أثر الـ "سي أن أن".. عن المفهوم وأبعاده في عالم الصحافة اليوم

لوسائل الإعلام دور بالغ الأهمية في تشكيل رأي العامة ومَن هم في السلطة بشأن مختلف القضايا والأحداث بمستوياتها كافة على الصعيدين المحلي والعالمي. ومِن المعلوم أن وجود وسائل إعلام معنيّة بالاستقلالية والموضوعية أمرٌ لا غنى عنه من أجل نقل المعلومات الضرورية للعامة عبر عملية محددة وملائمة لنشر الأخبار واختيار الملائم والأكثر أهمية منها.

هذه العملية الأخيرة، المعروفة في علم الاتصال باسم "حراسة البوابة" أو (Gatekeeping)، تؤثر على العامة في المقام الأول، وقد يختلف تعريفها باختلاف طبيعة العملية المتبعة في "حراسة البوابة" (1) .

وعليه، فإن الإطار الذي تقع ضمنه عملية وضع الأجندة عنصر ضروري يساعد على تحقيق الوسيلة الإعلامية للآثار المقصودة، أو التعرّف على الآثار المباشرة للإعلام. وفي هذا السياق، يمكن أن يتسع النقاش ليشمل الكيفية المتبعة في وضع الأجندة. فهل هذه الوسيلة الإعلامية مثلًا تتمتع بالاستقلالية في وضع أجندتها الخاصة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب تعريف وجه العلاقة بين وسائل الإعلام والأطراف الأساسية في دائرة التفاعل معها، وهذا يشمل الرأي العام، و"السلطة" أو صناع القرار. فإن كانت وسيلة الإعلام مستقلة ولها القدرة على إثارة ردود فعل من العامة في حال تغطيتها لواقعة حساسة، أو نقلها لخبر لافت للاهتمام، فإنها ستكون -بالمحصلة- قادرةً على توسيع رقعة تأثيرها لتوليد ردود فعل من طرف صناع القرار. إن لوسائل الإعلام القدرةَ على خلق هذه الديناميكية، وهو كثيرًا ما يحصل في حال كان الخبر ذا طبيعة إنسانية، تؤدي تغطيته إلى ما بات يعرف باسم "أثر السي أن أن" (2).

 تسعى هذه الورقة إلى الحديث عن هذه الظاهرة، واستكشاف معناها ومدى أهميتها، وهو حديث سيقودنا بالضرورة -نظرًا لطبيعة المفهوم والقضايا التي تحيط به- إلى مناقشة الافتراض المركزي حول استقلالية وسائل الإعلام وما إذا كانت التغطية الإخبارية تحرّكها الأحداثُ بالفعل.

يُحيل مصطلح "أثر السي أن أن" إلى مفهوم يرسم العلاقة بين وسائل الإعلام وصناع القرار. ولغرض التوصل إلى فهمٍ أفضل لهذا المفهوم، فإننا سنتناول في هذه الورقة مستويين من التعريفات. في المستوى الأول نعرّج على عدد من الأحداث التاريخية التي كان لها دور مهم في بروز المفهوم نفسه، والذي تعود جذوره إلى بداية التسعينيات، إبان التدخل العسكري الأمريكي في العراق (1991)، والذي تبعه تدخل عسكري آخر في الصومال (1992)، والبوسنة (1995)، وهي تحركات أتت في نظر بعض المراقبين نتيجة للتغطية الإعلامية المباشرة والمتواصلة لأشكال المعاناة والنزوح هربًا من قوات صدام حسين، أو لصور المجاعة والتشرد في الصومال، وفظائع الحرب الأهلية الدموية في البوسنة. تلك التدخّلات بحسب روبنسون (3)، فُسّرت على أنها استجابة من صناع القرار لتغطية وسائل الإعلام لوقائع ذات طبيعة إنسانية. فمن خلال التركيز على الصور الفظيعة الناجمة عن تلك الأزمات وتقديم التغطية المباشرة بلا انقطاع حول تطوراتها على الميدان، تمكنت وسائل الإعلام من استثارة الرأي العام، وهو ما لحقه استجابة من دوائر صنع القرار أدت إلى تدخل عسكري .

