التنظيم الذاتي للصحفيين في تونس.. دفاعا عن الحرية

التنظيم الذاتي للصحفيين في تونس.. دفاعا عن الحرية

إشاعات من كل حدب وصوب تسري كالنار في الهشيم، أخبار خطيرة متخفية خلف مصادر مجهولة تذاع في وسائل الإعلام، شحّ في المصادر والمعلومات الرسميّة بسبب احتجاب المسؤولين عن الإعلام وارتباك في السياسات الاتصالية للدولة، غياب لخطّة اتصالية واضحة المعالم في مستوى خطورة الأزمة، حملات تهديد واستهداف للصحفيين ولبعض وسائل الإعلام المحليّة وحتّى الدوليّة،  طالت مكتب قناة الجزيرة التي تعمل في البلاد منذ سنوات، ومخاوف جديّة من إمكانية حصول عملية انقضاض على مكتسبات دستور الثورة لاسيما في مجال حرية التعبير والصحافة.

هكذا بدا المشهد الإعلامي في تونس خلال الأيام الماضية، قبيل وغداة إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن جملة من القرارات التي أدخلت البلاد في دوامة جدل دستوري وسياسي جعل بعض المنتقدين يذهب إلى حدّ وصف ما حدث بـ "الانقلاب" على المسار الديمقراطي.

لقد أعاد هذا الوضع الجديد في تونس إلى الواجهة نقاشا محتدما حول معايير مهنة الصحافة وضوابط حرية التعبير والصحافة من منظور دور آليات التعديل الذاتي في زمن الأزمات التزاما بمبادئ المسؤولية الاجتماعية. ودار نقاش مستفيض عجّل بإعادة النظر في دور وسائل الإعلام وهياكل المهنة في الدفاع عن قيم النزاهة والدقّة والموضوعية ضمن التغطيات الإخبارية والسياسات التحريرية في ظلّ مظاهر الاصطفاف والتلاعب بالرأي العام وتهديد حرّية الصحافة من بوابة التوجيه والانحياز للرواية الواحدة.

 

صحافة تحت القصف

لا نبالغ في القول حينما نجزم بأنّ المناخ العام الذي تشتغل فيه وسائل الإعلام في تونس منذ الأيام القليلة الماضية هو الأخطر منذ الثورة.  هذا المناخ مرتبط، بلا شك، بالأزمة السياسية الخانقة التي تصاعدت وتيرتها بعد قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد بتجميد صلاحيات مجلس نواب الشعب، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه، ورفع الحصانة عن جميع البرلمانيين المنتخبين، وذلك في إطار قراءة للدستور يرى أنّها ترتكز على تفعيل الفصل 80 لمدّة 30 يوما، ضمن تدابير قال إنها استثنائية لحماية الدولة من شبح الانهيار والفوضى وتجنيب المجتمع خطر الاقتتال الأهلي.

قراءة الرئيس سعيّد للفصل 80 من الدستور فتحت الباب على مصراعيه لانقسام حاد في الرأي العام التونسي والمواقف الحزبية والمدنيّة، وحتى في ردود الأفعال الدولية؛ وذلك بسبب غياب المحكمة الدستورية التي يحقّ لها –حصرا- النظر في مسألة تأويل الدستور ومدى شرعية مثل هذه القرارات السياسية.

وقد سبقت قرارات رئيس الدولة قيس سعيّد موجةُ احتجاجات شعبية، تزامنت مع ذكرى عيد الجمهورية يوم 25 يوليوز/ تموز 2021.  شهد الشارع التونسي إثر هذه الاحتجاجات أعمال عنف وتخريب وحرق، طالت حتّى مقرات أحزاب من بينها حركة النهضة التي يشرف رئيسها راشد الغنوشي على رئاسة البرلمان التونسي منذ نهاية العام 2019، والتي تقود التحالف السياسي والبرلماني الداعم للحكومة المعفاة.

