لوسائل الإعلام دور بالغ الأهمية في تشكيل رأي العامة ومَن هم في السلطة بشأن مختلف القضايا والأحداث بمستوياتها كافة على الصعيدين المحلي والعالمي. ومِن المعلوم أن وجود وسائل إعلام معنيّة بالاستقلالية والموضوعية أمرٌ لا غنى عنه من أجل نقل المعلومات الضرورية للعامة عبر عملية محددة وملائمة لنشر الأخبار واختيار الملائم والأكثر أهمية منها.
هذه العملية الأخيرة، المعروفة في علم الاتصال باسم "حراسة البوابة" أو (Gatekeeping)، تؤثر على العامة في المقام الأول، وقد يختلف تعريفها باختلاف طبيعة العملية المتبعة في "حراسة البوابة" (1) .
وعليه، فإن الإطار الذي تقع ضمنه عملية وضع الأجندة عنصر ضروري يساعد على تحقيق الوسيلة الإعلامية للآثار المقصودة، أو التعرّف على الآثار المباشرة للإعلام. وفي هذا السياق، يمكن أن يتسع النقاش ليشمل الكيفية المتبعة في وضع الأجندة. فهل هذه الوسيلة الإعلامية مثلًا تتمتع بالاستقلالية في وضع أجندتها الخاصة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب تعريف وجه العلاقة بين وسائل الإعلام والأطراف الأساسية في دائرة التفاعل معها، وهذا يشمل الرأي العام، و"السلطة" أو صناع القرار. فإن كانت وسيلة الإعلام مستقلة ولها القدرة على إثارة ردود فعل من العامة في حال تغطيتها لواقعة حساسة، أو نقلها لخبر لافت للاهتمام، فإنها ستكون -بالمحصلة- قادرةً على توسيع رقعة تأثيرها لتوليد ردود فعل من طرف صناع القرار. إن لوسائل الإعلام القدرةَ على خلق هذه الديناميكية، وهو كثيرًا ما يحصل في حال كان الخبر ذا طبيعة إنسانية، تؤدي تغطيته إلى ما بات يعرف باسم "أثر السي أن أن" (2).
تسعى هذه الورقة إلى الحديث عن هذه الظاهرة، واستكشاف معناها ومدى أهميتها، وهو حديث سيقودنا بالضرورة -نظرًا لطبيعة المفهوم والقضايا التي تحيط به- إلى مناقشة الافتراض المركزي حول استقلالية وسائل الإعلام وما إذا كانت التغطية الإخبارية تحرّكها الأحداثُ بالفعل.
يُحيل مصطلح "أثر السي أن أن" إلى مفهوم يرسم العلاقة بين وسائل الإعلام وصناع القرار. ولغرض التوصل إلى فهمٍ أفضل لهذا المفهوم، فإننا سنتناول في هذه الورقة مستويين من التعريفات. في المستوى الأول نعرّج على عدد من الأحداث التاريخية التي كان لها دور مهم في بروز المفهوم نفسه، والذي تعود جذوره إلى بداية التسعينيات، إبان التدخل العسكري الأمريكي في العراق (1991)، والذي تبعه تدخل عسكري آخر في الصومال (1992)، والبوسنة (1995)، وهي تحركات أتت في نظر بعض المراقبين نتيجة للتغطية الإعلامية المباشرة والمتواصلة لأشكال المعاناة والنزوح هربًا من قوات صدام حسين، أو لصور المجاعة والتشرد في الصومال، وفظائع الحرب الأهلية الدموية في البوسنة. تلك التدخّلات بحسب روبنسون (3)، فُسّرت على أنها استجابة من صناع القرار لتغطية وسائل الإعلام لوقائع ذات طبيعة إنسانية. فمن خلال التركيز على الصور الفظيعة الناجمة عن تلك الأزمات وتقديم التغطية المباشرة بلا انقطاع حول تطوراتها على الميدان، تمكنت وسائل الإعلام من استثارة الرأي العام، وهو ما لحقه استجابة من دوائر صنع القرار أدت إلى تدخل عسكري .
تفترض هذه الملاحظة بشكل أساسي أن أثر وسائل الإعلام قد انعكس على أداء السياسة الخارجية، وهو ما يمكن اعتباره مثالًا على مدى قوة "السلطة الرابعة" وقدرتها على التأثير في رسم أجندة صناع القرار. في هذا السياق، يثير كينان (4) بعض الأسئلة ويجادل بأن التغطية الإعلامية المصوِّرة لتلك المآسي البشرية (في الصومال مثلًا) استحوذت على القنوات التي يتم عبرها تخطيط السياسة الخارجية وتنفيذها. ولذا فإنه من الوارد أن تكون سياسة التدخل قائمة على أسس خاطئة، أو أنها ردود أفعال على مستوى السياسة الخارجية نتيجة ضغوط من وسائل الإعلام على السياسيين (5).