تفترض هذه الملاحظة بشكل أساسي أن أثر وسائل الإعلام قد انعكس على أداء السياسة الخارجية، وهو ما يمكن اعتباره مثالًا على مدى قوة "السلطة الرابعة" وقدرتها على التأثير في رسم أجندة صناع القرار. في هذا السياق، يثير كينان (4) بعض الأسئلة ويجادل بأن التغطية الإعلامية المصوِّرة لتلك المآسي البشرية (في الصومال مثلًا) استحوذت على القنوات التي يتم عبرها تخطيط السياسة الخارجية وتنفيذها. ولذا فإنه من الوارد أن تكون سياسة التدخل قائمة على أسس خاطئة، أو أنها ردود أفعال على مستوى السياسة الخارجية نتيجة ضغوط من وسائل الإعلام على السياسيين (5).

وأيًّا كانت طبيعة ما ينجم عن أثر وسائل الإعلام على مستوى السياسة الخارجية، فإن ثمّة درسَين أساسيين يمكن استخلاصُهما هنا. الأول هو أن النقاش قد ينسحب على دور وسائل الإعلام وتأثيرها على صناع القرار، ليس على صعيد السياسة الخارجية فحسب، بل على صعيد السياسات المحلية أيضًا. والثاني أن ذلك يثير سؤال استقلالية وسائل الإعلام وعلاقتها مع "السلطة" أو صناع القرار. إنّ "أثر السي أن أن"، ينطلق، مبدئيًا على الأقل، من تأكيد على أمرين اثنين، الأول: هو أن وسائل الإعلام مستقلة وتتمتع بالقدرة على وضع أجنداتها الخاصة، والثاني: هو افتراض القدرة على استثارة استجابات من طرف صناع القرار.

يقوم مفهوم "أثر السي أن أن" على افتراض أن وسائل الإعلام مستقلة. وفقًا لبينيت وآخرين (6)، وبينيت ولورنس (7)، وما كُتب من دراسات سابقة حول ذلك، فإن الصور الحيّة ونقل الأحداث الصادمة والإنسانية بالصور والفيديو قد يؤدي إلى زيادة الميل نحو الاستقلالية لدى وسائل الإعلام ومستوى نقدها للرواية الرسمية للأخبار. إن العوامل الأساسية التي تمنح وسائل الإعلام هذه الاستقلالية هو مدى فظاعة الأحداث نفسها (8)، حيث تصبح وسائل الإعلام مؤسسات أكثرَ قدرةً على المبادرة ووضع أجنداتها الخاصة. فحوادث إطلاق النار العشوائي، مثلما حصل في حادثة إطلاق النار في ثانوية كولمبيا عام 1999 كانت بحاجة إلى تفسير، وهو ما خلق فرصة أمام وسائل الإعلام لِلَفْت انتباه صناع القرار إلى سردية متسقة مع خط وسائل الإعلام وأجندتها فيما يتعلق بأسباب تلك الفاجعة، والتي تشمل المشكلات الاجتماعية، ومسألة ضبط حيازة السلاح، وثقافة العنف السائدة.

إن استقلالية وسائل الإعلام، كما أوضحنا آنفًا، قد تتيح الاستفادة من صور المآسي والجانب الإنساني في بعض الأحداث التي يتم تغطيتها من أجل إثارة استجابة من قِبَل صناع القرار، أما القناة التي تحصل عبرَها هذه الاستجابة فهي الرأي العام، حسبما يوضح روبنسون (2005)، وستروبل (1996، و1997) (9).

من الناحية النظرية، فإن اهتمام العامة بالأحداث يتولد عند تغطيتها إعلاميًّا بشكل متواصل ومباشر، بعرض صور ومقاطع عن فظائع حرب أو مجزرة وتسليط الضوء على السياق الإنساني لأي أجندة، بحسب ما تقترح وسائل الإعلام.

وفي حال تفاعل العامّة، فإن الشارع سيزيد الضغط على السياسيين الذين قد يكون لديهم ميل نحو التدخل، سواء كان الشأن محليًّا أم خارجيًّا، ما دام ذلك التدخل مدعومًا من الرأي العام.

وعليه فإن "أثر السي أن أن" يعتمد على تشكيل تصوّر الرأي العام، وهو ما يتبعه تأثير على أجندة صناع القرار. وبناء على ما سبق، فإنه يمكن تعريف "أثر السي أن أن"، في السياق الإنساني والليبرالي، بأنه أجندة وسائل الإعلام المستقلة التي تشجع النقاش بين العامة وترفع وعيهم؛ بهدف خلْق استجابة على مستوى السياسات الرسمية، حيالَ القضية التي تعمل على تغطيتها.