هذا الوضع السياسي والاجتماعي المحتقن جعل وسائل الإعلام والصحفيين في تونس يشتغلون تحت القصف؛ وطالت الانتقادات والهجمات حتّى الإعلام الرسمي ممثلا في التلفزة التونسية، حيث اتهم الرئيس قيس سعيّد المشرفين على نشرة الأخبار الرئيسية المسائية التي يشاهدها التونسيون بكثافة بالتعتيم على نشاطه، وتهميش ما يقوم به من حراك دبلوماسي لجلب المساعدات إلى تونس لمواجهة أزمة كورونا ونقص مادة الأوكسجين والمعدات الطبية مثل أسرّة الإنعاش فضلا عن شحّ المطاعيم ما تسبّب في ارتفاع نسبة الوفيات.

وكذلك اتُهِمتْ العديد من وسائل الإعلام المحليّة بالتعتيم وتشويه الاحتجاجات الشعبية خدمةً لمصالح الحكومة السابقة وتحالفها السياسي، من خلال محاولة شيطنة المحتجين -حسب تقديرهم- وتصويرهم على أنهم مخربون، دون مراعاة لمشروعية مطالبهم بحلّ البرلمان ومحاسبة الفاسدين وإسقاط الحكومة، فضلا عن حقّهم الدستوري في التظاهر والاحتجاج.

ومما زاد الطين بلّة، سقوط بعض وسائل الإعلام المعروفة بمصداقيتها في نشر أخبار زائفة مثل إشاعة خبر وفاة رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد، ناهيك عن تعرض العديد من الصحفيين والمصورين الصحفيين إلى اعتداءات في الشارع من محتجين من أنصار الأطراف السياسية المتصارعة، كما كان بعض الصحفيين عرضة لتهديدات سياسية وإرهابية وحملات تحريض وتشويه على صفحات التواصل الاجتماعي.

إزاء هذا الظرف الاستثنائي والخطير الذي تمرّ به تونس، لاسيما فيما يخص الحريات والحقوق، سارعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى إصدار بيانات عديدة قامت بالتنديد والتحذير مما يجري، محملة رئيس الجمهورية قيس سعيّد مسؤولية حماية حرّية الصحافة واحترام الدستور خاصة بعد أن أقدم قرابة 20 عون أمنٍ صباح يوم الإثنين 26 يوليو/تموز الجاري على مداهمة مقر قناة "الجزيرة" من الباب الخلفي، مطالبين فريق العمل بالمكتب بمغادرة المقر وغلقه رغم عدم حيازة الأمنيين -الذين اكتفوا بالقول إنهم بصدد تنفيذ تعليمات- على أي قرار قضائي رسمي يتيح ذلك.

عبّرت نقابة الصحفيين التونسيين عن قلقها الشديد من الخطر الذي يهدّد حريّة الصحافة والتعبير والإعلام ومن محاولات إقحامها في الصراع السياسي، ودعت الجميع إلى النأي بالإعلام والصحفيين عن التجاذبات السياسية واحترام مبدأ حرية التعبير والصحافة المكفولة بالدستور، مع تأكيدها على مساندتها المطلقة لما أسمتها بالمطالب المشروعة التي رفعها الشعب التونسي في احتجاجاته الأخيرة التي سبقت قرارات الرئيس قيس سعيّد.

كما دعت لجنة أخلاقيات المهنة بالنقابة الوطنية للصحفيين وسائل الإعلام التي سقطت في مطب نشر أخبار زائفة في ظرف الأزمة الحالية، إلى ضرورة التحري في المصادر قبل نشر مثل هذه الأخبار المغلوطة أو المضللة، مذكرة بميثاق الشرف الصحفي الذي ينصّ على أنّ الصحفي يمتنع عن ذكر أي عنوان أو صفة أو خبر وهمي. وفي السياق ذاته، اعتبرت النقابة أن نشر مثل هذه الأخبار الكاذبة قد يتسبّب في شحن الأجواء، وقد تُأوّلُ على أنّها لفت انتباه عن القضايا الحقيقية التي تَهمُّ المواطن التونسي.

