قراءة في تاريخ الصحافة الأمريكية

قراءة في تاريخ الصحافة الأمريكية

تعتبر الصحافة إلى حد بعيد انعكاسا وصورة للمجتمعات ولتاريخها، أليست الصحافة هي تلك المسودة الأولى للتاريخ؟ 

في الأوساط الإعلامية العربية، كثيرًا ما لا يتم التمييز بين المنظومة الصحفية في أمريكا وبين مواقف النظام السياسي القائم في البلاد، وهما أمران مختلفان رغم تداخلهما. إذ غالبًا ما يتم الحكم على وضعية الصحافة الأمريكية من زاوية سياسات هذا البلد تجاه قضايا الشرق الأوسط. فإذا كانت السياسات الأمريكية ظالمة عمومًا تجاه القضايا العربية، فإن المنظومة الصحفية ليست كذلك دائمًا لأنها ليست مرآة للسياسة الرسمية لواشنطن. دليل ذلك أن الإعلام الأمريكي نفسه، كثيرًا ما يصطدم بسلطة بلده كما حدث في قضايا عدة؛ كحرب فييتنام، أو "فضيحة ووترغيت"، ومؤخرًا خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب الحافل بالعلاقات المتوترة مع وسائل الإعلام.

 

تسمي مجلة Editor Publisher  نفسها بـ "إنجيل صناعة الصحافة في أمريكا". قد يكون ذلك تجسيدًا لتضخمها واعتدادًا مبالغًا فيه بالذات، من قبل مجلة عريقة تأسست في القرن التاسع عشر، لكن جل الأخصائيين يشهدون بحرفيتها وسمعتها. رأت مجلة E&P، كما تسمى اختصارًا، النور في عام 1884 ولا تزال تصدر إلى اليوم. آخر إنجازاتها تمثل في تحويل أرشيفها الورقي إلى محتوى رقمي متوفر على الإنترنت، ما يسمح القيام برحلة تاريخية رائعة لتقصي مختلف مجالات حياة الأمريكيين على مدى حوالي قرن من الزمان. خطوة تندرج في إطار التحول الرقمي الذي تعيشه هذه المجلة المهتمة بكل ما يتعلق في صناعة الصحف والتوزيع، وجوائز الصحافة وحتى بفرص العمل، هذا إلى جانب دفاعها عن حرية الصحافة؛ إذ تقدم نفسها على أنها "صوت مستقل يدافع عن الحقوق التي يضمنها التعديل الأول للدستور للصحفيين في حرية التعبير وفي تبنيها لمبادئ الصحافة الاستقصائية".

 

أصبح الأرشيف الكامل للمجلة إذن متوفرًا على الموقع الأمريكي المتخصص في الأرشيف https://archive.org/ بفضل مبادرة مالكها الجديد مايك بلاندر Mike Blinder الذي قرر دعم عملية تحولها إلى العالم الرقمي عند إدارتها في عام 2019. هذه العملية، غير المكلفة ماديًا، تطلبت منه فقط تسليم ميكروفيلم يضم الأعداد الورقية للمجلة، في خطوة ذات قيمة كبرى؛ فهي تخدم جمهور القراء والتاريخ الوطني الأمريكي. خطوة ينبغي أن تستلهمها الصحف العربية التي يعيش أرشيفها الورقي، غالبًا، محفوظًا في أماكن متداعية داخل صناديق كرتونية يملؤها الغبار بعيدًا عن الفهرسة والأرشفة العصرية باستثناء بعض المبادرات المتفرقة (1).

 

لولا العلم لضاعت الصحافة

من بين الجوانب الأساسية التي يكشفها أرشيف مجلة E&P هو الارتباط العضوي والوثيق بين الجامعة والصحافة في أمريكا، ما ساهم في بروز مهنة الصحافة وتطورها. يشهد على ذلك مقال نشرته المجلة في عام 1936 حول وصية تركتها زوجة الصحفي الشهير لوسيوس ليمان Lucius Nieman، وهبت فيها جزءًا من ثروتها لإنشاء قسم متخصص في الصحافة داخل جامعة هارفارد، بهدف التكوين والتعليم لرفع مستوى الصحافة في أمريكا، بشرط أن يستفيد من التكوين الأشخاص الموهوبون والمؤهلون فعلًا في هذا المجال. 