ورغم أن العامل الرئيسي الذي يبدو محوريًّا فيما يخص "أثر السي أن أن" هو السياق الإنساني للأحداث، إلا أنه ثمة عوامل مساهمة أخرى تطرّق إليها الباحثون في هذا المجال. فالتطورات التقنية في حقل الإعلام والبث والمرتبطة بالاعتماد على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة المحمولة قد جعلت نقل آخر الأخبار والعواجل بشكل مباشر ومتواصل أمرًا ممكنًا من أية بقعة في العالم (10). فالأجهزة الذكية المحمولة والمنصات الإعلامية الرقمية أتاحت لمراسلي الأخبار حرية الحركة والتنقل بعيدًا عن قيود الأسلاك، كما سهّلت وصولهم إلى مناطق النزاعات (ودون أن يلاحظهم أحد في بعض الأحيان). وعلى الصعيد الدولي والسياسات الخارجية، فإن نهاية الحرب الباردة ساهمت، بشكل مهم، في صعود "أثر السي أن أن" ليكون محركًا للسياسة الخارجية، على الرغم من التباين في التفسيرات. يجادل ليفنغستون (1997) على سبيل المثال بأن الولايات المتحدة كانت تفتقر إلى المسوغات المقنعة فيما يخص سياستها الخارجية، أما إينتمان (2004) (11) فيرى أن نهاية الحرب البادرة قد خلقت فرصة للمزيد من الاستقلالية الصحفية في تغطية الأحداث ونقلها.

وبناء على النقاش أعلاه، فإن "أثر السي أن أن" مهم للغاية وله فاعلية إيجابية، وجدواه تتصل، بشكل أساسي، بالجانب الإنساني لبعض الأحداث، إضافة إلى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وفي هذا السياق تُورِد المراجعُ المختلفة عددًا من التصريحات لصناع القرار حول مسألة استقلالية وسائل الإعلام وتأثيرها الفاعل. فعلى سبيل المثال، يورد روبنسون (2005) أن ريتشارد هولبرك، الدبلوماسي الراحل والمبعوث الأمريكي الخاص بالبلقان، أثنى على دور وسائل الإعلام في تسليط الضوء على الأزمة الحاصلة في البوسنة وكوسوفو وتحويلها إلى قضية رأي عام، ورأى أنه قد كان للتغطية الإخبارية أثر إيجابي على قرار التدخّل. ومثله السيد أنتوني ليك، المستشار الأسبق لشؤون الأمن القومي، والذي تحدث بإيجابية عن نجاح وسائل الإعلام في لفت الانتباه إلى الأزمات الإنسانية حول العالم (روبنسون). أما على مستوى السياسات، فإن السياسة الخارجية في إدارة بيل كلينتون كانت قد صيغت أيضًا للتعامل مع الأبعاد الإنسانية، وهو كذلك موقف صدر عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، والذي عبر عام 1999 عن التزامه بـ "سياسة خارجية أخلاقية".

وثمة إقرار كذلك في هذا السياق بالقوة التي تحوزها وسائل الإعلام. فرئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير مثلًا كان قد تكهّن (12) بالدور متعاظم القوة لوسائل الإعلام في المجتمع وقدرتها على التأثير في النقاشات السياسية، على الصعيد المحلي. كما تحدث توني بلير، بحسب ما ورد في كتاب روبنسون (2005)، عن أن وسائل الإعلام- وكان يقصد السي أن أن- ستكون قادرة على دفع الحكومات على التدخل خارجيًّا في حال أفسح لها المجال لذلك.

ويجادل فريدمان (2000) (13) أنه ورغم المبالغة في تقدير سلطة وسائل الإعلام، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن صناع السياسات قد باتوا على قناعة كبيرة بتأثيرها الكبير. ويرى فريدمان أنه لو لم يحصل التدخل في كوسوفو، لعمدَت وسائل الإعلام للردّ على ذلك بتغطية نقدية.

في المقابل، لا نعثر في الدراسات المتوفرة على ما يكفي من الأدلة القاطعة التي تؤكّد على "أثر السي أن أن". فوفق ليفنغستون وبينيت (2003) (14) على سبيل المثال، وعبر النظر في تغطية السي أن أن للقضايا الدولية على مدى 8 سنوات، فإن النُّخب السياسية والمسؤولين الرسميين قد ظهروا بشكل متكرر ويشاركون في الأخبار بمعدل متزايد، على الرغم من التطور الحاصل في تقنيات جمع الأخبار وما تتيحه من التوسع في المصادر. وعلى ذات النحو وجدَت إشباو-سوها (2016) (15) أن وسائل الإعلام التقليدية قد قدمت تغطية إخبارية مكثفة للشؤون الرئاسية. وثمة دراسات أخرى، مثل كولفر وساغارزازو (2005) (16) ترى شُحًّا في الأدلة التي تدعم وجود "أثر السي أن أن"، وهذا مخالف للتكهنات التي ادَّعت أن صحفيي ما بعد الحرب الباردة سيميلون إلى ممارسة قدر أكبر من الاستقلالية في نقل الأحداث.

