قراءة في تاريخ الصحافة الأمريكية

قراءة في تاريخ الصحافة الأمريكية

تعتبر الصحافة إلى حد بعيد انعكاسا وصورة للمجتمعات ولتاريخها، أليست الصحافة هي تلك المسودة الأولى للتاريخ؟ 

في الأوساط الإعلامية العربية، كثيرًا ما لا يتم التمييز بين المنظومة الصحفية في أمريكا وبين مواقف النظام السياسي القائم في البلاد، وهما أمران مختلفان رغم تداخلهما. إذ غالبًا ما يتم الحكم على وضعية الصحافة الأمريكية من زاوية سياسات هذا البلد تجاه قضايا الشرق الأوسط. فإذا كانت السياسات الأمريكية ظالمة عمومًا تجاه القضايا العربية، فإن المنظومة الصحفية ليست كذلك دائمًا لأنها ليست مرآة للسياسة الرسمية لواشنطن. دليل ذلك أن الإعلام الأمريكي نفسه، كثيرًا ما يصطدم بسلطة بلده كما حدث في قضايا عدة؛ كحرب فييتنام، أو "فضيحة ووترغيت"، ومؤخرًا خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب الحافل بالعلاقات المتوترة مع وسائل الإعلام.

 

تسمي مجلة Editor Publisher  نفسها بـ "إنجيل صناعة الصحافة في أمريكا". قد يكون ذلك تجسيدًا لتضخمها واعتدادًا مبالغًا فيه بالذات، من قبل مجلة عريقة تأسست في القرن التاسع عشر، لكن جل الأخصائيين يشهدون بحرفيتها وسمعتها. رأت مجلة E&P، كما تسمى اختصارًا، النور في عام 1884 ولا تزال تصدر إلى اليوم. آخر إنجازاتها تمثل في تحويل أرشيفها الورقي إلى محتوى رقمي متوفر على الإنترنت، ما يسمح القيام برحلة تاريخية رائعة لتقصي مختلف مجالات حياة الأمريكيين على مدى حوالي قرن من الزمان. خطوة تندرج في إطار التحول الرقمي الذي تعيشه هذه المجلة المهتمة بكل ما يتعلق في صناعة الصحف والتوزيع، وجوائز الصحافة وحتى بفرص العمل، هذا إلى جانب دفاعها عن حرية الصحافة؛ إذ تقدم نفسها على أنها "صوت مستقل يدافع عن الحقوق التي يضمنها التعديل الأول للدستور للصحفيين في حرية التعبير وفي تبنيها لمبادئ الصحافة الاستقصائية".

 

أصبح الأرشيف الكامل للمجلة إذن متوفرًا على الموقع الأمريكي المتخصص في الأرشيف https://archive.org/ بفضل مبادرة مالكها الجديد مايك بلاندر Mike Blinder الذي قرر دعم عملية تحولها إلى العالم الرقمي عند إدارتها في عام 2019. هذه العملية، غير المكلفة ماديًا، تطلبت منه فقط تسليم ميكروفيلم يضم الأعداد الورقية للمجلة، في خطوة ذات قيمة كبرى؛ فهي تخدم جمهور القراء والتاريخ الوطني الأمريكي. خطوة ينبغي أن تستلهمها الصحف العربية التي يعيش أرشيفها الورقي، غالبًا، محفوظًا في أماكن متداعية داخل صناديق كرتونية يملؤها الغبار بعيدًا عن الفهرسة والأرشفة العصرية باستثناء بعض المبادرات المتفرقة (1).

 

لولا العلم لضاعت الصحافة

من بين الجوانب الأساسية التي يكشفها أرشيف مجلة E&P هو الارتباط العضوي والوثيق بين الجامعة والصحافة في أمريكا، ما ساهم في بروز مهنة الصحافة وتطورها. يشهد على ذلك مقال نشرته المجلة في عام 1936 حول وصية تركتها زوجة الصحفي الشهير لوسيوس ليمان Lucius Nieman، وهبت فيها جزءًا من ثروتها لإنشاء قسم متخصص في الصحافة داخل جامعة هارفارد، بهدف التكوين والتعليم لرفع مستوى الصحافة في أمريكا، بشرط أن يستفيد من التكوين الأشخاص الموهوبون والمؤهلون فعلًا في هذا المجال. 