كانت هذه المنح الجامعية تقدر آنذاك بحوالي 5000 دولار. ويعتبر هذا الجانب مهما لفهم تميز الصحافة الأمريكية بفضل الروابط البنيوية والتعليمية التي نشأت بين الصحفيين المهنيين في الميدان والتعليم الجامعي من جهة، وبين وجود روح مجتمعية قائمة على التبرع وعلى خدمة الصالح العام من جهة ثانية.  

 

التنظيم المهني للصحفيين لا يقل أهمية أيضًا عن التربية والجامعة. ومن بين الأحداث التنظيمية التي يتوقف عندها أرشيف المجلة، تأسيس أول نقابة للصحفيين بمدينة كليفلاند في عام 1923 كانت تضم 102 صحفيًا. ومن بين التعليقات الطريفة والمضيئة التي أرفقتها مجلة E&P بهذا الحدث، تعليق يتناول جدلية الانتماء والاستقلالية التي تحدد مواقع نساء ورجال الصحافة. يقول كاتب التعليق: "الصحفيون قد يتظاهرون بأنهم متطرفون وشيوعيون لكن الحقيقة أنهم يحبون أن تطلق الأوصاف والألقاب على الآخرين وليس عليهم هم، إذ إن معظم الصحفيين يحبون أن يبقوا بعيدين وعلى مسافة معينة".

 

وقد تواصلت مع مرور السنين المحطات التنظيمية للمهنة، ففي عام 1933، ودائمًا بمدينة كليفلاند، قامت جمعية للمحررين يطلق عليها Cleveland Newspaper Guild بتغيير اسمها بهدف إعطاء تنظيمها هذا طابعًا وطنيًا. وهكذا تحولت إلى ما يشبه نقطة تجميع وتقاسم للمعلومات تتكامل داخلها كل التنظيمات الوطنية لتتطور لاحقاً ويصبح لها شكل تنظيمي يسمى اليوم بـ News Guild ، وهي تكتلات لعدد من الصحفيين غرضها تفعيل ومأسسة ما يمكن تسميته بشعار "الاتحاد قوة" لأن المهنة لا يمكنها أن تتطور بدون اتحاد وبدون تضامن وتكتل لتدافع عن حقوقها.

 

"صحفيو القمامة" أو "الصحفيون المزعجون"

في تاريخ الصحافة الأمريكية، لعب الآباء المؤسسون، مثل الرئيس بينجامين فرانكلين، الذي مارس الصحافة في شبابه، أدوارًا أساسية في بناء الدولة الأمة، وكذلك في تطوير وتعزيز حرية الصحافة والتعبير. وساهمت الصحف بشكل قوي في حركة المطالبة باستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا، حيث شنت في عام 1765 حملة ضد الضريبة التي فرضها المستعمر على المطابع الأمريكية من أجل استهداف الصحف. ثم ما لبثت الحملة وأن انتقلت من صفحات الجرائد إلى الشارع، فاندلعت المظاهرات في عدة مدن. كانت هذه الأحداث بمثابة الشعلة التي ألهبت الحماس، وعززت اللحمة الوطنية التي ساهمت في التعبئة العامة والتنظيم السياسي المؤطر لمطالب الاستقلال. شكل ذلك تحولًا صحفيًا وسياسيًا ومجتمعيًا لخصه جاك أطالي بقوله: "حرية الصحافة هي السد المنيع الضامن لحرية الشعب" (2).

 

لكن هذا الارتباط التاريخي المؤسس بين الصحفيين والسياسيين لا يعني التبعية الميكانيكية؛ فقد بنت الصحافة الأمريكية تدريجيًا مكانتها كسلطة رابعة مستمدة من الدستور ومن مجتمع يقدس حرية التعبير، وسمحت هذه البيئة بتطور مهنة الصحافة واستقلاليتها. ومن تجليات ذلك، ظهور ما يسمى بتجربة "صحفيو القمامة" (Muckrackers) أو "الصحفيون المزعجون"، وهو لقب أطلق على الصحفيين والكتاب الذين اشتهروا بالتحقيق في القضايا السياسية والاقتصادية الحساسة، مثل الرشوة أو تضارب المصالح أو استغلال النفوذ. 