إلّا أن الحال على خلاف ذلك، كما يظهر في ألثاوس (2003) (17) بعرض الأدلة المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية، إذ يظهر أن وسائل الإعلام الرئيسية لا تقدم تغطية نقدية للرواية الرسمية التي تعرضها الحكومة.

ثمة مراجعات نقدية لفكرة "أثر السي أن أن" على عدد من المستويات. الأولى هي النظرة إلى وسائل الإعلام باعتبارها تتولى دورًا في صناعة السياسات ووضع الأجندات، وهو ما ينجم عنه سياسات "غير مدروسة بعناية" كما يجادل كينان (1993)، وستروبل (1996، و1997). كما نجد أن تشومسكي (1999) (18)، وهاموند وهيرماند (2000) لا يتفقون مع فكرة وجود دوافع إنسانية خلف جميع التدخلات العسكرية. بل إن تشومسكي (1999) وهاموند وهيرمان (2000) يرون أن التدخلات العسكرية ليست إلا امتدادًا للقوة السياسية التقليدية التي تستغل السياق الإنساني لتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية للحكومات الغربية. مثل هذه الآراء تثير تساؤلات بخصوص مدى استقلالية وسائل الإعلام. فإن لم تكن وسائل الإعلام مستقلة، فما هي إذن طبيعة العلاقة بين السلطة أو صناع القرار ووسائل الإعلام؟

تقدم نظريات "صناعة[SAS1]  القَبول" (Manufacturing Consent) تفسيرًا بديلًا حول دور وسائل الإعلام، وتُعرِّف طبيعةَ التفاعل بين وسائل الإعلام والسلطة. يحيل مصطلح "تصنيع القَبول" عمومًا على نطاق من النظريات التي تشكك في استقلالية وسائل الإعلام وتركز على دور الحكومات في تشكيل أجندة الأخبار (روبنسون 2002). وبمعناها الأوسع، فإن ما كُتب عن "تصنيع القبول" يرى أن الحكومات أو النخب السياسية (صناع السياسات) لهم القدرة على التأثير في شكل المخرجات التي تظهر على وسائل الإعلام. ويتم ذلك عبر آليات محددة تخلق ممارسات صحفية تحضر فيها "الرقابة الذاتية" وبقوّة. أما مخرجات هذه الممارسات فتؤدي إلى مقاربة كافة الأحداث بشكل متسق مع نظرة النخب السياسية والاجتماعية. وثمة عدد من النظريات التي يمكن الاعتماد عليها لتوضيح أثر وسائل الإعلام وطبيعة علاقتها مع الحكومات.

من بين التفسيرات الممكنة يبرز "نموذج البروباغاندا" الذي وضعه هيرمان وتشومسكي (1998) (19)، ويرى أن وسائل الإعلام الرئيسية المملوكة لمؤسسات خاصة تمتلك القدرة والتأثير -بواسطة الإعلام- على حماية مصالح النخب السياسية والاجتماعية. ويفترض هذا النموذج أن مؤسسات الإعلام الإخبارية تقدم المعلومات للعامة بما يتسق مع تصورات واعتبارات النخب السائدة. ووفقًا لهذا التعريف ينتفي افتراض الاستقلالية لدى وسائل الإعلام، ويظهر أنها، بخلاف فكرة "أثر السي أن أن"، ليست مؤسسات مدفوعة بالحدث نفسه. هنالك في المقابل عدد من الإشكالات في هذا النموذج، منها مثلًا أنه لا يأخذ بالاعتبار المؤسسات الإعلامية في بعض الديمقراطيات الغربية مثل المملكة المتحدة وألمانيا والدول الإسكندنافية؛ وهي مؤسسات تابعة للقطاع العام (20).

 

4
"أثر سي أن أن" لا يمكن أن يؤدي وظيفته ما لم تكن الصحافة مستقلة (تصوير: نيل هول - إ ب أ).