كانت هذه المنح الجامعية تقدر آنذاك بحوالي 5000 دولار. ويعتبر هذا الجانب مهما لفهم تميز الصحافة الأمريكية بفضل الروابط البنيوية والتعليمية التي نشأت بين الصحفيين المهنيين في الميدان والتعليم الجامعي من جهة، وبين وجود روح مجتمعية قائمة على التبرع وعلى خدمة الصالح العام من جهة ثانية.  

 

التنظيم المهني للصحفيين لا يقل أهمية أيضًا عن التربية والجامعة. ومن بين الأحداث التنظيمية التي يتوقف عندها أرشيف المجلة، تأسيس أول نقابة للصحفيين بمدينة كليفلاند في عام 1923 كانت تضم 102 صحفيًا. ومن بين التعليقات الطريفة والمضيئة التي أرفقتها مجلة E&P بهذا الحدث، تعليق يتناول جدلية الانتماء والاستقلالية التي تحدد مواقع نساء ورجال الصحافة. يقول كاتب التعليق: "الصحفيون قد يتظاهرون بأنهم متطرفون وشيوعيون لكن الحقيقة أنهم يحبون أن تطلق الأوصاف والألقاب على الآخرين وليس عليهم هم، إذ إن معظم الصحفيين يحبون أن يبقوا بعيدين وعلى مسافة معينة".

 

وقد تواصلت مع مرور السنين المحطات التنظيمية للمهنة، ففي عام 1933، ودائمًا بمدينة كليفلاند، قامت جمعية للمحررين يطلق عليها Cleveland Newspaper Guild بتغيير اسمها بهدف إعطاء تنظيمها هذا طابعًا وطنيًا. وهكذا تحولت إلى ما يشبه نقطة تجميع وتقاسم للمعلومات تتكامل داخلها كل التنظيمات الوطنية لتتطور لاحقاً ويصبح لها شكل تنظيمي يسمى اليوم بـ News Guild ، وهي تكتلات لعدد من الصحفيين غرضها تفعيل ومأسسة ما يمكن تسميته بشعار "الاتحاد قوة" لأن المهنة لا يمكنها أن تتطور بدون اتحاد وبدون تضامن وتكتل لتدافع عن حقوقها.

 

"صحفيو القمامة" أو "الصحفيون المزعجون"

في تاريخ الصحافة الأمريكية، لعب الآباء المؤسسون، مثل الرئيس بينجامين فرانكلين، الذي مارس الصحافة في شبابه، أدوارًا أساسية في بناء الدولة الأمة، وكذلك في تطوير وتعزيز حرية الصحافة والتعبير. وساهمت الصحف بشكل قوي في حركة المطالبة باستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا، حيث شنت في عام 1765 حملة ضد الضريبة التي فرضها المستعمر على المطابع الأمريكية من أجل استهداف الصحف. ثم ما لبثت الحملة وأن انتقلت من صفحات الجرائد إلى الشارع، فاندلعت المظاهرات في عدة مدن. كانت هذه الأحداث بمثابة الشعلة التي ألهبت الحماس، وعززت اللحمة الوطنية التي ساهمت في التعبئة العامة والتنظيم السياسي المؤطر لمطالب الاستقلال. شكل ذلك تحولًا صحفيًا وسياسيًا ومجتمعيًا لخصه جاك أطالي بقوله: "حرية الصحافة هي السد المنيع الضامن لحرية الشعب" (2).

 

لكن هذا الارتباط التاريخي المؤسس بين الصحفيين والسياسيين لا يعني التبعية الميكانيكية؛ فقد بنت الصحافة الأمريكية تدريجيًا مكانتها كسلطة رابعة مستمدة من الدستور ومن مجتمع يقدس حرية التعبير، وسمحت هذه البيئة بتطور مهنة الصحافة واستقلاليتها. ومن تجليات ذلك، ظهور ما يسمى بتجربة "صحفيو القمامة" (Muckrackers) أو "الصحفيون المزعجون"، وهو لقب أطلق على الصحفيين والكتاب الذين اشتهروا بالتحقيق في القضايا السياسية والاقتصادية الحساسة، مثل الرشوة أو تضارب المصالح أو استغلال النفوذ. 