وقد ظهر هؤلاء "المزعجون" إبان ما يعرف بـ "العصر التقدمي" في أمريكا الممتد من عام 1890 إلى 1920. تميز هذا العصر بإصلاحات سياسية واجتماعية قطعت مع المنهج الليبرالي السائد سابقًا، ما سمح بسن تشريعات وسياسات اشتراكية تنتصر لحقوق العمال والمرأة التي حصلت لأول مرة على حق التصويت. 

ولا تزال آثار هذه المدرسة الصحفية حاضرة من خلال تقاليد التحقيق القوية في الصحافة الأمريكية. ومن بين الصحفيين الذين اشتهروا في هذا المجال إيدا ترابيل Ida Tarbel التي ألفت في عام 1904 كتابًا عن "تاريخ شركة ستاندراد للبترول" كشف عن فساد جون روكفيلي، مدير الشركة وأغنى شخصية في التاريخ الأمريكي. وتعرّف ترابل "البحث الصحفي في القمامة" كما يلي: "هو عملية الكشف عن الممارسات أو الظروف أو السياسات المعمول بها داخل المؤسسات أو في أوساط مجموعات من الناس... وطالما أن الناس يجتمعون للقيام ببعض الأمور في السر والخفاء، فستكون مهمة الصحفيين هي الكشف عنها". ومن بين الأسماء التي برزت أيضا في هذا الشأن، دافيد غراهام فيليبس الذي قام في عام 1906 بالكشف، عبر سلسلة مقالات، عن فضائح الرشوة في أوساط عدد من البرلمانيين الأمريكيين، والتي كشفت بدورها بعض الثغرات القانونية، ما أدى لاحقًا إلى تعديل الدستور الأمريكي لمحاربة هذه الظاهرة. حادثة تثبت مدى قوة وتأثير الصحافة التي يمكن أن تصل إلى درجة تغيير الواقع الدستوري والسياسي.

 

فضيحة ووترغيت.. الرمز الكبير

النموذج المؤسس والأشهر لقوة واستقلالية الصحافة الأمريكية يبقى كشف صحفيي "واشنطن بوست"، بوب وودوارد وكارل برنشتاين، تورط الرئيس ريتشارد نيكسون في عملية تجسس على مقر الحزب الديمقراطي عام 1972، ما أنهى حياة نيكسون السياسية وألزمه بالاستقالة من منصبه. وعرفانًا بهذا الإنجاز، نقلت مجلة E&P في ذلك التاريخ خبر تتويج وودوارد وبرنشتاين ورئيس التحرير باري بوسمان، بجائزة مؤسسة Drew Pearson Foundation، البالغ قدرها 6 آلاف دولار. لكن، وعلى الرغم من دور رئيس التحرير المحوري في التحقيق، إلا أن الأضواء غالبًا ما تسلط على وودوارد وبرنشتاين فقط. وساهم في ذلك الفيلم الشهير الذي تناول الفضيحة، "رجال الرئيس"، للمخرج آلان باكولا المتوج بالأوسكار، عبر تهميش دور بوسمان، لينتقده موقع "نييمان" ويعتبر أن "نسيان ذكر باري سوسمان في فيلم "رجال الرئيس" كان بمثابة جريمة في حقه" (3).  

 

ومن بين النماذج المبدعة أيضًا لصحافة التحقيق، نذكر إنجاز جريدة "نيويورك ديلي نيوز" في 2008 المغامر وغير المسبوق. قامت الجريدة بتزوير وثائق عقارية بهدف الاستيلاء على مبنى المقاطعة الملكية Empire State Building الشهير في نيويورك. ونجحت فعلًا في تزوير الوثائق والتلاعب بمصالح المحافظة العقارية بالمدينة وإقناعها بأن الجريدة أصبحت هي مالكة العمارة. لكنها عادت، بعد مرور 90 دقيقة بالتمام، إلى الاتصال بالمحافظة العقارية لتكشف لها حقيقة الخدعة، ولترد العمارة إلى أصحابها. كان الهدف يتعلق بتحدي وتنبيه الإدارة إلى مخاطر التزوير وسهولة الاستيلاء على أملاك وعقارات الناس في نيويورك. ويسلط ذلك الضوء دور الصحافة في تعزيز المواطنة وخدمة الصالح العام عبر الكشف عن الثغرات الإداراية والقانونية (4). 

