"يقولون إنك لن تحصل مستقبلا على أي وظيفة في الإعلام إذا لم تكف عن إزعاجهم. أنصحك بأن تأخذ هذا التهديد على محمل الجد، فلديهم علاقات قوية مع صناع القرار في أهم المؤسسات الإعلامية في البلاد".
هذه البداية ليست اقتباسًا من فيلم تشويق، وإنما نصيحة وجهتها لي زميلة بعد أن سمعت مديرها يتكلم في الموضوع. قد يتبادر إلى ذهن من يقرأ هذه السطور أن هذا المشهد لا يستحق الذكر بهذا التوكيد، لأنه أمر مبتذل ومألوف لدى ممتهني الصحافة في العالم العربي.
كنت سأوافق على هذا الاعتراض، لولا أن مسرح هذا الموقف هو مؤسسة إعلامية ألمانية موقرة، تمنح سنويًا جائزة حرية التعبير لمن تراه يناضل بشجاعة من أجل رفع قيم حرية الرأي والصحافة عبر العالم.
هل يعقل أن يحصل هذا في ألمانيا، إحدى واحات الحرية والديمقراطية، التي تحتل الرتبة الثالثة عشرة حسب مؤشر حرية الصحافة لمنظمة "صحفيون بلا حدود" في بلاد يتبجح سياسيوها في الداخل وأثناء زياراتهم للدول الأخرى بالمكانة العالية التي تحتلها حرية الصحافة في سلم القيم السائدة لديهم؟
قبل أن أجيب على هذا السؤال، يجب أن أوضح نوعية "الإزعاج" الذي اتهمت بارتكابه.
عندما بدأت دراسة الصحافة قبل أزيد من عقد من الزمن في أكاديمية المؤسسة، كنت ضمن أول جيل من الصحفيين ذوي الأصول غير الألمانية الذين تجرأوا على رفع أصواتهم للمطالبة بالمساواة. اشتكينا من رداءة دروسنا مقارنة مع الطلبة الألمان، وعبرنا عن احتجاجنا على تخصيص درس إجباري لنا نحن الأجانب حصرًا لنُلقَّن فيه قواعد السلوك واللياقة في التعامل والأكل والمناسبات الاجتماعية. وعندما حاولت الإدارة تخويفنا عبر تمديد الفترة التجريبية في عقد عملنا بنصف عام إضافي، وهو ما كان سيسمح لها بطردنا دون الحاجة لمسوغ قانوني، باءت هذه المحاولة بالفشل بعد إقحامنا للنقابة في الصراع.
يحضرني الآن موقف من تلك المرحلة، وهو ما قاله لنا مسؤول في المؤسسة عن أننا يفترض أن نكون ممتنين لألمانيا وللمؤسسة التي تُدربنا لنكون صحفيين ونعيش حياة كريمة هنا، بينما يُسجن ويقتل الصحفيون في البلدان التي ننحدر منها.
حرية صحافة "على المقاس"
الواقع أن "الإزعاج" الحقيقي سيبدأ في وقت لاحق. بعد إنهاء الدراسة والانتقال للعمل مع المؤسسة ذاتها، كنت أنا وآخرون من جيلي "المزعج" نلاحظ الكثير من الخروقات المهنية، وصرنا نحتج على التلاعب في الخط التحريري والانتهاكات في التعامل مع الصحفيين كسوء استغلال السلطة والمحسوبية وغيرها. صورة مناقضة تمامًا لتلك التي قد يرسمها العرب عمومًا عن مؤسسة إعلامية ألمانية، أليس كذلك؟
أذكر هنا -على سبيل المثال لا الحصر- فرض مقص الرقابة ابتداءً من العام 2017 على وصف ما قام به قائد الجيش المصري عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي بالانقلاب العسكري. وفي السياق المصري دائمًا أستحضر مثالًا آخر، وهو منع إجراء مقابلة مع أي صوت مصري معارض ينتقد نظام السيسي بعد مقتل عشرات الأقباط جراء اعتداء مسلح على كنيستين في السنة نفسها. وهنا لا يصلح المثل الشائع "إذا ظهر السبب بطل العجب"، فالسبب وراء هذه الانتهاكات الصارخة للخط التحريري ليس سوى زيارة رسمية مرتقبة لمدير المؤسسة لمصر، سيتباحث فيها مع مسؤولين مصريين سبل إحياء الشراكة الإعلامية بين الجانبين.
هذا اللهاث وراء التطبيع مع النظام المصري بأي ثمن، وضعنا في موقف أشبه بمسرحية عبثية، فالمقالات والتقارير التلفزيونية بنسختيها العربية تتحدث بدون حرج عن انقلابات مالي وتايلاند وزيمبابوي ومحاولة انقلاب في تركيا وتسميها بمسماها الحقيقي الدقيق، في حين يُسقط المدقق أو بالأحرى "الرقيب" العربي في كل مرة كلمة انقلاب السيسي على مرسي. وهكذا، أصبح الوضع كالتالي: مقالاتي التي أكتبها في الموضوع وتنشر باسمي وصورتي تذكر بوضوح الانقلاب الدموي في مصر في جميع اللغات التي تترجم إليها، تماشيًا مع أدبيات بقية الأقسام في المؤسسة بتسمية الانقلابات العسكرية كذلك. أما في النسخة العربية فتختفي كلمة "انقلاب" المزعجة بفعل فاعل لتحل محلها عبارة "عزل" مرسي أو "الإطاحة" بمرسي في محاولة تثير السخرية المهنية من طرف المسؤولين لتفادي الكلمة المحظورة وطلب ود النظام المصري.