وأيًّا كانت طبيعة ما ينجم عن أثر وسائل الإعلام على مستوى السياسة الخارجية، فإن ثمّة درسَين أساسيين يمكن استخلاصُهما هنا. الأول هو أن النقاش قد ينسحب على دور وسائل الإعلام وتأثيرها على صناع القرار، ليس على صعيد السياسة الخارجية فحسب، بل على صعيد السياسات المحلية أيضًا. والثاني أن ذلك يثير سؤال استقلالية وسائل الإعلام وعلاقتها مع "السلطة" أو صناع القرار. إنّ "أثر السي أن أن"، ينطلق، مبدئيًا على الأقل، من تأكيد على أمرين اثنين، الأول: هو أن وسائل الإعلام مستقلة وتتمتع بالقدرة على وضع أجنداتها الخاصة، والثاني: هو افتراض القدرة على استثارة استجابات من طرف صناع القرار.
يقوم مفهوم "أثر السي أن أن" على افتراض أن وسائل الإعلام مستقلة. وفقًا لبينيت وآخرين (6)، وبينيت ولورنس (7)، وما كُتب من دراسات سابقة حول ذلك، فإن الصور الحيّة ونقل الأحداث الصادمة والإنسانية بالصور والفيديو قد يؤدي إلى زيادة الميل نحو الاستقلالية لدى وسائل الإعلام ومستوى نقدها للرواية الرسمية للأخبار. إن العوامل الأساسية التي تمنح وسائل الإعلام هذه الاستقلالية هو مدى فظاعة الأحداث نفسها (8)، حيث تصبح وسائل الإعلام مؤسسات أكثرَ قدرةً على المبادرة ووضع أجنداتها الخاصة. فحوادث إطلاق النار العشوائي، مثلما حصل في حادثة إطلاق النار في ثانوية كولمبيا عام 1999 كانت بحاجة إلى تفسير، وهو ما خلق فرصة أمام وسائل الإعلام لِلَفْت انتباه صناع القرار إلى سردية متسقة مع خط وسائل الإعلام وأجندتها فيما يتعلق بأسباب تلك الفاجعة، والتي تشمل المشكلات الاجتماعية، ومسألة ضبط حيازة السلاح، وثقافة العنف السائدة.
إن استقلالية وسائل الإعلام، كما أوضحنا آنفًا، قد تتيح الاستفادة من صور المآسي والجانب الإنساني في بعض الأحداث التي يتم تغطيتها من أجل إثارة استجابة من قِبَل صناع القرار، أما القناة التي تحصل عبرَها هذه الاستجابة فهي الرأي العام، حسبما يوضح روبنسون (2005)، وستروبل (1996، و1997) (9).
من الناحية النظرية، فإن اهتمام العامة بالأحداث يتولد عند تغطيتها إعلاميًّا بشكل متواصل ومباشر، بعرض صور ومقاطع عن فظائع حرب أو مجزرة وتسليط الضوء على السياق الإنساني لأي أجندة، بحسب ما تقترح وسائل الإعلام.
وفي حال تفاعل العامّة، فإن الشارع سيزيد الضغط على السياسيين الذين قد يكون لديهم ميل نحو التدخل، سواء كان الشأن محليًّا أم خارجيًّا، ما دام ذلك التدخل مدعومًا من الرأي العام.
وعليه فإن "أثر السي أن أن" يعتمد على تشكيل تصوّر الرأي العام، وهو ما يتبعه تأثير على أجندة صناع القرار. وبناء على ما سبق، فإنه يمكن تعريف "أثر السي أن أن"، في السياق الإنساني والليبرالي، بأنه أجندة وسائل الإعلام المستقلة التي تشجع النقاش بين العامة وترفع وعيهم؛ بهدف خلْق استجابة على مستوى السياسات الرسمية، حيالَ القضية التي تعمل على تغطيتها.