وقد ظهر هؤلاء "المزعجون" إبان ما يعرف بـ "العصر التقدمي" في أمريكا الممتد من عام 1890 إلى 1920. تميز هذا العصر بإصلاحات سياسية واجتماعية قطعت مع المنهج الليبرالي السائد سابقًا، ما سمح بسن تشريعات وسياسات اشتراكية تنتصر لحقوق العمال والمرأة التي حصلت لأول مرة على حق التصويت. 

ولا تزال آثار هذه المدرسة الصحفية حاضرة من خلال تقاليد التحقيق القوية في الصحافة الأمريكية. ومن بين الصحفيين الذين اشتهروا في هذا المجال إيدا ترابيل Ida Tarbel التي ألفت في عام 1904 كتابًا عن "تاريخ شركة ستاندراد للبترول" كشف عن فساد جون روكفيلي، مدير الشركة وأغنى شخصية في التاريخ الأمريكي. وتعرّف ترابل "البحث الصحفي في القمامة" كما يلي: "هو عملية الكشف عن الممارسات أو الظروف أو السياسات المعمول بها داخل المؤسسات أو في أوساط مجموعات من الناس... وطالما أن الناس يجتمعون للقيام ببعض الأمور في السر والخفاء، فستكون مهمة الصحفيين هي الكشف عنها". ومن بين الأسماء التي برزت أيضا في هذا الشأن، دافيد غراهام فيليبس الذي قام في عام 1906 بالكشف، عبر سلسلة مقالات، عن فضائح الرشوة في أوساط عدد من البرلمانيين الأمريكيين، والتي كشفت بدورها بعض الثغرات القانونية، ما أدى لاحقًا إلى تعديل الدستور الأمريكي لمحاربة هذه الظاهرة. حادثة تثبت مدى قوة وتأثير الصحافة التي يمكن أن تصل إلى درجة تغيير الواقع الدستوري والسياسي.

 

فضيحة ووترغيت.. الرمز الكبير

النموذج المؤسس والأشهر لقوة واستقلالية الصحافة الأمريكية يبقى كشف صحفيي "واشنطن بوست"، بوب وودوارد وكارل برنشتاين، تورط الرئيس ريتشارد نيكسون في عملية تجسس على مقر الحزب الديمقراطي عام 1972، ما أنهى حياة نيكسون السياسية وألزمه بالاستقالة من منصبه. وعرفانًا بهذا الإنجاز، نقلت مجلة E&P في ذلك التاريخ خبر تتويج وودوارد وبرنشتاين ورئيس التحرير باري بوسمان، بجائزة مؤسسة Drew Pearson Foundation، البالغ قدرها 6 آلاف دولار. لكن، وعلى الرغم من دور رئيس التحرير المحوري في التحقيق، إلا أن الأضواء غالبًا ما تسلط على وودوارد وبرنشتاين فقط. وساهم في ذلك الفيلم الشهير الذي تناول الفضيحة، "رجال الرئيس"، للمخرج آلان باكولا المتوج بالأوسكار، عبر تهميش دور بوسمان، لينتقده موقع "نييمان" ويعتبر أن "نسيان ذكر باري سوسمان في فيلم "رجال الرئيس" كان بمثابة جريمة في حقه" (3).  