 

وبعيدًا عن نوع الملكية للمؤسسات الإعلامية، فإن هنالك على الدوام قيودًا تَحُول دون التغطية الإعلامية بشكل يعكس حقيقة الأحداث على نحو كامل، ويعيد إلى الواجهة سؤال استقلالية وسائل الإعلام. يحدد بورديو (2001) (21) عددًا من القيود ذات الصلة التي تقع على كل من وسائل الإعلام التابعة للقطاعين العام والخاص، ومنها العوامل السياسية والاقتصادية، والتي تخلق حالة من الرقابة وتحرم العامة من معرفة الحقيقة الكاملة. وعليه فإن الأجندة التي تضعها وسيلة الإعلام ليست مستقلة، وهي لا محالة مرتبطة بشكل أو بآخر بتأثيرات السلطة أو النخب التي لها القدرة على التلاعب بهذه القيود. فمن الوارد مثلًا أن ترتبط هذه القيود بالحاجات التمويلية للمؤسسة الإعلامية، وهو ما يثير حالة من المنافسة بين المؤسسات الإعلامية على حصتها في السوق وعلى الإعلانات والرعايات الإعلامية. أما في وسائل الإعلام المملوكة للقطاع العام، فقد يكون للحكومة السيطرة الكافية عبر المخصصات المالية للمؤسسات التابعة لها، ولها القدرة عبر ذلك على توجيه أجندة الأخبار فيها (بورديو 2001). في هذا السياق، يرى روبنسون (2002) وجود نسخة "تنفيذية" من صناعة القبول يكون فيها مسؤولون في الحكومة أعضاء في المجالس التنفيذية للمؤسسات الإعلامية. هذه النسخة تعبر عن المدى الذي يمكن أن يتطابق به محتوى الأخبار مع الخط الرسمي الذي تحدده الحكومات.

ثمّة نسخة أخرى على الطرف المقابل، وهي النسخة "النخبوية"، والتي تشير إلى مدى اتساق التغطية الإخبارية مع آراء وتصورات النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون أن تكون هنالك حاجة لتولي أفراد هذه النخب أي مناصب اجتماعية أو سياسية (روبنسون 2002).

وغير بعيدٍ عن افتراض الاستقلالية ضمن مفهوم "أثر السي أن أن"، ينحو بينيت (1991) (22)، وبينيت وآخرون (2006) منحى مختلفًا قليلًا عن المقاربات الماضية. فيقدّم بينيت (1991) الفرضية التوجيهية (Indexing hypothesis)، والتي ترى أن الأخبار المرتبطة بحدثٍ ما تتحول من التمحور حول الحدث نفسه إلى التأثر بقيود المعايير الصحفية التي تشتمل على العمل ضمن أطر توجيه القصّة الصحفية بما يتسق مع وجهات النظر والرواية التي تحظى بالإجماع عليها لدى السلطة والنخبة. وبعبارة أخرى، فإن هذه الفرضية ترى أن وسائل الإعلام قد تتعاطى مع حدث ما كما هو متوقع وفق مفهوم "أثر السي أن أن"، وتُظهر ميلًا نحو الاستقلالية النسبية في فرض أجندة الأخبار، إلا أنها بعد ذلك تصطدم بقيود الممارسات الصحفية التي توجه القصة والأحداث وفق وجهة نظر السلطة أو النخبة. هذه النظرية وفق ما يرى بينيت (2006) تتيح ملاحظة كلا العنصرين ومدى تأثيرهما في التغطية الإخبارية، أي التمحور حول الحدث وتوجيه الحدث. لتوضيح ذلك يستخدم بينيت (2006) مثال فضيحة "أبو غريب"، حيث ظهر نموذج التغطية التي يحرّكها الحدث بسبب التسريبات التي اشتملت على نشر صور ووثائق لم تستطع الحكومة السيطرة عليها. ثم سرعان ما ظهر نموذج التوجيه، وقد بدأ ذلك وفق بينيت وآخرون (2006) حين انخرط مسؤولون وشخصيات في الكونغرس بالمسألة وأدلوا بتصريحات، وعقدوا جلسات استماع رسمية ونشروا وثائق تشجب التعذيب وتستنكر التسريبات المرتبطة بالفضيحة. لكن المسؤولين، في إدارة بوش حينها، وضعوا إطارًا عامًا بوسعه "احتواء" كافة الروايات ويتجاوز كافة الأدلة المتوفرة (Bennett et al, 2006). إضافة إلى ذلك، فإن الأمر حين يتعلق بفضائح المسؤولين، فإن وسائل الإعلام الأمريكية لا تخضع لنسق معيّن وتكون انتقائية في تغطيتها، ما يحول في معظم الحالات دون مساءلة الحكومة (23).