 

صحافة الحرب: هيروشيما نموذجًا

تشكلت في أمريكا أيضًا معالم مجال صحفي خاص بالحرب له مبادئه وقواعده. كانت الحرب بمثابة امتحان لروح الوطنية من جهة، ومحكمًا لمدى التزام الصحافة بأدوارها في إخبار المواطنين وإطلاعهم على المجريات من جهة أخرى، في ظل ضغوطات ومتطلبات الحفاظ على الأمن القومي. ومثل غالبية البلدان، توجد في الولايات المتحدة جريدة خاصة بالجيش تسمى Stars and Stripes إلا أن تجربتها لها مسار خاص. صدر أول عدد منها في عام 1861 إبان الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وعاشت بعدها عدة تحولات أبرزها التركيز على مخاطبة الجنود الأمريكيين المنتشرين حول العالم والصدور على شكل نشرات خاصة بكل منطقة يوجد فيها هؤلاء الجنود كنشرة أوروبا أو نشرة الشرق الأوسط وغيرها. وفي عام 1919، توقفت المجلة مؤقتًا مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم استأنفت الصدور إلى اليوم على شكل جريدة ورقية وإلكترونية. المجلة تتمتع باستقلالية فريدة من خلال عملها تحت إشراف كل من البرلمان ووزارة الدفاع، إذ برز فيها صحفيون كبار وكتاب من بينهم هارولد روس، مؤسس مجلة "النيويوركر" المعروفة، والناقد الدرامي الشهير ألكسندر وولكوت.

لا شك أن الحرب تطرح معضلة أخلاقية ومهنية على الصحفيين تتمثل في قول حقيقة الحرب وأهوالها. ومما له دلالته في هذا الصدد، تعاطي الصحافة مع قنبلة هيروشيما. فبعد أيام على إطلاق الأمريكيين القنبلة على اليابان، سافر إليها الصحفي جون هيرسي من مجلة "النيويوركر" وأعد استطلاعًا تضمن حوارات مع 6 يابانيين ناجين من المجزرة، لتنشره المجلة في عدد كامل مخصص لهذا الحدث المأساوي. بعد عام، صدر هذا الريبوتاج في كتاب بعنوان "هيروشيما". وهكذا نال هيرسي شهرة عالمية واختير عمله كأفضل ريبورتاج في القرن العشرين. 

 

ولتعميم الحقائق الفظيعة التي كشف عنها الكتاب، سمحت المجلة، في 7 أيلول/سبتمبر من عام 1946، لجميع الجرائد الأخرى بإعادة نشره بالمجان، وهو مؤشر يدل على قيم الصحافة غير المبنية على الربح، وإنما على كشف الحقيقة أمام المواطنين. إذنُ المجلة بإعادة نشر الكتاب مجانًا بني على شرطين، أولهما أن ينشر الكتاب كاملًا بما يضمه من 30 ألف كلمة ومنع اقتطاع أجزاء منه أو تلخيصها، والآخر أن تذهب مداخيل هذا النشر إلى الصليب الأحمر الأمريكي لمساعدة الضحايا. وبالفعل، تم نشر الكتاب على نطاق واسع دون أي رقابة، وبفضله استطاع الأمريكيون والعالم أجمع التعرف على العواقب الإنسانية المهولة التي خلفتها القنبلة. 

 

إلى جانب صحفيي الحروب، ظهرت روح المغامرة لدى آخرين في ما يعرف بظاهرة "الصحفيين المتجولين عبر العالم"، والذين كانوا يراسلون عدة صحف في نفس الوقت. ومن بين هؤلاء هانتر طومسون، الذي كان يعمل مراسلًا صحفيًا حرًّا داخل بلاده أمريكا، ثم أصبح مراسلًا لعدد من الصحف الأمريكية خلال جولاته عبر أمريكا اللاتينية ابتداء من سنة 1962. والملاحظ هنا أن غالبية هؤلاء الصحفيين يصبحون كُتابًا أو يصدرون كتبًا بعد تخصصهم في مجال معين، الأمر الذي ساهم في تطوير تقنيات الكتابة وتجدديها. ويعتبر جون هيرسي من رواد ما يسمى بـ "الصحافة الجديدة" التي تستعمل تقنيات السرد القصصي والروائي عند كتابة الريبورتاجات الإخبارية.