 

ومن بين النماذج المبدعة أيضًا لصحافة التحقيق، نذكر إنجاز جريدة "نيويورك ديلي نيوز" في 2008 المغامر وغير المسبوق. قامت الجريدة بتزوير وثائق عقارية بهدف الاستيلاء على مبنى المقاطعة الملكية Empire State Building الشهير في نيويورك. ونجحت فعلًا في تزوير الوثائق والتلاعب بمصالح المحافظة العقارية بالمدينة وإقناعها بأن الجريدة أصبحت هي مالكة العمارة. لكنها عادت، بعد مرور 90 دقيقة بالتمام، إلى الاتصال بالمحافظة العقارية لتكشف لها حقيقة الخدعة، ولترد العمارة إلى أصحابها. كان الهدف يتعلق بتحدي وتنبيه الإدارة إلى مخاطر التزوير وسهولة الاستيلاء على أملاك وعقارات الناس في نيويورك. ويسلط ذلك الضوء دور الصحافة في تعزيز المواطنة وخدمة الصالح العام عبر الكشف عن الثغرات الإداراية والقانونية (4). 

 

صحافة الحرب: هيروشيما نموذجًا

تشكلت في أمريكا أيضًا معالم مجال صحفي خاص بالحرب له مبادئه وقواعده. كانت الحرب بمثابة امتحان لروح الوطنية من جهة، ومحكمًا لمدى التزام الصحافة بأدوارها في إخبار المواطنين وإطلاعهم على المجريات من جهة أخرى، في ظل ضغوطات ومتطلبات الحفاظ على الأمن القومي. ومثل غالبية البلدان، توجد في الولايات المتحدة جريدة خاصة بالجيش تسمى Stars and Stripes إلا أن تجربتها لها مسار خاص. صدر أول عدد منها في عام 1861 إبان الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وعاشت بعدها عدة تحولات أبرزها التركيز على مخاطبة الجنود الأمريكيين المنتشرين حول العالم والصدور على شكل نشرات خاصة بكل منطقة يوجد فيها هؤلاء الجنود كنشرة أوروبا أو نشرة الشرق الأوسط وغيرها. وفي عام 1919، توقفت المجلة مؤقتًا مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم استأنفت الصدور إلى اليوم على شكل جريدة ورقية وإلكترونية. المجلة تتمتع باستقلالية فريدة من خلال عملها تحت إشراف كل من البرلمان ووزارة الدفاع، إذ برز فيها صحفيون كبار وكتاب من بينهم هارولد روس، مؤسس مجلة "النيويوركر" المعروفة، والناقد الدرامي الشهير ألكسندر وولكوت.

لا شك أن الحرب تطرح معضلة أخلاقية ومهنية على الصحفيين تتمثل في قول حقيقة الحرب وأهوالها. ومما له دلالته في هذا الصدد، تعاطي الصحافة مع قنبلة هيروشيما. فبعد أيام على إطلاق الأمريكيين القنبلة على اليابان، سافر إليها الصحفي جون هيرسي من مجلة "النيويوركر" وأعد استطلاعًا تضمن حوارات مع 6 يابانيين ناجين من المجزرة، لتنشره المجلة في عدد كامل مخصص لهذا الحدث المأساوي. بعد عام، صدر هذا الريبوتاج في كتاب بعنوان "هيروشيما". وهكذا نال هيرسي شهرة عالمية واختير عمله كأفضل ريبورتاج في القرن العشرين. 

 

ولتعميم الحقائق الفظيعة التي كشف عنها الكتاب، سمحت المجلة، في 7 أيلول/سبتمبر من عام 1946، لجميع الجرائد الأخرى بإعادة نشره بالمجان، وهو مؤشر يدل على قيم الصحافة غير المبنية على الربح، وإنما على كشف الحقيقة أمام المواطنين. إذنُ المجلة بإعادة نشر الكتاب مجانًا بني على شرطين، أولهما أن ينشر الكتاب كاملًا بما يضمه من 30 ألف كلمة ومنع اقتطاع أجزاء منه أو تلخيصها، والآخر أن تذهب مداخيل هذا النشر إلى الصليب الأحمر الأمريكي لمساعدة الضحايا. وبالفعل، تم نشر الكتاب على نطاق واسع دون أي رقابة، وبفضله استطاع الأمريكيون والعالم أجمع التعرف على العواقب الإنسانية المهولة التي خلفتها القنبلة. 