إنّ خطورة مآلات ومستقبل حرية الصحافة في تونس لا تكمن فقط في تحميل المسؤولية للأطراف السياسية وأنصارها في المجتمع وأجهزة الدولة فقط، بل هي أيضا مرتبطة بالمسؤولية الاجتماعية للصحفيين ووسائل الإعلام التي تحتاج إلى الرصانة والتأني في سياساتها التحريرية وتغطيتها الإخبارية، كي لا تقع في فخ الاصطفاف الأعمى والرواية الواحدة التي تفرضها موازين القوى السياسية في الظرف الراهن.

هنا يأتي دور مقاربة التعديل الذاتي كآلية لعدم الانزلاق في خطابات الكراهية والتحريض، أو نشر أخبار زائفة بناءً على مصادر مجهولة تزيد الوضع تأزما من شأنه أن يضعف مصداقية وسائل الإعلام والصحفيين خلال مواجهة محاولات قمعهم بالاستعانة بالقضاء والأمن والجيش، وهو أمر عبرّت هياكل المهنة الصحفية عن رفضها له مهما كانت المسوّغات والتبريرات. فالإعلام سيّد نفسه تضبط عمله مواثيق تحرير وحقوق دستوريّة وقوانين تحمي حريّة التعبير والصحافة.

 

لا سلطان على الصحفيين إلا التعديل الذاتي

على عكس العديد من الدول العربية، اختار المجتمع المدني في تونس، في مقدمته هياكل المهنة الصحفية، طريق إلغاء مؤسسة وزارة الإعلام والاتصال لإنهاء تقليد هيمنة الدولة على وسائل الإعلام والصحفيين.

رفضُ المجتمع المدني في تونس بعد الثورة لوجود وزارة تشرف على الإعلام وتقيّد حريّة الصحافة لتجعل وسائل الإعلام تحت قبضتها وسطوتها، انطلق من تقييم موضوعي تاريخي لتجربة الدولة في علاقة بهذا المجال. 

إنّ هذا المسار الذي انطلق منذ منعطف الثورة في 2011، وأفرز إلغاء وزارة الإعلام ووكالة الاتصال الخارجي التي كانت تمثل اليد اليمنى لنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي لتدجين الصحافة والصحفيين، لم يكن وليد الاعتباطية؛ بل كان نتاجا لتصوّر جديد أجمعت على أهميته مختلف هياكل المهنة الصحفية في تونس، والتي ترى بأنّ دور الدولة في علاقة بالإعلام يكمن أساسا في رسم السياسات العمومية ووضع القوانين لدعم حريّة الصحافة، وأنّ مسألة تنظيم الإعلام وتعديله ذاتيا هي أساسا من مشمولات الصحفيين أنفسهم والمنظمات التي تمثلهم وتدافع عن حقوقهم، فضلا عن الهياكل التعديلية المستقلة المنتخبة ديمقراطيا.

فلسفة التعديل والتعديل الذاتي ضمن هياكل مستقلة عن السلطة التنفيذية هي في الحقيقة مستلهمة من تجارب ديمقراطية عريقة في الدول الغربية. وفي هذا الإطار، أنشئت الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام بعد الثورة، تبعها تأسيس هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري فضلا عن إنشاء مجلس الصحافة.

هذه المؤسسات المستقلة عن السلطة التنفيذية أنيطت بعُهدتها مهمة تنظيم قطاع الإعلام وترسيخ فلسفة التعديل الذاتي الذي يعد من مسؤوليات الصحفيين أنفسهم في غرف الأخبار ومجالس التحرير. 

