الصحفيون العلميّون الحصولَ على المعلومات أو الدراسات العلمية من الباحثين العلميّين والخبراء لنشرها في الوسائل الإعلامية، بهدف إفادة القراء وتزويدهم بالمعارف الجديدة أو البيانات المفيدة. غير أن النقاش في الصحافة العلمية يتجاوز فكرة نقل المعلومات من الباحثين العلميين إلى العموم، ليتناول أثر الصحافة العلمية على الباحثين أنفسهم من جهة وعلى المجتمع العام من جهة أخرى.
يقول الفيزيائي الفرنسي ميشال كروزون (2008-1932) في إحدى الندوات في العاصمة الباريسية في العام 2001، إنه ينشر أبحاثه العلمية للعموم، أو يتوجّه بها إلى الجمهور العادي في محاولة منه لفهم أفضل لما يقوم به، ما يعني أن الباحث، ومن خلال مشاركة أبحاثه مع المجتمع العام من خلال آليات الإعلام العلمي، ينجح بفهم أفضل ومغاير لما يقوم به في مختبره، وينعكس ذلك على عملية إنتاج المعارف العلميّة في المؤسسات البحثية والمجتمع.
علاقة تفاعلية
في هذا الإطار، يشير الباحث والبروفسور في جامعة "باريس ديديرو-أو باريس السابعة" إيغور بابو إلى "أنه لا يمكن لنا أن نفكّر اليوم بنظرية المعرفة من دون ربطها بآليات نشر هذه المعرفة في مساحة اجتماعية تؤثر فيها وسائل الإعلام. وبالتالي، لا تعتبر آليات التواصل -وخصوصا تلك المرتبطة بوسائل الإعلام- آلياتٍ تعمل على نشر المعرفة العلمية للجمهور برؤية أحادية الاتجاه فحسب، بل تشارك آلية نشر المعارف العلمية بسُبل إنتاج هذه المعارف وتكوّنها". وبالتالي، تساهم وسائل الإعلام في آلية إنتاج هذه المعلومات وتؤثر فيها، من خلال علاقة تفاعلية في الاتجاهين.
هذه العلاقة التفاعلية، يقول عنها الباحث في جامعة "مونكتون" الكندية جرفي مبارغا، الذي يعتبر أن الصحافة العلمية تهدف إلى رفع مستوى المعارف العلمية لدى المجتمع، وإلى تعزيز قدرة الأشخاص على نقد المعارف التي يتلقونها، بحيث لا يبقى المجتمع متلقيا فقط، بل مشاركا في آليات الابتكار وإنتاج المعارف وأخذ القرارات.
"يوفّر الصحفي العلمي المعطيات العلمية للجمهور، ويشارك أيضاً في تسليط الضوء على اهتمامات جديدة وعلى الأساليب والطرق العلمية، وفي إثارة النقاشات، وتبادل الأفكار، وبالتالي يصبح شريكاً في وضع العلوم في سياقها الاجتماعي والإنساني". ويضيف مبارغا إلى أن "دور الصحفي العلمي يشمل مراقبة الباحث من خلال عيون المجتمع وآذانه، أي أن الصحفي العلمي يثير تساؤلات المجتمع ويرفعها إلى العلمييّن المتخصصين، ويعمل على فحص المعطيات والتعليق عليها وتقويمها من دون أن ينحصر دوره في طرح الأسئلة التي يحبّها العلميّون فحسب، إذ يمكن للصحفيين العلميين أن يكتشفوا أمورا لا يراها العلميّون، بسبب اختلاف الرؤية والخلفية والسياق بين الصحفييّن ورجال العلم". وبالتالي يتجاوز دور الصحفي العلمي -بحسب مبارغا- نقْلَ المعلومة فحسب، ليصبح مؤثّرا في السياق الاجتماعي والإنساني للعلوم والعلميّين.
التركيز على آليات العمل
ربمّا تطغى الأخبار العلمية أو التقريرية على الصحافة العلمية، إذ يركّز الصحفيون العلميّون على نشر المعلومات والأرقام ونتائج الدراسات وغيرها. في المقابل، تفتقر الصحافة العلمية إلى التركيز على آليات عمل الباحثين في مختبراتهم أو مؤسساتهم البحثية، وعلى المراحل التي يمرّون بها أو الصعوبات التي يحاولون إيجاد الحلول لها.