 

إلى جانب صحفيي الحروب، ظهرت روح المغامرة لدى آخرين في ما يعرف بظاهرة "الصحفيين المتجولين عبر العالم"، والذين كانوا يراسلون عدة صحف في نفس الوقت. ومن بين هؤلاء هانتر طومسون، الذي كان يعمل مراسلًا صحفيًا حرًّا داخل بلاده أمريكا، ثم أصبح مراسلًا لعدد من الصحف الأمريكية خلال جولاته عبر أمريكا اللاتينية ابتداء من سنة 1962. والملاحظ هنا أن غالبية هؤلاء الصحفيين يصبحون كُتابًا أو يصدرون كتبًا بعد تخصصهم في مجال معين، الأمر الذي ساهم في تطوير تقنيات الكتابة وتجدديها. ويعتبر جون هيرسي من رواد ما يسمى بـ "الصحافة الجديدة" التي تستعمل تقنيات السرد القصصي والروائي عند كتابة الريبورتاجات الإخبارية.

 

 

 

العنصرية في الصحافة الأمريكية

تقول المفكرة الأمريكية ذات الأصل الألماني حنة آرندت، والتي كتبت في مجلات شهيرة مثل "النيويوركر"وأقامت في أمريكا وتعمقت في فهم بنيات اشتغال المجتمع، إن "التناقض الرئيسي في هذا البلد هو وجود حرية سياسية مقترنة بالعبودية الاجتماعية" (5).  

هذا العمق العنصري للمجتمع الأمريكي كان له تأثير واضح على مسارات الصحافة. فقد كان عدد من الصحفيين، خاصة في جنوب البلاد المعروف تاريخيًا بعنصريته التي كانت أحد أسباب اندلاع الحرب الأهلية، يتبنون بشكل علني وجهات نظر عنصرية في ستينات القرن الماضي. لدرجة أنهم كانوا ينتقدون حركة الحقوق المدنية للمطالبة بالمساواة للسود. من بين هؤلاء الصحفيين جيمس كيلباتريك، الذي كان يقول علانية إن "الجنس الأسود هو عرق أدنى وليس له مساهمة في الحضارة الغربية". بل إنه كان يعارض المساواة حتى في التعليم بين السود والبيض. وهي مواقف لا نزال نجد بعض أصدائها اليوم وسط أتباع اليمين المحافظ.

وردًا على الحركات العنصرية، تأسست أول جمعية للصحفيين السود في عام 1967، تحت اسم "آفاق سوداء "Black Perspective" بهدف تحسين صورة السود في الحياة الأمريكية". ومن بين الصحفيين المؤسسين لها إيد رادلي وبوبي ماينار.

الصحافة لعبت كذلك أدوارًا مهمة في دعم نضالات زعيم حركة الحقوق المدنية القس الشهير مارتن لوثر كينغ. ومن بين المبادرات التضامنية، يذكر التاريخ قيام الصحفي واين ماكوري، مدير جريدة بمدينة مونتغومري، بحملة لجمع الأموال من قراء جريدته لأداء مصاريف الدفاع عن لوثر كينغ خلال محاكمته بتهمة تنظيم حملة لمقاطعة الحافلات بالمدينة احتجاجًا على التمييز ضد السود. وقد وجه القس الشهير لاحقًا رسالة شكر لهذا الصحفي جاء فيها: "إن روح شجاعتكم تعطي أملًا جديدًا لأولئك الذين أجبرتهم الضرورة الطائفية على المعاناة من التفرقة والتمييز". وعرفانًا بمواقف ماكوري، أطلق اسمه على كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة مونماونت Monmouth University بولاية نيو جيرسي.

 

بين الحقيقة والأخبار الزائفة 

إشكالية الكذب والحقيقة ومصداقية الصحافة كانت دائمًا حاضرة في تاريخ الصحف الأمريكية عبر العديد من المحطات. بمعنى أنها ليست إشكالية جديدة تعززت اليوم مظاهرها نتيجة موجات الشعبوية السياسية التي اجتاحت العالم، مدفوعة بسلبيات وسائل التواصل الاجتماعي، وبتحريك من قادة سياسيين ركبوا هذه الموجة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 أو في الاستفتاء على البريكسيت في بريطانيا. 