ورغم أن العامل الرئيسي الذي يبدو محوريًّا فيما يخص "أثر السي أن أن" هو السياق الإنساني للأحداث، إلا أنه ثمة عوامل مساهمة أخرى تطرّق إليها الباحثون في هذا المجال. فالتطورات التقنية في حقل الإعلام والبث والمرتبطة بالاعتماد على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة المحمولة قد جعلت نقل آخر الأخبار والعواجل بشكل مباشر ومتواصل أمرًا ممكنًا من أية بقعة في العالم (10). فالأجهزة الذكية المحمولة والمنصات الإعلامية الرقمية أتاحت لمراسلي الأخبار حرية الحركة والتنقل بعيدًا عن قيود الأسلاك، كما سهّلت وصولهم إلى مناطق النزاعات (ودون أن يلاحظهم أحد في بعض الأحيان). وعلى الصعيد الدولي والسياسات الخارجية، فإن نهاية الحرب الباردة ساهمت، بشكل مهم، في صعود "أثر السي أن أن" ليكون محركًا للسياسة الخارجية، على الرغم من التباين في التفسيرات. يجادل ليفنغستون (1997) على سبيل المثال بأن الولايات المتحدة كانت تفتقر إلى المسوغات المقنعة فيما يخص سياستها الخارجية، أما إينتمان (2004) (11) فيرى أن نهاية الحرب البادرة قد خلقت فرصة للمزيد من الاستقلالية الصحفية في تغطية الأحداث ونقلها.
وبناء على النقاش أعلاه، فإن "أثر السي أن أن" مهم للغاية وله فاعلية إيجابية، وجدواه تتصل، بشكل أساسي، بالجانب الإنساني لبعض الأحداث، إضافة إلى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وفي هذا السياق تُورِد المراجعُ المختلفة عددًا من التصريحات لصناع القرار حول مسألة استقلالية وسائل الإعلام وتأثيرها الفاعل. فعلى سبيل المثال، يورد روبنسون (2005) أن ريتشارد هولبرك، الدبلوماسي الراحل والمبعوث الأمريكي الخاص بالبلقان، أثنى على دور وسائل الإعلام في تسليط الضوء على الأزمة الحاصلة في البوسنة وكوسوفو وتحويلها إلى قضية رأي عام، ورأى أنه قد كان للتغطية الإخبارية أثر إيجابي على قرار التدخّل. ومثله السيد أنتوني ليك، المستشار الأسبق لشؤون الأمن القومي، والذي تحدث بإيجابية عن نجاح وسائل الإعلام في لفت الانتباه إلى الأزمات الإنسانية حول العالم (روبنسون). أما على مستوى السياسات، فإن السياسة الخارجية في إدارة بيل كلينتون كانت قد صيغت أيضًا للتعامل مع الأبعاد الإنسانية، وهو كذلك موقف صدر عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، والذي عبر عام 1999 عن التزامه بـ "سياسة خارجية أخلاقية".
وثمة إقرار كذلك في هذا السياق بالقوة التي تحوزها وسائل الإعلام. فرئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير مثلًا كان قد تكهّن (12) بالدور متعاظم القوة لوسائل الإعلام في المجتمع وقدرتها على التأثير في النقاشات السياسية، على الصعيد المحلي. كما تحدث توني بلير، بحسب ما ورد في كتاب روبنسون (2005)، عن أن وسائل الإعلام- وكان يقصد السي أن أن- ستكون قادرة على دفع الحكومات على التدخل خارجيًّا في حال أفسح لها المجال لذلك.
ويجادل فريدمان (2000) (13) أنه ورغم المبالغة في تقدير سلطة وسائل الإعلام، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن صناع السياسات قد باتوا على قناعة كبيرة بتأثيرها الكبير. ويرى فريدمان أنه لو لم يحصل التدخل في كوسوفو، لعمدَت وسائل الإعلام للردّ على ذلك بتغطية نقدية.
في المقابل، لا نعثر في الدراسات المتوفرة على ما يكفي من الأدلة القاطعة التي تؤكّد على "أثر السي أن أن". فوفق ليفنغستون وبينيت (2003) (14) على سبيل المثال، وعبر النظر في تغطية السي أن أن للقضايا الدولية على مدى 8 سنوات، فإن النُّخب السياسية والمسؤولين الرسميين قد ظهروا بشكل متكرر ويشاركون في الأخبار بمعدل متزايد، على الرغم من التطور الحاصل في تقنيات جمع الأخبار وما تتيحه من التوسع في المصادر. وعلى ذات النحو وجدَت إشباو-سوها (2016) (15) أن وسائل الإعلام التقليدية قد قدمت تغطية إخبارية مكثفة للشؤون الرئاسية. وثمة دراسات أخرى، مثل كولفر وساغارزازو (2005) (16) ترى شُحًّا في الأدلة التي تدعم وجود "أثر السي أن أن"، وهذا مخالف للتكهنات التي ادَّعت أن صحفيي ما بعد الحرب الباردة سيميلون إلى ممارسة قدر أكبر من الاستقلالية في نقل الأحداث.