تجربة تونس الفريدة في هذا المجال عربيا تبدو اليوم مهدّدة في ظلّ محاولات توظيف القضاء والأمن والجيش للضغط على وسائل الإعلام والصحفيين من أجل ترهيبهم وقمعهم. من هذا المنطلق تكثفت الدعوات المهنية لتفعيل آلية التعديل الذاتي من أجل تبيان قيمتها وأهميتها، ليلعب الإعلام دوره الحيوي رغم الأزمة الحاصلة ومخاطر الانزلاق مجددا نحو مربع مصادرة الدولة لحريّة الصحافة التي تعتبر من أهم المكاسب إن لم نقل المكسب الوحيد بعد الثورة.

وعموما، يمكن تقسيم تعديل الإعلام والاتصال إلى ثلاثة فروع بحسب ورقة بحثية صادرة عن منظمة سوليدار تونس:

 

- احترام القواعد الاقتصادية، خاصة من مقاومة تركيز ملكية وسائل الإعلام ومواقع الهيمنة الاقتصادية، وإرساء التوازن بين مختلف المؤسسات والمتدخلين الناشطين في القطاع.  ومن هذه الزاوية لا يتميز التعديل باعتباره تعديلا لقطاع اقتصادي. لكنّ الإعلام ليس مجرد قطاع اقتصادي وليس قطاعا كالقطاعات الأخرى، وإنما لديه ارتباط وثيق بالحريات ولذلك فإن تعديله، فضلا عن بعده الاقتصادي، هو تعديل للحريات وحمايتها وتعزيزها وتأطيرها. على هذا النحو، يهدف تعديل الإعلام الى ضمان حرية التعبير والتعددية في الرأي والإعلام وإلى حماية استقلالية المؤسسات الإعلامية والصحفيين من مختلف الضغوطات والتضييقات التي يمكن أن تمارسها مختلف القوى السياسية والاقتصادية، بهدف إخضاعه وتوظيفه بشكل يضُرّ بمصداقيته وبالمصلحة العامة وبحق المواطنين في إعلام مهني ونزيه. 

- احترام قواعد أخلاقيات المهنة لضمان إعلام مهني وموضوعي ومتوازن والحماية من الانحرافات والتجاوزات، خاصة على مستوى مضامين المادة الإعلامية وأساليب العمل الإعلامي.

وتجد خصوصية التعديل في قطاع الإعلام أسسها في أنّ هذا القطاع يواجه تأثيرات وضغوطات متنوعة ومتعددة الأطراف. فإن كان تدخل الدولة قد يحمي حرية التعبير والإعلام والاتصال من ضغوطات المصالح الاقتصادية، فإنّه كذلك يحمل مخاطر الوصاية السياسية، ولذلك فإن التعديل المستقل يمثل حلا وسطا يمكّن من الحماية من ضغوطات الدولة ومن اللوبيات الاقتصادية والمالية، ودعم استقلالية الفاعلين في القطاع سواء كانوا مؤسسات أو أفرادا.

- تعني الاستقلالية قيام الأفراد أو الهيئات، بإنتاج الفعل غير المُملى، وغير الموجّه من أي جهة مهما كانت، بناءً على قناعة معينة تسعى لبناء رؤية تهدف إلى خدمة المصلحة العامة والقضايا الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، دون تحيّز إلى هذه الجهة أو تلك، ودون رغبة في تحقيق غاية معينة، يلتمس من ورائها إرضاء أي جهة. ويطرح هذا المفهوم ضرورة احترام الممارسة الديمقراطية بمضمونها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي والمدني، والسياسي، ما يتيح الفرصة أمام ممارسة الإعلام المستقل. 

وانطلاقا من هذا التصور لاستقلالية الإعلام فإنّ التعديل يسعى وفق نفس الوثيقة البحثية المرجعية إلى:

- ألا يكون الإعلام منبرا لوجهة نظر الدولة بسلطاتها الثلاث، وخاصة التشريعية والتنفيذية تجاه القضايا الاقتصادية، أو الاجتماعية أو الثقافية، أو المدنية، أو السياسية، ولكنّه، في نفس الوقت، معني بالإخبار عما تقوم به الدولة في مختلف المجالات، دون تحديد موقف معين من ذلك.