 

 

 

العنصرية في الصحافة الأمريكية

تقول المفكرة الأمريكية ذات الأصل الألماني حنة آرندت، والتي كتبت في مجلات شهيرة مثل "النيويوركر"وأقامت في أمريكا وتعمقت في فهم بنيات اشتغال المجتمع، إن "التناقض الرئيسي في هذا البلد هو وجود حرية سياسية مقترنة بالعبودية الاجتماعية" (5).  

هذا العمق العنصري للمجتمع الأمريكي كان له تأثير واضح على مسارات الصحافة. فقد كان عدد من الصحفيين، خاصة في جنوب البلاد المعروف تاريخيًا بعنصريته التي كانت أحد أسباب اندلاع الحرب الأهلية، يتبنون بشكل علني وجهات نظر عنصرية في ستينات القرن الماضي. لدرجة أنهم كانوا ينتقدون حركة الحقوق المدنية للمطالبة بالمساواة للسود. من بين هؤلاء الصحفيين جيمس كيلباتريك، الذي كان يقول علانية إن "الجنس الأسود هو عرق أدنى وليس له مساهمة في الحضارة الغربية". بل إنه كان يعارض المساواة حتى في التعليم بين السود والبيض. وهي مواقف لا نزال نجد بعض أصدائها اليوم وسط أتباع اليمين المحافظ.

وردًا على الحركات العنصرية، تأسست أول جمعية للصحفيين السود في عام 1967، تحت اسم "آفاق سوداء "Black Perspective" بهدف تحسين صورة السود في الحياة الأمريكية". ومن بين الصحفيين المؤسسين لها إيد رادلي وبوبي ماينار.

الصحافة لعبت كذلك أدوارًا مهمة في دعم نضالات زعيم حركة الحقوق المدنية القس الشهير مارتن لوثر كينغ. ومن بين المبادرات التضامنية، يذكر التاريخ قيام الصحفي واين ماكوري، مدير جريدة بمدينة مونتغومري، بحملة لجمع الأموال من قراء جريدته لأداء مصاريف الدفاع عن لوثر كينغ خلال محاكمته بتهمة تنظيم حملة لمقاطعة الحافلات بالمدينة احتجاجًا على التمييز ضد السود. وقد وجه القس الشهير لاحقًا رسالة شكر لهذا الصحفي جاء فيها: "إن روح شجاعتكم تعطي أملًا جديدًا لأولئك الذين أجبرتهم الضرورة الطائفية على المعاناة من التفرقة والتمييز". وعرفانًا بمواقف ماكوري، أطلق اسمه على كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة مونماونت Monmouth University بولاية نيو جيرسي.

 

بين الحقيقة والأخبار الزائفة 

إشكالية الكذب والحقيقة ومصداقية الصحافة كانت دائمًا حاضرة في تاريخ الصحف الأمريكية عبر العديد من المحطات. بمعنى أنها ليست إشكالية جديدة تعززت اليوم مظاهرها نتيجة موجات الشعبوية السياسية التي اجتاحت العالم، مدفوعة بسلبيات وسائل التواصل الاجتماعي، وبتحريك من قادة سياسيين ركبوا هذه الموجة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 أو في الاستفتاء على البريكسيت في بريطانيا. 

فعلى الرغم من مراكمتها لإنجازات مهمة ولبناء طويل النفس للمصداقية، فإن صراع الصحافة الأمريكية مع الأخبار الزائفة كان حاضرًا دائمًا، كما هو الحال في الصحف حول العالم عمومًا. ويكشف الأرشيف أنه في عام 1981 مثلًا، استطاعت صحفية تدعى جانيت كوك أن تخترع قصة مقال كاذب بالكامل بعنوان "عالم جيمي" Jimmy’s World تحكي فيه بلمسة إنسانية خادعة عن طفل متشرد في الثامنة يتعاطى المخدرات. وقد صدقتها "الواشنطن بوست" ونشرت القصة، بل إن الأمر انطلى حتى على لجنة جائزة "بوليتزر" الشهيرة التي منحت صاحبتها الجائزة تلك السنة. شكلت هذه الحادثة ضربة موجعة لمصداقية الصحافة، ما جعل توم وينشيب رئيس تحرير جريدة "بوسطن غلوب" يكتب: "إن مسألة عدم وضع الثقة في الصحافة هي مسألة أزلية، وثقة الرأي العام في الصحافة اليوم متدنية". 