وأخيرًا، فإن هذه المقالة قد سعت بشكل أساسي إلى توضيح مفهوم "أثر السي أن أن" وبيان أهميته، وهو مفهوم بدأ بشكل عملي بعد نهاية الحرب الباردة وفي الفترة التي تعزَّزَ فيها حضور التقنيات الحديثة في مجال البث التلفزي. وعلى الرغم من الجدل الدائر حول الحرب الباردة وأهميتها في هذا السياق، إلا أنها أسهمت في نشأة مفهوم وممارسة صحفية ذات انعكاسات واضحة على صعيد صناعة السياسات. وعلى ضوء النقاش أعلاه يمكن الجدال -نظريًا- بأن "أثر السي أن أن" مفهوم ذو صلة وتأثير في وضع الأجندة لغايات تتعلق بصنع السياسات، إلا أن ثمّة أدلة نظرية وعملية أخرى لا تؤيّد "أثر السي أن أن". وثمة مقاربات أخرى ذات صلة بنظرية التوجيه، والتي تلحظ جانب التغطية التي يحركها الحدث من جهة، وجانب "صناعة القبول" والذي يتعارض بشكل جوهري مع فكرة استقلالية المؤسسات الإعلامية عن تأثير النخب المختلفة في وضع أجندة الأخبار وتوجيهها.

 

المراجع:

 

 

 

المزيد من المقالات

إعلام السلطة وإعلام الثورة لا يصلحان لسوريا الجديدة | مقابلة مع يعرب العيسى

هل يمكن للإعلام الذي رافق الثورة السورية أن يبني صحافة جادة تراقب السلطة وتمنع عودة الانتهاكات السابقة؟ ما الذي تحتاجه المنظومة الإعلامية الجديدة كي تمنع السردية الأحادية للسلطة؟

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 16 مارس, 2025
بي بي سي والخضوع الطوعي لإسرائيل: كيف تنجو الحقيقة؟

كيف نفهم مسارعة "بي بي سي" إلى الرضوخ لمطالبات إسرائيلية بحذف فيلم يوثق جزءا من المعاناة الإنسانية في قطاع غزة؟ هل تصمد "الملاحظات المهنية الواجبة" أمام قوة الحقيقة والشهادات؟ وماذا يعني ذلك حول طريقة تعاطي وسائل إعلام غربية كبرى مع النفوذ الإسرائيلي المتزايد في ظل استمرار الحرب على الفلسطينيين؟

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 2 مارس, 2025
ترامب وإغلاق USAID.. مكاشفة مع "الإعلام المستقل"

غاب النقاش عن تأثير قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وقف التمويل الخارجي التابع لوكالة التنمية الأمريكية USAID، على المنصات الصحفية العربية. دأبت بعض هذه المنصات على تسمية نفسها بـ "المستقلة" رغم أنها ممولة غربيا. يناقش هذا المقال أسباب فشل النماذج الاقتصادية للمؤسسات الممولة غربيا في العالم العربي، ومدى استقلالية خطها التحريري.

أحمد أبو حمد نشرت في: 5 فبراير, 2025
الصحفي الرياضي في مواجهة النزعة العاطفية للجماهير

مع انتشار ظاهرة التعصب الرياضي، أصبح عمل الصحفي محكوما بضغوط شديدة تدفعه في بعض الأحيان إلى الانسياق وراء رغبات الجماهير. تتعارض هذه الممارسة مع وظيفة الصحافة الرياضية التي ينبغي أن تراقب مجالا حيويا للرأسمال السياسي والاقتصادي.

أيوب رفيق نشرت في: 28 يناير, 2025
هل ستصبح "ميتا" منصة للتضليل ونظريات المؤامرة؟

أعلن مارك زوكربيرغ، أن شركة "ميتا" ستتخلى عن برنامج تدقيق المعلومات على المنصات التابعة للشركة متأثرا بتهديدات "عنيفة" وجهها له الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب. هل ستساهم هذه الخطوة في انتعاش نظريات المؤامرة وحملات التضليل والأخبار الزائفة أم أنها ستضمن مزيدا من حرية التعبير؟

Arwa Kooli
أروى الكعلي نشرت في: 14 يناير, 2025
التعليق الوصفي السمعي للمكفوفين.. "لا تهمنا معارفك"!

كيف تجعل المكفوفين يعيشون التجربة الحية لمباريات كأس العالم؟ وهل من الكافي أن يكون المعلق الوصفي للمكفوفين يمتلك معارف كثيرة؟ الزميل همام كدر، الإعلامي بقنوات بي إن سبورتس، الذي عاش هذه التجربة في كأسي العرب والعالم بعد دورات مكثفة، يروي قصة فريدة بدأت بشغف شخصي وانتهت بتحد مهني.