من سخرية الأقدار أني اخترت امتهان الصحافة في بلد كألمانيا وبالعربية تحديدًا على أمل الاستفادة من ثقافة حرية الصحافة هنا لتقديم قيمة مضافة للجمهور في العالم العربي. وفي نهاية المطاف وجدتني أمام رقابة من نوع آخر. بقي هذا السؤال يطرح نفسه: لماذا هذا التعامل المختلف مع القسم العربي خصيصًا؟
الجواب واضح. مدير المؤسسة الألماني ما كان ليتجرأ على تقييد حرية الصحافة بهذا الشكل الصارخ في أقسام لا يُنظر إلى موظفيها وإلى عملهم بنظرة دونية، كالقسمين الألماني والإنجليزي مثلًا، لأنه يدرك حجم التداعيات التي سيجرها عليه ذلك.
إضافة إلى هذه الرقابة التقليدية الخشنة التي تنحصر إجمالًا في حالات معدودة، توجد رقابة أكثر تفشيًا وهي كذلك أكثر سلاسة ونعومة. أذكر هنا مثال مقترح تقدمت به لإنجاز ربورتاج عن امرأة محجبة أجبرها أربعة رجال شرطة فرنسيين مسلحين على خلع جزء من ملابسها في شاطئ مدينة نيس جنوب فرنسا. كنت قد تمكنت من الوصول إلى محيط المرأة المعنية. لكن ومع كل الجدل الذي أثارته الواقعة، حينها، في فرنسا والعالم، وذلك بعد وقت وجيز من هجمات نيس، رفضت مسؤولة التخطيط الألمانية المقترح بحجة أن "الحجاب مشكلة... وإذا لم نضع للمسلمين حدًا فسيمنعوننا قريبًا من ارتداء البيكيني في مسابحنا". هكذا ردت أمام الحاضرين، ومر هذا الكلام مرور الكرام.
نفس النقاشات المتعبة كنت أخوضها في مرات كثيرة لأقنع المسؤولين الألمان الذين ينفردون باتخاذ القرار، حتى يكلفوني بإنجاز مواضيع تهم جزءًا كبيرًا من الجمهور المستهدف وتكون النتيجة مخيبة للآمال. أذكر هنا أيضًا مبادرتي لتغطية مباراة في الدوري الألماني من الدرجة الثالثة تجمع بين فريقين متناقضين للغاية وسط احتقان سياسي كبير وقتها: فريق من العاصمة برلين يتكون من مهاجرين، وفريق من مدينة كمنيتس في ولاية سكسونيا التي تحولت، وقتها، إلى رمز للانفلات الأمني، وشهدت مطاردات من قبل يمينيين متطرفين لمهاجرين في وضح النهار. من المعروف أن النادي الألماني مشهور بتطرف أنصاره وأذكر أن نادي العاصمة برلين كان خائفًا من خوض المباراة في معقل اليمين المتطرف، لدرجة أن الأمر اقتضى حضور رئيس حكومة الولاية شخصيًا للمباراة كإشارة سياسية رمزية لرفض العنصرية.
كل ذلك لم يكن كافيا ليتحمس المسؤولون الألمان لمقترحي بإنجاز ربورتاج مطول حول الموضوع. رفضوه بحجة أنه ليس حدثًا مهمًا. وبعد مفاوضات عسيرة وافقوا على تكليفي بإنجاز تقرير إخباري نجحت في الحصول فيه على تصريح مهم لرئيس حكومة الولاية، لأتفاجأ في نهاية المطاف بعدم بث التقرير بمبرر أنه "سقط سهوًا" من النشرة.
بعد عدة تجارب شخصية توصلت إلى الخلاصة التالية: كلما تعلق الأمر بمواضيع شائكة كالإسلام والعنصرية تتزايد العراقيل بسبب خوف المسؤولين من أن يأتي هذا الصحفي الأجنبي بزاوية معالجة مخالفة للصور النمطية التي تعودوا عليها، ويفقدوا بالتالي سيطرتهم على السرديات.