ومن بين آخر الخلاصات التي يمكن الخروج بها من هذه الجولة في أرشيفEditor Publisher أن الصحافة في أمريكا مرتبطة أشد الارتباط بالعائلات. فالعديد من الصحف الكبرى ملك عائلات أسستها وتوارثتها عبر الأجيال حتى اليوم، كما هو الحال مع "الواشنطن بوست" أو "النيويورك تايمز" وغيرهما. وهي ظاهرة بنيوية تفسر، جزئيًا، استمرارية الصحف واستقلاليتها. 

وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى تجربة كاتارين غراهام التي تولت مسؤولية جريدة "الواشنطن بوست" بعد انتحار زوجها. واستطاعت، كما كشف فيلم ستيفن سبيلبرغ، "أوراق بنما" Panama Papers، رغم ضغط السلطة ووزارة الدفاع خلال حرب فييتنام، أن تطور الجريدة وتجعلها من أقوى المنابر في أمريكا والعالم. وقد سبق لكاترين غراهام في عام 1961، وبمناسبة مرور 100 سنة على ملكية عائلتها لهذه الجريدة، مدح نظام الملكية والثناء على نجاعته قائلة: "قد تكون العائلات هي أسوأ أشكال ملكية الصحف باستثناء جميع الأشكال الأخرى التي تم تجريبها". تستعير غراهام  في هذه الجملة مقولة رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل الشهيرة عن الديمقراطية بأنها "أقل الأنظمة سوءًا". ولعل استلهام الفكر السياسي لوينستون تشرشل مؤشر دال على أهمية البيئة السياسية بالنسبة لأي تطور أو ازدهار للصحافة. إذ بدون حرية وديمقراطية لا يمكن للسلطة الرابعة أن تنشأ وتعيش وتزدهر.

 

 

مراجع:

 

  1. انظر موقع https://ijnet.org/ar الذي يقدم أرشيف بعض الصحف العربية.

  2. جاك أطالي "تاريخ وسائل الأعلام. من الإشارات الدخانية إلى شبكات التواصل وما بعدها"، منشورات فايار، نسخة رقمية، 2021. ص 100).

  3. رابط المقال: 

https://www.niemanlab.org/2021/02/thanks-to-the-internet-archive-the-hi…

  1. رابط المقال:

https://www.batiactu.com/edito/empire-state-building-vole-par-un-quotidien-new-yorkais-21769.php

  1. مجلة لوبوان الفرنسية. عدد خاص عن المفكرة آنة أرندت. سلسلة "كبار المفكرين" عدد 29 ص 22.

More Articles

Anas Al-Sharif’s Killing and the Israeli Media Narrative

Following the assassination of journalist Anas Al-Sharif, Palestinian journalists have been framed in Israeli media as legitimate military targets—part of a deliberate strategy to silence those who bear witness to the truth. This article explores how Hebrew-language media outlets have engaged in rhetoric that incites and legitimises the killing of journalists in Gaza.

Anas Abu Arqoub
Anas Abu Arqoub Published on: 19 Aug, 2025
New Media Reforms in Bangladesh Introduced to Replace Hasina-Era Journalism

Bangladesh’s interim government, led by Muhammad Yunus, has launched ambitious media reforms to undo the legacy of Sheikh Hasina’s 15-year rule, which was marked by censorship, media monopolies, and the notorious Digital Security Act. However, despite promises of greater freedom, journalists remain wary, as self-censorship, restrictive laws, and public scepticism continue to cast doubt on genuine change.

Sumaiya Ali
Sumaiya Ali Published on: 17 Aug, 2025
Monitoring of Journalistic Malpractices in Gaza Coverage

On this page, the editorial team of the Al Jazeera Journalism Review will collect news published by media institutions about the current war on Gaza that involves disinformation, bias, or professional journalistic standards and its code of ethics.

A picture of the Al Jazeera Media Institute's logo, on a white background.
Al Jazeera Journalism Review Published on: 11 Aug, 2025
The Washington Post: When Language Becomes a Veil for Pro-Israel Bias

How did The Washington Post's coverage differ between Israel’s bombing of Gaza hospitals and Iran’s strike on an Israeli hospital? Why does the paper attempt to frame Palestinian victims within a “complex operational context”? And when does language become a tool of bias toward the Israeli narrative?