إلّا أن الحال على خلاف ذلك، كما يظهر في ألثاوس (2003) (17) بعرض الأدلة المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية، إذ يظهر أن وسائل الإعلام الرئيسية لا تقدم تغطية نقدية للرواية الرسمية التي تعرضها الحكومة.
ثمة مراجعات نقدية لفكرة "أثر السي أن أن" على عدد من المستويات. الأولى هي النظرة إلى وسائل الإعلام باعتبارها تتولى دورًا في صناعة السياسات ووضع الأجندات، وهو ما ينجم عنه سياسات "غير مدروسة بعناية" كما يجادل كينان (1993)، وستروبل (1996، و1997). كما نجد أن تشومسكي (1999) (18)، وهاموند وهيرماند (2000) لا يتفقون مع فكرة وجود دوافع إنسانية خلف جميع التدخلات العسكرية. بل إن تشومسكي (1999) وهاموند وهيرمان (2000) يرون أن التدخلات العسكرية ليست إلا امتدادًا للقوة السياسية التقليدية التي تستغل السياق الإنساني لتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية للحكومات الغربية. مثل هذه الآراء تثير تساؤلات بخصوص مدى استقلالية وسائل الإعلام. فإن لم تكن وسائل الإعلام مستقلة، فما هي إذن طبيعة العلاقة بين السلطة أو صناع القرار ووسائل الإعلام؟
تقدم نظريات "صناعة[SAS1] القَبول" (Manufacturing Consent) تفسيرًا بديلًا حول دور وسائل الإعلام، وتُعرِّف طبيعةَ التفاعل بين وسائل الإعلام والسلطة. يحيل مصطلح "تصنيع القَبول" عمومًا على نطاق من النظريات التي تشكك في استقلالية وسائل الإعلام وتركز على دور الحكومات في تشكيل أجندة الأخبار (روبنسون 2002). وبمعناها الأوسع، فإن ما كُتب عن "تصنيع القبول" يرى أن الحكومات أو النخب السياسية (صناع السياسات) لهم القدرة على التأثير في شكل المخرجات التي تظهر على وسائل الإعلام. ويتم ذلك عبر آليات محددة تخلق ممارسات صحفية تحضر فيها "الرقابة الذاتية" وبقوّة. أما مخرجات هذه الممارسات فتؤدي إلى مقاربة كافة الأحداث بشكل متسق مع نظرة النخب السياسية والاجتماعية. وثمة عدد من النظريات التي يمكن الاعتماد عليها لتوضيح أثر وسائل الإعلام وطبيعة علاقتها مع الحكومات.
من بين التفسيرات الممكنة يبرز "نموذج البروباغاندا" الذي وضعه هيرمان وتشومسكي (1998) (19)، ويرى أن وسائل الإعلام الرئيسية المملوكة لمؤسسات خاصة تمتلك القدرة والتأثير -بواسطة الإعلام- على حماية مصالح النخب السياسية والاجتماعية. ويفترض هذا النموذج أن مؤسسات الإعلام الإخبارية تقدم المعلومات للعامة بما يتسق مع تصورات واعتبارات النخب السائدة. ووفقًا لهذا التعريف ينتفي افتراض الاستقلالية لدى وسائل الإعلام، ويظهر أنها، بخلاف فكرة "أثر السي أن أن"، ليست مؤسسات مدفوعة بالحدث نفسه. هنالك في المقابل عدد من الإشكالات في هذا النموذج، منها مثلًا أنه لا يأخذ بالاعتبار المؤسسات الإعلامية في بعض الديمقراطيات الغربية مثل المملكة المتحدة وألمانيا والدول الإسكندنافية؛ وهي مؤسسات تابعة للقطاع العام (20).