فعلى الرغم من مراكمتها لإنجازات مهمة ولبناء طويل النفس للمصداقية، فإن صراع الصحافة الأمريكية مع الأخبار الزائفة كان حاضرًا دائمًا، كما هو الحال في الصحف حول العالم عمومًا. ويكشف الأرشيف أنه في عام 1981 مثلًا، استطاعت صحفية تدعى جانيت كوك أن تخترع قصة مقال كاذب بالكامل بعنوان "عالم جيمي" Jimmy’s World تحكي فيه بلمسة إنسانية خادعة عن طفل متشرد في الثامنة يتعاطى المخدرات. وقد صدقتها "الواشنطن بوست" ونشرت القصة، بل إن الأمر انطلى حتى على لجنة جائزة "بوليتزر" الشهيرة التي منحت صاحبتها الجائزة تلك السنة. شكلت هذه الحادثة ضربة موجعة لمصداقية الصحافة، ما جعل توم وينشيب رئيس تحرير جريدة "بوسطن غلوب" يكتب: "إن مسألة عدم وضع الثقة في الصحافة هي مسألة أزلية، وثقة الرأي العام في الصحافة اليوم متدنية". 

ومن بين آخر الخلاصات التي يمكن الخروج بها من هذه الجولة في أرشيفEditor Publisher أن الصحافة في أمريكا مرتبطة أشد الارتباط بالعائلات. فالعديد من الصحف الكبرى ملك عائلات أسستها وتوارثتها عبر الأجيال حتى اليوم، كما هو الحال مع "الواشنطن بوست" أو "النيويورك تايمز" وغيرهما. وهي ظاهرة بنيوية تفسر، جزئيًا، استمرارية الصحف واستقلاليتها. 

وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى تجربة كاتارين غراهام التي تولت مسؤولية جريدة "الواشنطن بوست" بعد انتحار زوجها. واستطاعت، كما كشف فيلم ستيفن سبيلبرغ، "أوراق بنما" Panama Papers، رغم ضغط السلطة ووزارة الدفاع خلال حرب فييتنام، أن تطور الجريدة وتجعلها من أقوى المنابر في أمريكا والعالم. وقد سبق لكاترين غراهام في عام 1961، وبمناسبة مرور 100 سنة على ملكية عائلتها لهذه الجريدة، مدح نظام الملكية والثناء على نجاعته قائلة: "قد تكون العائلات هي أسوأ أشكال ملكية الصحف باستثناء جميع الأشكال الأخرى التي تم تجريبها". تستعير غراهام  في هذه الجملة مقولة رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل الشهيرة عن الديمقراطية بأنها "أقل الأنظمة سوءًا". ولعل استلهام الفكر السياسي لوينستون تشرشل مؤشر دال على أهمية البيئة السياسية بالنسبة لأي تطور أو ازدهار للصحافة. إذ بدون حرية وديمقراطية لا يمكن للسلطة الرابعة أن تنشأ وتعيش وتزدهر.

 

 

مراجع:

 

  1. انظر موقع https://ijnet.org/ar الذي يقدم أرشيف بعض الصحف العربية.

  2. جاك أطالي "تاريخ وسائل الأعلام. من الإشارات الدخانية إلى شبكات التواصل وما بعدها"، منشورات فايار، نسخة رقمية، 2021. ص 100).

  3. رابط المقال: 

https://www.niemanlab.org/2021/02/thanks-to-the-internet-archive-the-hi…

  1. رابط المقال:

https://www.batiactu.com/edito/empire-state-building-vole-par-un-quotidien-new-yorkais-21769.php

  1. مجلة لوبوان الفرنسية. عدد خاص عن المفكرة آنة أرندت. سلسلة "كبار المفكرين" عدد 29 ص 22.

More Articles

Journalism in chains in Cameroon

Investigative journalists in Cameroon sometimes use treacherous means to navigate the numerous challenges that hamper the practice of their profession: the absence of the Freedom of Information Act, the criminalisation of press offenses, and the scare of the overly-broad anti-terrorism law.