Said Al-Azri
Said Al-Azri Published on: 6 Aug, 2025
The Human Story in Gaza: The Deadly Dilemma of “Who Do We Tell About?”

In the accelerating context of genocide, is the “pace” of death in Gaza outstripping journalists’ ability to capture human stories? How can they be expected to take their time crafting narratives amid hunger, displacement, and death? And to what extent can postwar documentation hold journalistic value in preserving collective memory and pursuing accountability for the perpetrators?

Mirvat Ouf
Mirvat Ouf Published on: 3 Aug, 2025
The Battle to Keep Journalists Alive in Gaza

Hungry journalists covering the story of starvation in Gaza, surviving on salt to stay alive, selling their work equipment to secure a “sack of flour” for their children, shedding the “shame” of publicly asking for food, and enduring the harshest media environment just to maintain “continuous coverage”.

Mona Khodor
Mona Khodor Published on: 26 Jul, 2025
Balancing Productivity and Privacy: How Female Journalists Use AI Chatbots

Female journalists in Jordan are harnessing AI chatbots to boost productivity, enhance digital safety, and find emotional support, but their growing reliance also raises critical concerns about privacy, ethics, and the responsible use of emerging technologies in journalism. This article explores how these tools are reshaping their workflows while navigating the challenges of trust and accountability.

Afnan Abu Yahia
Afnan Abu Yahia Published on: 20 Jul, 2025
From "Death Announcement" to "Eulogy": The Obituary as a Journalistic Genre

Obituaries for influential public figures have become a recognised journalistic genre, handled by seasoned reporters in major media outlets. How did this practice evolve, what defines it professionally, and how ethically acceptable is writing obituaries in advance?

Mahfoud G. Fadili
Mahfoud G. Fadili Published on: 17 Jul, 2025
Canadian Mainstream Media’s Orientalist Stance Towards Palestinians

Canadian mainstream media manufactures consent to support Israel through biased language, withholding historical context, and conflating any criticism of the Israeli state with antisemitism. When the Canadian mainstream media covers the question of Palestine, they usually frame it as a religious issue and withhold the historical and socio-political context.

Sarah Samuel
Sarah Samuel Published on: 14 Jul, 2025
Bias by Omission: How Israeli Occupation Crimes Are Filtered in Western Media

Western media coverage of the war on Gaza does not stop at bias in what it chooses to publish; it practices a deeper form of bias: bias by omission. Testimonies are excluded, massacres are marginalized, and the narrative is reshaped to serve a single version of events. This analysis explores how “gatekeepers” in Western newsrooms play a direct role in silencing the Palestinian voice and entrenching the Israeli narrative.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 11 Jul, 2025
From Rwanda to Palestine: How Media Becomes a Partner in Genocide

July 4 each year coincides with Liberation Day in Rwanda, which marks the end of the genocidal war against the Tutsi. This article explains the reasons behind the media’s neglect of the genocide and how the press failed to help prevent it. It also offers a critical perspective on how the same practices are being reproduced in coverage of the genocidal war on Palestine.

Mohammed Ahddad
Ahdad Mohamed Published on: 5 Jul, 2025
How Much AI is Too Much AI for Ethical Journalism

As artificial intelligence transforms newsrooms across South Asia, journalists grapple with the fine line between enhancement and dependency

Saurabh Sharma
Saurabh Sharma Published on: 1 Jul, 2025
How to Tell the Stories of Gaza’s Children

Where does compassion end and journalism begin? How can one engage with children ethically, and is it even morally acceptable to conduct interviews with them? Palestinian journalist Reem Al-Qatawy offers a profoundly different approach to human-interest reporting. At the Hope Institute in Gaza, she met children enduring the harrowing aftermath of losing their families. Her experience was marked by intense professional and ethical challenges.

Rima Al-Qatawi
Rima Al-Qatawi Published on: 26 Jun, 2025
How Is Western Media Framing the Famine Catastrophe in the Gaza Strip?

Can the media subject the issue of famine in Palestine to so-called professional balance even after UN agencies and the International Court of Justice have acknowledged it? Why have many Western media outlets avoided precise legal and ethical terms such as “famine” or “starvation,” opting instead for vague expressions like “food shortage” or “nutrition crisis”? Doesn’t this practice reflect a clear bias in favor of the Israeli narrative and serve to justify the policy of “systematic starvation”?