تنوع بالشعارات فقط
عندما وصلت رياح حملة "مي تو Me too" العالمية للمؤسسة وفضحت المزيد من الانتهاكات داخلها كالتحرش الجنسي وحتى الاغتصاب، تحول الأمر إلى فضيحة مدوية تناقلتها وسائل إعلام ألمانية ودولية مرموقة. وعندما حشدت الإدارة داعميها، خاصة من الألمان "البيض"، لتكذيب الاتهامات الخطيرة الموجهة للمؤسسة في الإعلام من قبيل العنصرية وسوء استغلال السلطة والتحرش الجنسي، أطلقت مجموعة من أقسام اللغات الأجنبية داخل المؤسسة عريضة احتجاجية وقعها أزيد من 350 موظفًا وموظفة، تؤكد صحة الاتهامات وتطالب بفتح تحقيق خارجي مستقل وإصلاحات جذرية. تعامل المؤسسة مع الفضيحة جاء بسقطة أخرى تمثلت في إخراس الأصوات الناقدة (جميعها من أصول أجنبية) وتخوينها ومحاولة تشويهها، تمامًا كما يحدث للمعارضين في الأنظمة الشمولية، طبعًا مع بعض الإصلاحات التجميلية كتبني ميثاق عمل جديد وانتهاج سياسة تدعم التنوع وسط الموظفين.
إنه تنوع لا يعدو أن يكون رمزيًا هدفه تسجيل بعض النقاط لتستطيع المؤسسة الترويج لنفسها على أنها متعددة الثقافات. وهذا ما ينطبق أيضًا على سائر المؤسسات الإعلامية في البلاد، والتي صارت تتباهى بتنوع ألوان موظفيها وتضع أشخاصًا داكني الشعر أو سمر البشرة في الواجهة، بينما في الواقع لا تزال صناعة القرارات منحصرة في يد ثلة من الألمان البيض.
هذا الكلام تدعمه الأرقام، فرغم أن ألمانيا بلد يشكل المهاجرون فيه أكثر من ربع السكان، إلا أن أكثر من 90% من الفاعلين في المجال الصحفي بألمانيا من الألمان البيض الأصليين. ينتمي تقريبًا جميعهم للطبقة المتوسطة الأكاديمية التي تنعم بامتيازات مادية ومعنوية كبيرة. وإذا ما نظرنا إلى فئة المسؤولين وأصحاب القرار ترتفع النسبة أكثر لتراوح 95%.
معنى هذا الكلام أن المشهد الإعلامي بكل ما يلعبه من دور حيوي بالنسبة للمجتمع ككل، تحتكره نخبة ليست لديها الخبرة والدربة الكافيتان لإدراك اهتمامات شريحة المهاجرين التي تعيش واقعًا مختلفًا عن واقعهم ونمط حياتهم. ونتيجة ذلك أن الإعلام الألماني يفقد المزيد من المتابعين ليس فقط في إطار تراجع دور الإعلام التقليدي ولكن بسبب تجاهله لجمهور فئة المهاجرين التي تتزايد في المجتمع.
ولعل أكثر مشهد يجسد حاليًا هذه الفجوة الحاصلة في الإعلام الألماني هو حلقة من برنامج حواري استأثرت مؤخرًا باهتمام الرأي العام. البرنامج بثته قناة تابعة للتلفزيون العمومي وشارك فيه أربعة مشاهير ألمان بيض تبادلوا الحديث بشكل ساخر عن مواضيع تتعلق بالعنصرية في ألمانيا. وقد أجمع الضيوف على أن تسمية صلصة تقليدية ألمانية بأنها "صلصة غجرية" أمر لا حرج فيه. ويعلم القاصي والداني في ألمانيا أن كلمة "غجري" بالألمانية تحمل مدلولًا عنصريًا قدحيًا للغاية تجاه عرقي السنتي والروما.
وأنا أتابع مقتطفات من هذا البرنامج، أول ما خطر في بالي هو هذا السؤال: هل كان لكارثة كهذه أن تحصل لو أن من بين المشرفين على البرنامج أشخاص عاشوا بأنفسهم ألم التمييز العنصري وينتمون لأقلية مهمشة كالسينتي والروما مثلا؟
أمام هذا الوضع، ارتأت مجموعة ضغط تدافع عن مصالح ذوي الأصول المهاجرة في الإعلام الألماني وتدعى "صناع الإعلام الألمان الجدد"، أن الحل هو التزام المؤسسات الإعلامية برفع تمثيلية المهاجرين في الإعلام إلى نسبة تعادل نسبتهم داخل المجتمع وهي 30%، وهو ما ترفضه المؤسسات الإعلامية الألمانية حتى الآن بما فيها العمومية.
هل يمكن القول إن التغيير مستحيل؟ لا، بل أرى أنه بات قريبًا في السنوات الأخيرة أكثر من أي وقت مضى. والشرط لتحقيق ذلك هو أن تواصل الأجيال الحالية والقادمة من الإعلاميين المهاجرين الضغط في اتجاه فرض تنوع حقيقي ومساواة في إعلام البلاد. فالجيل الذي أنتمي إليه فتح هذا النقاش وقدم تضحيات كبيرة في هذا الصدد، حيث تولد وعي بهذه المشكلة وهو ما قد يسهل على المهتمين من العالم العربي بالعمل في مجال الإعلام في بلدان كألمانيا مستقبلًا. وثمة شرط آخر كي يتحول هذا الوعي إلى أفق للتغير، هو أن تدرك الأجيال الحالية أن أن الحق في المساهمة يُنتزع ولا يعطى حتى في الدول الديمقراطية، وأن لا ينخدعوا بالمظاهر وشعارات الديمقراطية والحرية البراقة من بعيد.