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 12 Apr, 2024
Monitoring of Journalistic Malpractices in Gaza Coverage

On this page, the editorial team of the Al Jazeera Journalism Review will collect news published by media institutions about the current war on Gaza that involves disinformation, bias, or professional journalistic standards and its code of ethics.

A picture of the Al Jazeera Media Institute's logo, on a white background.
Al Jazeera Journalism Review Published on: 9 Apr, 2024
The Perils of Journalism and the Rise of Citizen Media in Southeast Asia

Southeast Asia's media landscape is grim, with low rankings for internet and press freedom across the region. While citizen journalism has risen to fill the gaps, journalists - both professional and citizen - face significant risks due to government crackdowns and the collusion between tech companies and authorities to enable censorship and surveillance.

AJR Contributor Published on: 6 Apr, 2024
Ethical Dilemmas of Photo Editing in Media: Lessons from Kate Middleton’s Photo Controversy

Photoshop—an intelligent digital tool celebrated for enhancing the visual appearance of photographs—is a double-edged sword. While it has the power to transform and refine images, it also skillfully blurs the line between reality and fiction, challenging the legitimacy of journalistic integrity and the credibility of news media.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 26 Mar, 2024
Silenced Voices: The Battle for Free Expression Amid India’s Farmer’s Protest

The Indian government's use of legal mechanisms to suppress dissenting voices and news reports raises questions about transparency and freedom of expression. The challenges faced by independent media in India indicate a broader narrative of controlling the narrative and stifling dissenting voices.

Suvrat Arora
Suvrat Arora Published on: 17 Mar, 2024
Targeting Truth: Assault on Female Journalists in Gaza

For female journalists in Palestine, celebrating international women's rights this year must take a backseat, as they continue facing the harsh realities of conflict. March 8th will carry little celebration for them, as they grapple with the severe risks of violence, mass displacement, and the vulnerability of abandonment amidst an ongoing humanitarian crisis. Their focus remains on bearing witness to human suffering and sharing stories of resilience from the frontlines, despite the personal dangers involved in their work.

Fatima Bashir
Fatima Bashir Published on: 14 Mar, 2024
A Woman's Journey Reporting on Pakistan's Thrilling Cholistan Desert Jeep Rally

A Woman's Voice in the Desert: Navigating the Spotlight

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 8 Mar, 2024
Breaking Barriers: The Rise of Citizen Journalists in India's Fight for Media Inclusion

Grassroots journalists from marginalized communities in India, including Dalits and Muslims, are challenging mainstream media narratives and bringing attention to underreported issues through digital outlets like The Mooknayak.

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar, Jyoti Thakur Published on: 3 Mar, 2024
Why Journalists are Speaking out Against Western Media Bias in Reporting on Israel-Palestine

Over 1500 journalists from various US news organizations have signed an open letter criticizing the Western media's coverage of Israel's actions against Palestinians. They accuse newsrooms of dehumanizing rhetoric, bias, and the use of inflammatory language that reinforces stereotypes, lack of context, misinformation, biased language, and the focus on certain perspectives while diminishing others. They call for more accurate and critical coverage, the use of well-defined terms like "apartheid" and "ethnic cleansing," and the inclusion of Palestinian voices in reporting.

Belle de Jong journalist
Belle de Jong Published on: 26 Feb, 2024
Silenced Voices and Digital Resilience: The Case of Quds Network

Unrecognized journalists in conflict zones face serious risks to their safety and lack of support. The Quds Network, a Palestinian media outlet, has been targeted and censored, but they continue to report on the ground in Gaza. Recognition and support for independent journalists are crucial.

Yousef Abu Watfe يوسف أبو وطفة
Yousef Abu Watfeh Published on: 21 Feb, 2024
Artificial Intelligence's Potentials and Challenges in the African Media Landscape

How has the proliferation of Artificial Intelligence impacted newsroom operations, job security and regulation in the African media landscape? And how are journalists in Africa adapting to these changes?