Fidaa Al-Qudra
Fidaa Al-Qudra Published on: 23 Jun, 2025
Do Foreign Journalists Matter in Covering Genocide? A Look into Bosnia, Rwanda, and Gaza

How did foreign journalists cover the killings in both Bosnia-Herzegovina and Rwanda? Did they contribute to conveying the truth and making an impact? Would the entry of foreign journalists into the Gaza Strip change the reality of the ongoing genocide? And would their coverage of the famine and massacres add to the daily coverage of local journalists? Why is the local press's coverage of wars seen as deficient compared to Western journalism, even though they incur greater losses and casualties?

Saber Halima
Saber Halima Published on: 20 Jun, 2025
Newspapers: An Industry Adapting to Survive Through Digital Transformation

As digital transformation reshapes the media landscape, newspapers in Cameroon are navigating unprecedented challenges and opportunities. This evolution compels them to adapt their strategies to engage a new generation of readers amidst fierce online competition, decreasing government subsidies, and a decline in print sales.

Akem
Akem Nkwain Published on: 16 Jun, 2025
The Mental Toll on India’s Minority-Focused Freelance Journalists

Freelance journalists in India, particularly those reporting on marginalised communities and conflict zones like Kashmir, endure immense emotional and psychological strain, often without any institutional support. What are the hidden costs of reporting on violence, where telling the truth can come at a steep personal price?

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar Published on: 10 Jun, 2025
The Role of Social Science Tools in Enhancing Journalism

When French sociologist Pierre Bourdieu was asked about the contribution of the suburbs to elections, he replied that decades of colonialism and complex problems cannot be summarised in 10 minutes. The value of social sciences in supporting journalism is demonstrated when they address issues of society, power, and identity for the sake of better journalism.

Rehab Zaheri
Rehab Zaheri Published on: 6 Jun, 2025
Journalism Colleges in Somalia: A Battle for Survival

Journalism colleges in Somalia are struggling to survive due to outdated curricula, lack of practical training, insufficient funding, and a shortage of qualified educators, leading to declining student enrollment and interest. Despite efforts by institutions like Mogadishu University and Hormuud University to revive journalism education, these challenges persist, threatening the future of journalism in the country.

Al-Shafi Abtidon
Al-Shafi Abtidon Published on: 30 May, 2025
Philippine Activists Fight Archive Erasure and Revive Dictatorship-Era Memories

In the Philippines, archivists fight to preserve evidence of the country’s bloodied past, in hope that it will provide lessons for the future.

Tristan James Biglete
Tristan James Biglete Published on: 27 May, 2025
News Fatigue and Avoidance: How Media Overload is Reshaping Audience Engagement

A study conducted on 12,000 American adults revealed that two-thirds feel “exhausted” by the overwhelming volume of news they receive. Why is the public feeling drained by the news? Are audiences actively avoiding it, and at what psychological cost? Most importantly, how can the media rebuild trust and reconnect with its audience?

Othman Kabashi
Othman Kabashi Published on: 25 May, 2025
Journalism Associations' Fragmentation Weakening Press Freedom in Cameroon

Cameroon's fragmented media landscape has weakened collective advocacy, allowing government repression of journalists to go largely unchallenged. As press freedom declines, voices like Samuel Wazizi's are silenced, while disunity among journalists enables impunity to thrive.

Njodzeka Danhatu
Njodzeka Danhatu Published on: 20 May, 2025
Weaponized Artificial Intelligence: The Unseen Threat to Fact-Checking

How has artificial intelligence emerged as a powerful tool during wartime, and what strategies are fact-checkers adopting to confront this disruptive force in newsrooms? The work of fact-checkers has grown significantly more challenging during the genocide in Palestine, as the Israeli occupation has relied heavily on artificial intelligence to disseminate misinformation.

Ahmad Al-Arja
Ahmad Al-Arja Published on: 18 May, 2025
Indian Media Fuels Panic with Disinformation

Amid heightened India-Pakistan tensions in early May, Indian mainstream media flooded the public with fake news, doctored visuals, and sensationalist coverage, fueling mass anxiety and misinformation. Fact-checkers and experts condemned the media’s role, calling it a national embarrassment that undermined journalistic integrity and misled citizens during a critical geopolitical moment.

Junaid Kathju
Junaid Kathju Published on: 15 May, 2025