وبعيدًا عن نوع الملكية للمؤسسات الإعلامية، فإن هنالك على الدوام قيودًا تَحُول دون التغطية الإعلامية بشكل يعكس حقيقة الأحداث على نحو كامل، ويعيد إلى الواجهة سؤال استقلالية وسائل الإعلام. يحدد بورديو (2001) (21) عددًا من القيود ذات الصلة التي تقع على كل من وسائل الإعلام التابعة للقطاعين العام والخاص، ومنها العوامل السياسية والاقتصادية، والتي تخلق حالة من الرقابة وتحرم العامة من معرفة الحقيقة الكاملة. وعليه فإن الأجندة التي تضعها وسيلة الإعلام ليست مستقلة، وهي لا محالة مرتبطة بشكل أو بآخر بتأثيرات السلطة أو النخب التي لها القدرة على التلاعب بهذه القيود. فمن الوارد مثلًا أن ترتبط هذه القيود بالحاجات التمويلية للمؤسسة الإعلامية، وهو ما يثير حالة من المنافسة بين المؤسسات الإعلامية على حصتها في السوق وعلى الإعلانات والرعايات الإعلامية. أما في وسائل الإعلام المملوكة للقطاع العام، فقد يكون للحكومة السيطرة الكافية عبر المخصصات المالية للمؤسسات التابعة لها، ولها القدرة عبر ذلك على توجيه أجندة الأخبار فيها (بورديو 2001). في هذا السياق، يرى روبنسون (2002) وجود نسخة "تنفيذية" من صناعة القبول يكون فيها مسؤولون في الحكومة أعضاء في المجالس التنفيذية للمؤسسات الإعلامية. هذه النسخة تعبر عن المدى الذي يمكن أن يتطابق به محتوى الأخبار مع الخط الرسمي الذي تحدده الحكومات.
ثمّة نسخة أخرى على الطرف المقابل، وهي النسخة "النخبوية"، والتي تشير إلى مدى اتساق التغطية الإخبارية مع آراء وتصورات النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون أن تكون هنالك حاجة لتولي أفراد هذه النخب أي مناصب اجتماعية أو سياسية (روبنسون 2002).
وغير بعيدٍ عن افتراض الاستقلالية ضمن مفهوم "أثر السي أن أن"، ينحو بينيت (1991) (22)، وبينيت وآخرون (2006) منحى مختلفًا قليلًا عن المقاربات الماضية. فيقدّم بينيت (1991) الفرضية التوجيهية (Indexing hypothesis)، والتي ترى أن الأخبار المرتبطة بحدثٍ ما تتحول من التمحور حول الحدث نفسه إلى التأثر بقيود المعايير الصحفية التي تشتمل على العمل ضمن أطر توجيه القصّة الصحفية بما يتسق مع وجهات النظر والرواية التي تحظى بالإجماع عليها لدى السلطة والنخبة. وبعبارة أخرى، فإن هذه الفرضية ترى أن وسائل الإعلام قد تتعاطى مع حدث ما كما هو متوقع وفق مفهوم "أثر السي أن أن"، وتُظهر ميلًا نحو الاستقلالية النسبية في فرض أجندة الأخبار، إلا أنها بعد ذلك تصطدم بقيود الممارسات الصحفية التي توجه القصة والأحداث وفق وجهة نظر السلطة أو النخبة. هذه النظرية وفق ما يرى بينيت (2006) تتيح ملاحظة كلا العنصرين ومدى تأثيرهما في التغطية الإخبارية، أي التمحور حول الحدث وتوجيه الحدث. لتوضيح ذلك يستخدم بينيت (2006) مثال فضيحة "أبو غريب"، حيث ظهر نموذج التغطية التي يحرّكها الحدث بسبب التسريبات التي اشتملت على نشر صور ووثائق لم تستطع الحكومة السيطرة عليها. ثم سرعان ما ظهر نموذج التوجيه، وقد بدأ ذلك وفق بينيت وآخرون (2006) حين انخرط مسؤولون وشخصيات في الكونغرس بالمسألة وأدلوا بتصريحات، وعقدوا جلسات استماع رسمية ونشروا وثائق تشجب التعذيب وتستنكر التسريبات المرتبطة بالفضيحة. لكن المسؤولين، في إدارة بوش حينها، وضعوا إطارًا عامًا بوسعه "احتواء" كافة الروايات ويتجاوز كافة الأدلة المتوفرة (Bennett et al, 2006). إضافة إلى ذلك، فإن الأمر حين يتعلق بفضائح المسؤولين، فإن وسائل الإعلام الأمريكية لا تخضع لنسق معيّن وتكون انتقائية في تغطيتها، ما يحول في معظم الحالات دون مساءلة الحكومة (23).