- ألا يكون منبرا للحكومة بمعنى السلطة التنفيذية، التي يتحكم فيها حزب معين، أو مجموعة من الأحزاب، حتى يتأتى الابتعاد عن احتواء الحكومة، أو حزبها، أو أحزابها له، وحتى يتمكّن من تجسيد الحياد اللازم تجاه العمل الحكومي، وتجاه أحزاب الحكومة.

- ألا يكون منبرا لحزب معين، أو لمجموعة من الأحزاب المعارضة للحكومة، حتى يبقى بعيدا تماما عن الانحياز إلى المعارضة كيفما كان شكلها.

وحياد الإعلام المستقل، لا يمنع من أن يكون مجالا لعرض ما تقوم به الدولة، والحكومة وأحزابها المختلفة، وما تقوم به أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، دون تحيز لأيّ منها. وبذلك تكون استقلالية الإعلام مجسّدة على أرض الواقع، وعلى جميع المستويات، حتى يتأتى لها القيام بدورها كاملا في خدمة المعلومة المجردة إلا من الانحياز إلى خدمة الحقيقة، ما يساهم في رفع وعي جميع أفراد المجتمع على جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. وهذا ما يحتاجه الإعلام العمومي بالخصوص باعتباره المهدد أكثر من غيره من ميل من يمسك السلطة إلى الإفراط في استخدامها.

 

وتعاني ثقافة التعديل في تونس من هشاشة حقيقية نظرا لإرث تميز بتغييبها كليا ونظرا للسياق الانتقالي، فرغم ما تحقق فيه من خطوات وتطورات مهمة، ما زالت الأُطر القانونية والمؤسساتية المنظمة للمشهد الإعلامي والحامية لحريته لم ترسخ بشكل نهائي. أما بعض أصناف الإعلام كالإعلام المكتوب والإلكتروني فلم ترس أصلا، وفق نفس الدارسة.

إنّ حدود التجربة التونسية في مجال التعديل والتعديل الذاتي كآليات لضمان حرية الصحافة مع الالتزام بأخلاقيات المهنة، رغم أهمية وقيمة المكاسب التي تحقّقت والتي تبقى منقوصة، لا يجب أن تفسح المجال لنسف هذا المسار الذي بات تفعيله ضرورة قصوى أكثر من أي وقت مضى.

فالتدابير الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد، والتي أدت تقريبا إلى تجميع جميع السلطات بيده، تبقى ظرفية لا تلغي الدستور الذي مازال قائما والذي ينصّ في فصليه 31 و32 على أنّ حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يمكن ممارسة رقابة مسبقة عليها حيث تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة وإلى شبكات الاتصال. كما أنّ قرارات الرئيس سعيّد لا تلغي المراسيم المنظّمة للعمل الصحفي وحرية التعبير والصحافة وهما المرسومان 115 و116.

 

في ظلّ هذا المنعطف الخطير التي تعيشه تونس منذ أيّام، لا مناص من اعتماد آليات التعديل الذاتي بالنسبة للصحفيين التونسيين ووسائل الإعلام التي تعمل في تونس لتكريس أخلاقيات المهنة والحفاظ على جوهر العمل الصحفي؛ وهو السعي إلى الحقيقة دون اكتفاء برواية واحدة، أو خضوع لأي سلطة كانت بما في ذلك سلطة المزاج العام الشعبي المؤيد في جزء كبير منه لقرارات الرئيس قيس سعيّد.