Derick M
Derick Matsengarwodzi Published on: 18 Feb, 2024
Media Blackout on Imran Khan and PTI: Analysing Pakistan's Election Press Restrictions

Implications and response to media censorship and the deliberate absence of coverage for the popular former Prime Minister, Imran Khan, and his party, Pakistan Tehreek-e-Insaf (PTI), in the media during the 2024 elections in Pakistan.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 14 Feb, 2024
Digital Battlegrounds: The New Broadcasting Bill and Independent Journalism in India

New legislation in India threatens the freedom of independent journalism. The draft Broadcasting Services (Regulation) Bill, 2023 grants the government extensive power to regulate and censor content, potentially suppressing news critical of government policies.

Safina
Safina Nabi Published on: 11 Feb, 2024
Pegasus Spyware: A Grave Threat to Journalists in Southeast Asia

The widespread deployment of spyware such as Pegasus in Southeast Asia, used by governments to target opposition leaders, activists, and journalists, presents significant challenges in countering digital surveillance. This is due to its clandestine operations and the political intricacies involved. The situation underscores the urgent need for international cooperation and heightened public awareness to address these human rights infringements.

AJR Contributor Published on: 5 Feb, 2024
Media Monopoly in Brazil: How Dominant Media Houses Control the Narrative and Stifle Criticism of Israel

An in-depth analysis exploring the concentration of media ownership in Brazil by large companies, and how this shapes public and political narratives, particularly by suppressing criticism of Israel.

Al Jazeera Logo
Rita Freire & Ahmad Al Zobi Published on: 1 Feb, 2024
Cameroonian Media Martyrs: The Intersection of Journalism and Activism

Experts and journalists in Cameroon disagree on the relationship between journalism and activism: some say journalism is activism; others think they are worlds apart, while another category says a “very thin” line separate both

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 28 Jan, 2024
Silent Suffering: The Impact of Sexual Harassment on African Newsrooms

Sexual harassment within newsrooms and the broader journalistic ecosystem is affecting the quality and integrity of journalistic work, ultimately impacting the organisation’s integrity and revenue.

Derick M
Derick Matsengarwodzi Published on: 23 Jan, 2024
The Perils of Unverified News: A Case of Nonexistent Flotillas

Can you hide one thousand ships in the middle of the Mediterranean Sea? I would say not. But some of my fellow journalists seem to believe in magic.  

Ilya
Ilya U Topper Published on: 16 Jan, 2024
In-Depth Analysis Reveals Distortion in U.S. Media's Coverage of the Gaza Conflict

A new quantitative analysis by The Intercept reveals the extent of distorted coverage in American media of the Israeli war on Gaza.

A picture of the Al Jazeera Media Institute's logo, on a white background.
Al Jazeera Journalism Review Published on: 14 Jan, 2024
In the Courtroom and Beyond: Covering South Africa's Historic Legal Case Against Israel at The Hague

As South Africa takes on Israel at the International Court of Justice, the role of journalists in covering this landmark case becomes more crucial than ever. Their insights and reporting bring the complexities of international law to a global audience.

Hala Ahed
Hala Ahed Published on: 12 Jan, 2024
Embedded journalism: Striking a balance between access and impartiality in war zones

The ethical implications of embedded journalism, particularly in the Israeli invasion of Gaza, raise concerns about the compromise of balance and independence in war coverage.

Abeer Ayyoub
Abeer Ayyoub Published on: 19 Dec, 2023
Through a Mexican lens: Navigating the intricacies of reporting in Palestine

A Mexican journalist's journey through the complexities of reporting on Palestine and gives tips on how to manage this kind of coverage.

Témoris Grecko
Témoris Grecko Published on: 10 Dec, 2023
Why have opposition parties in India issued a boycott of 14 TV presenters?

Media workers in India argue that boycotts of individual journalists are not the answer to pro-Government reporting bias

Saurabh Sharma
Saurabh Sharma Published on: 23 Oct, 2023
Punishing the popular: the suspension of a youth magazine in Vietnam

Media outlets not directly affiliated with the state are not allowed to produce ‘news’ in Vietnam - but the loose definition of ‘news’ means many fall foul of the rules

headshot
AJR Correspondent Published on: 19 Oct, 2023