همام كدر نشرت في: 12 يناير, 2025
هل تنقذ المصادر المفتوحة الصحفيين الاستقصائيين العراقيين؟

تصطدم جهود الصحفيين الاستقصائيين في العراق بالتشريعات التي لا تسمح بالولوج إلى المعلومات. مع ذلك، تبرز تجارب جديدة تتجاوز التعقيدات السياسية والبيروقراطية بالاعتماد على المصادر المفتوحة.

حسن أكرم نشرت في: 5 يناير, 2025
الصحافة العربية تسأل: ماذا نفعل بكل هذا الحديث عن الذكاء الاصطناعي؟

كيف أصبح الحديث عن استعمال الذكاء الاصطناعي في الصحافة مجرد "موضة"؟ وهل يمكن القول إن الكلام الكثير الذي يثار اليوم في وسائل الإعلام عن إمكانات الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي ما يزال عموميّا ومتخيّلا أكثر منه وقائع ملموسة يعيشها الصحفيون في غرف الأخبار؟

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 2 يناير, 2025
ما ملامح المشهد الإعلامي سنة 2025؟

توهج صحافة المواطن، إعادة الاعتبار لنموذج المحتوى الطويل، تطور الفيديو، استكشاف فرص الذكاء الاصطناعي هي العناصر الأساسية لتوقعات المشهد الإعلامي لسنة 2025 حسب تقرير جديد لنيمان لاب التابع لجامعة هارفارد.

Othman Kabashi
عثمان كباشي نشرت في: 31 ديسمبر, 2024
التضليل في سوريا.. فوضى طبيعية أم حملة منظمة؟

فيديوهات قديمة تحرض على "الفتنة الطائفية"، تصريحات مجتزأة من سياقها تهاجم المسيحيين، مشاهد لمواجهات بأسلحة ثقيلة في بلدان أخرى، فبركة قصص لمعتقلين وهميين، وكم هائل من الأخبار الكاذبة التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد: هل هي فوضى طبيعية في مراحل الانتقال أم حملة ممنهجة؟

Farhat Khedr
فرحات خضر نشرت في: 29 ديسمبر, 2024
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة

طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.

Mawadah Bahah
مودة بحاح نشرت في: 17 ديسمبر, 2024
الصحافة السورية المستقلة.. من الثورة إلى سقوط الأسد

خلال 13 سنة من عمر الثورة السورية، ساهمت المنصات الصحفية المستقلة في كشف الانتهاكات الممنهجة للنظام السابق. الزميل أحمد حاج حمدو، يقدم قراءة في أدوار الإعلام البديل من لحظة الثورة إلى لحظة هروب بشار الأسد

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 13 ديسمبر, 2024
الاستعمار الرقمي.. الجنوب العالمي أمام شاشات مغلقة

بعد استقلال الدول المغاربية، كان المقاومون القدامى يرددون أن "الاستعمار خرج من الباب ليعود من النافذة"، وها هو يعود بأشكال جديدة للهيمنة عبر نافذة الاستعمار الرقمي. تبرز هذه السيطرة في الاستحواذ على الشركات التكنولوجية والإعلامية الكبرى، بينما ما يزال الجنوب يبحث عن بديل.

Ahmad Radwan
أحمد رضوان نشرت في: 9 ديسمبر, 2024
الجنوب العالمي.. مناجم بوليفيا والإعلام البديل

هل أسست إذاعات المناجم في بوليفيا لتوجه جديد في دراسات الاتصال الواعية بتحديات الجنوب العالمي أم كانت مجرد حركة اجتماعية قاومت الاستبداد والحكم العسكري؟ وكيف يمكن قراءة تطور إذاعات المناجم على ضوء جدلية الشمال والجنوب؟

Khaldoun Shami PhD
خلدون شامي نشرت في: 4 ديسمبر, 2024
تحديات تدفق البيانات غير المتكافئ على سرديات الجنوب

ساهمت الثورة الرقمية في تعميق الفجوة بين دول الجنوب والشمال، وبعيدا عن النظريات التي تفسر هذا التدفق غير المتكافئ بتطور الشمال واحتكاره للتكنولوجيا، يناقش المقال دور وسياسات الحدود الوطنية والمحلية لدول الجنوب في في التأثير على سرديات الجنوب.