وأخيرًا، فإن هذه المقالة قد سعت بشكل أساسي إلى توضيح مفهوم "أثر السي أن أن" وبيان أهميته، وهو مفهوم بدأ بشكل عملي بعد نهاية الحرب الباردة وفي الفترة التي تعزَّزَ فيها حضور التقنيات الحديثة في مجال البث التلفزي. وعلى الرغم من الجدل الدائر حول الحرب الباردة وأهميتها في هذا السياق، إلا أنها أسهمت في نشأة مفهوم وممارسة صحفية ذات انعكاسات واضحة على صعيد صناعة السياسات. وعلى ضوء النقاش أعلاه يمكن الجدال -نظريًا- بأن "أثر السي أن أن" مفهوم ذو صلة وتأثير في وضع الأجندة لغايات تتعلق بصنع السياسات، إلا أن ثمّة أدلة نظرية وعملية أخرى لا تؤيّد "أثر السي أن أن". وثمة مقاربات أخرى ذات صلة بنظرية التوجيه، والتي تلحظ جانب التغطية التي يحركها الحدث من جهة، وجانب "صناعة القبول" والذي يتعارض بشكل جوهري مع فكرة استقلالية المؤسسات الإعلامية عن تأثير النخب المختلفة في وضع أجندة الأخبار وتوجيهها.
المراجع:
-
Shoemaker, P. J., and Vos, T. P. (2009).Gatekeeping Theory. New York: Routledge.
-
Robinson, P: (1999). The CNN effect: Can the news media drive foreign policy?. Review of International Studies, 25: 301-309.
-
Robinson, P. (2005). The CNN effect: The myth of news, foreign policy and intervention. London: Routledge.
-
Kennan, G: F: (1993). Somalia, through a glass darkly. The New York Times [Online] Available at: http://www.nytimes.com/1993/09/30/opinion/somalia-through-a-glassdarkly
-
Hoge, J. F. (1994). Media Pervasiveness. Foreign Affairs, 73: 136-144.
-
Bennett, W. L., and Lawrence R. G. (1995). News icons and the mainstreaming of social change. Journal of Communication, 45: 20–39.
-
Bennett, W. L., Lawrence. R. G., and Livingston. S. (2006). None dare call it torture: Indexing and limits of press independence in the Abu Ghraib scandal. Journal of Comminication, 56: 467-485.
-
Strobel, W. P. (1997). Late-Breaking foreign policy: The news media’s influence on peace operations. Washington, D. C: United States Institute of Peace Press.
-
Strobel, W. P. (1996). The CNN effect. American Journalism Review Available at: [Online] http://ajrarchive.org/article.asp?id=3572 [21/07/2016]
-
Livingston, S. (1997): Clarifying the CNN effect: An examination of media effects eccording to type of military intervention. John F. Kennedy School of Government's Joan Shorenstein Center on the Press, Politics and Public Policy at Harvard University.
-
Entman, R. M. (2004). Projections of power: Framing news, public opinion and U.S. foreign policy. Chicago: University of Chicago Press.
-
The Leveson Report. (2012). Recommendations for media plurality. [Online] http://www.mediareform.org.uk/wp-content/uploads/2015/11/Media_Reform_Coalition-The_Leveson_Report-Recommendations_for_Media_Plurality.pdf [21/07/2016]
-
Freedman, L. (2000). Victims and victors: Reflections on the Kosovo War. Review of International Studies, 26: 335–58.
-
Livingston, S., and Bennett, W. L. (2003). Gatekeeping, indexing, and live event news: Is technology altering the construction of news? Political Communication, 20: 363–380.
-
Eshbaugh-Soha, M. (2016). Presidential agenda-setting of traditional and non-traditional news media. Political Communication, 33: 1-20
-
Kulver, H., and Sagarzazu, I. (2005). Setting the agenda or responding to voters? Political parties, voters and issue attention. West European Politics, 20:380-398.
-
Althaus, S. L. (2003). When news norms collide, follow the lead: New evidence for press independence. Political Communication, 20: 381–414.
-
Chomsky, N. (1999) The New Military Humanism: Lessons from Kosovo, Monroe ME: Common Courage Press.
-
Herman, E. and Chomsky, N. (1988). Manufacturing consent: The political economy of mass media. Pantheon Books: New York.
-
Sparks, C. (2007). Extending and refining the propaganda model. Westminster Papers in Communication and Culture, 4: 68-84.
-
Bourdieu, P. (2001). Television. European Review, 9: 245-256.
-
Bennett, W. L. (1991). Toward a theory of press-state relations. Journal of
-
Entman, R. M. (2012). Scandal and silence: Media responses to presidential misconducts. Cambridge: Polity Press.