لذا تعتبر الباحثة في علوم الاتصال والتواصل العلمي في "المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي" البروفيسورة سوزان دو شوفانييه أنه لا يجب فقط التركيز، في الصحافة العلمية أو في وسائل التواصل العلمي الأخرى، على المحتوى العلمي أو المعلومات العلمية فحسب، بل من الضروري تسليط الضوء على نهج عمل الباحثين والمراحل البحثية التي يمرون فيها؛ بغية إنتاج المعارف والتحقق منها. وهذا ما يعزز وعي الأشخاص في المجتمع العام بالمجهود الذي يُبذل في سبيل تطوير المعارف العلمية.
لذا، وكما أن الجائحة غيّرت الكثير من جوانب حياتنا، وأُطُر العمل والدراسة والمفاهيم في مختلف المجالات، فإنها غيّرت -أيضا- الكثير من خصائص الصحافة العلمية ودورها، وعلاقتها التفاعلية بين المجتمع والعلوم.
الصحافة العلمية العربية
أما فيما يخصّ واقع الصحافة العلمية العربية، فيلحظ الأستاذ المحاضر في كلية العلوم في "جامعة الملك سعود" الدكتور عبد الله القفاري في ورقة بحثية منشورة في التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية، -الابتكار أو الاندثار، الصادر عن مؤسسة الفكر العربي-2018، وجودَ نقص في الدراسات البحثية في شأن الصحافة العلمية والإعلام العلمي في البلدان العربية، ووجود حاجة إلى التشجيع على التخصص في الصحافة العلمية وممارستها، وطغيان الطابع الخبري على الأخبار العلمية العربية من دون الغوص في التحليل والشرح.
وبعد مرور أكثر من سنتين على صدور هذا التقرير، ومع تناول معظم وسائل الإعلام العربية أخبار انتشار فيروس كورونا، ومخاطره الصحية، وفي ظل وفرة التقارير والتغطيات الإعلامية المرتبطة بالفيروس، ومع توافر اهتمام أكبر بالمسائل العلمية في الإعلام العربي، وإجراء المقابلات مع الباحثين والأطباء والخبراء، واستضافتهم في البرامج الإعلامية والأخذ برأيهم وبمشورتهم العلمية، يصبح التساؤل عن التغيّرات التي تعيشها الصحافة العلمية في البلدان العربية من خصائص ومعايير ورؤية تساؤلًا مشروعا.
تلحظ ورقة بحثية لمدير كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية الدكتور عماد بشير، في التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية.. الابتكار أو الاندثار، الصادر عن مؤسسة الفكر العربي-2018، أن أولى المجلات العلمية المتخصصة في العالم العربي، كانت مجلة "يعسوب الطب" التي أصدرها محمد علي الحكيم في القاهرة في العام 1865. ثم صدرت في بيروت في العام 1870 مجلةُ "الجنان" المتخصصة في شؤون الزراعة والبستنة، ثم تلاها في العام 1876 صدور مجلة "المُقتطف" التي استمرت بالصدور المنتظم حتى العام 1952. ثم شهدت الصحافة العلمية العربية، في العام 1954، مرحلة جديدة مع رائدها الصحفي العلمي صلاح جلال في جريدة "الأخبار المصرية" ولاحقا في جريدة "الأهرام" اللتين كانتا من أوائل الصحف العربية التي أفردت مساحاتٍ للأخبار البيئية والعلمية. وكانت أولُ مبادرة عربية في إصدار مجلة علمية عالمية لعموم الناس مترجمة إلى اللغة العربية كانت مع إطلاق مؤسسة "الكويت للتقدم العلمي" مجلة العلوم في العام 1986 بالتعاون مع مجلة "ساينتفك أميركان".
انطلاقاً مما سبق، يمكن لنا أن نتساءل: هل يؤسس الإعلام العلمي اليوم في البلدان العربية، لعقد جديد بين العلوم والمجتمع، خصوصا أن العلوم، في مختلف البلدان العربية، كانت أسيرة الجامعات والمؤسسات البحثية، والزي الأبيض؟
المراجع:
- Babou, Igor : Science, télévision et rationalité - Analyse du discours télévisuel à propos du cerveau - Thèse de doctorat en Sciences de la Communication sous la co-direction de Carmen Compte et Suzanne de Cheveigné, Paris, Université Paris 7, 1999.
-Mbarga, G : A quoi sert le journalisme scientifique ? Revue de l’université de Moncton, 40 (2), 161-180,2009
- Jeanneret, Yves. Écrire la science. Paris: PUF, 1994
-Suzanne de Cheveigné, La science médiatisée, les contradictions des scientifiques ; Science et média ;1997
-Edgar Morin : « nous devons vivre avec l’incertitude », CNRS Le journal, 2020
-الإعلام العلمي ودوره في بناء الثقافة العربية. د. عبدالله القفاري-التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية2018
-الإعلام العلمي العربي الرقمي-د. عماد بشير-التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية-2018