Hassan Obeid
حسن عبيد نشرت في: 1 ديسمبر, 2024
عن الصحافة الليبرالية الغربية وصعود الشعبويّة المعادية للإعلام

بنى إيلون ماسك، مالك منصة إكس، حملته الانتخابية المساندة لدونالد ترامب على معاداة الإعلام الليبرالي التقليدي. رجل الأعمال، الذي يوصف بأنه أقوى رجل غير منتخب في الولايات المتحدة الأمريكية، يمثل حالة دالة على صعود الشعبوية المشككة في وسائل الإعلام واعتبارها أدوات "الدولة العميقة التي تعمل ضد "الشعب".

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 24 نوفمبر, 2024
ازدواجية التغطية الإعلامية الغربية لمعاناة النساء في العالم الإسلامي

تَعري طالبة إيرانية احتجاجا على الأمن، و70 في المئة من الشهداء في فلسطين نساء وأطفال. بين الخبرين مسافة زمنية قصيرة، لكن الخبر الأول حظي بتغطية إعلامية غربية واسعة مقابل إغفال القتل الممنهج والتعذيب والاعتقال ضد النساء الفلسطينيات. كيف تؤطر وسائل الإعلام الغربية قضايا النساء في العالم الإسلامي، وهل هي محكومة بازدواجية معايير؟

Shaimaa Al-Eisai
شيماء العيسائي نشرت في: 19 نوفمبر, 2024
كيف يقوض التضليل ثقة الجمهور في الصحافة؟

تكشف التقارير عن مزيد من فقدان الثقة في وسائل الإعلام متأثرة بحجم التضليل الذي يقوض قدرة الصحافة المهنية على التأثير في النقاشات العامة. حواضن التضليل التي أصبحت ترعاها دول وكيانات خاصة أثناء النزاعات والحروب، تهدد بتجريد المهنة من وظائفها في المساءلة والمراقبة.

Muhammad Khamaiseh 1
محمد خمايسة نشرت في: 11 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
تأثير إفلات سلطة الاحتلال الإسرائيلي من العقاب على ممارسة المهنة بفلسطين

صنفت لجنة حماية الصحفيين الاحتلال الإسرائيلي في مقدمة المفلتين من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين. الزميل ياسر أحمد قشي، رئيس قسم حماية الصحفيين بمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان، يشرح في المقال كيف فشلت المنظومة الأممية في حماية "شهود الحقيقة" في فلسطين.

ياسر أحمد قشي نشرت في: 3 نوفمبر, 2024
التضليل والسياق التاريخي.. "صراع الذاكرة ضد النسيان"

ما الفرق بين السادس والسابع من أكتوبر؟ كيف مارست وسائل الإعلام التضليل ببتر السياق التاريخي؟ لماذا عمدت بعض وسائل الإعلام العربية إلى تجريد حرب الإبادة من جذورها؟ وهل ثمة تقصد في إبراز ثنائية إسرائيل - حماس في التغطيات الإخبارية؟

Said El Hajji
سعيد الحاجي نشرت في: 30 أكتوبر, 2024
أدوار الإعلام العماني في زمن التغيرات المناخية

تبرز هذه الورقة كيف ركز الإعلام العماني في زمن الكوارث الطبيعية على "الإشادة" بجهود الحكومة لتحسين سمعتها في مقابل إغفال صوت الضحايا والمتأثرين بالأعاصير وتمثل دوره في التحذير والوقاية من الكوارث في المستقبل.

Shaimaa Al-Eisai
شيماء العيسائي نشرت في: 21 أكتوبر, 2024
نصف الحقيقة كذبة كاملة

في صحافة الوكالة الموسومة بالسرعة والضغط الإخباري، غالبا ما يطلب من الصحفيين "قصاصات" قصيرة لا تستحضر السياقات التاريخية للصراعات والحروب، وحالة فلسطين تعبير صارخ عن ذلك، والنتيجة: نصف الحقيقة قد يكون كذبة كاملة.

Ilya U. Topper
إيليا توبر Ilya U. Topper نشرت في: 14 أكتوبر, 2024
النظام الإعلامي في السودان أثناء الحرب

فككت الحرب الدائرة في السودان الكثير من المؤسسات الإعلامية لتفسح المجال لكم هائل من الشائعات والأخبار الكاذبة التي شكلت وقودا للاقتتال الداخلي. هاجر جزء كبير من الجمهور إلى المنصات الاجتماعية بحثا عن الحقيقة بينما ما لا تزال بعض المؤسسات الإعلامية التقليدية رغم استهداف مقراتها وصحفييها.

محمد بابكر العوض نشرت في: 12 أكتوبر, 2024