إذ يحقّ للصحفي والوسيلة الإعلامية في إطار حريّة التعبير والتفريق بين الخبر والرأي، أن يصفا ما حصل بالانقلاب الدستوري أو بأنه تصحيح لمسار الثورة تماشيا مع الإرادة الشعبية. لكن ليس من حقه نشر أخبار زائفة أو إقصاء أي طرف سياسي، كما ليس من حقّه الاكتفاء فقط بنشر الرواية الرسمية ونقل البلاغات الجافة التي تنشرها رئاسة الجمهورية أو بقيّة أجهزة الدولة.

تفعيل آلية التعديل الذاتي هو مسؤولية الصحفيين المطالبين باحترام ميثاق الشرف الصحفي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، ومدونات أخلاقيات المهنة بما في ذلك المدونة التي أقرها الاتحاد الدولي للصحفيين في مؤتمره الأخير في تونس سنة 2019، ومواثيق التحرير التي صاغتها وسائل الإعلام نفسها بالشراكة مع الصحفيين العاملين فيها.

إنّ التعديل الذاتي هو أهم آلية في تونس اليوم لحماية حريّة الصحافة من مخاطر الاستهداف والقمع، وهو عملية معقدة ولكنها ضرورية لتجنب الانحراف بدور الإعلام المستقل الذي ينقل الوقائع كما هي ويبحث عن الحقيقة دون خلفيات وفق سياسات تحريرية يختارها القائمون على الصحف والإذاعات والقنوات التلفزية وليس أي سلطة كانت. لكنّ هذا التعديل لا يمكن أن ينجح دون مرافقة من هياكل المهنة ومعاضدة من الهياكل التعديلية مثل هيئة الاتصال السمعي البصري ومجلس الصحافة الذي اكتفى بالصمت حتى الآن، وهو الذي يكاد يتحوّل إلى مؤسسة مشلولة.

لا شكّ في أنّ مسؤولية وسائل الإعلام والصحفيين جسيمة في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس. وضعٌ يحتم التذكير بأنّ لوسائل الإعلام مسؤولية اجتماعية لا تقتضي فقط إخبار الجمهور، بل تنويره عبر تنويع الأشكال/الأنماط الصحفية على غرار التفسير والتحليل والتقصي والتحري في ظلّ احترام التنوع والتعددية الفكرية والسياسيّة.

فالصحفي كما هو الحال بالنسبة لوسيلة الإعلام التي يشتغل فيها، يقبل بالنقد والمساءلة ويتحلى بالشجاعة الأخلاقية للاعتذار كلما كان هناك خطأ مهني مع ضرورة تصويبه. ومسؤولية الإعلام لا تكمن فقط في الإخبار بل هي أيضا مرتبطة بدوره الرقابي كسلطة مضادة ومعدلّة تقوم بدورها النقدي لأي سلطة كانت بما في ذلك رئيس الجمهورية. 

إنّ التعديل الذاتي آلية حتمية في الممارسة الإعلامية في تونس خلال هذه الأزمة من خلال ضرورة التحري في الأخبار والمصادر وعدم الانسياق مع كل ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وتجنب نقل الخطابات العنيفة والمحرضة، والمعلومات والاتهامات الخطيرة التي قد تكون في إطار تصفية حسابات أو رغبة في تأجيج الوضع دون أي أسانيد أو دلائل أو حجج دامغة. بيد أنّه لا يجب تحويل مطلب تفعيل آلية التعديل الذاتي إلى شمّاعة للتغطية على التقصير الحاصل في الضفة المقابلة، لاسيما مؤسسات الدولة التي عليها أن تكون أكثر انفتاحا وشفافية في التعامل مع وسائل الإعلام والصحفيين من خلال احترام حقهم في الحصول على المعلومة. إذ أنّ الرئيس قيس سعيّد لم يقم بأيّ حوار صحفي مطوّل مع وسيلة إعلام تونسية منذ توليه مقاليد الحكم في 2019، إذا ما استثنينا الحوار الذي التزم به بعد مرور 100 يوم على رئاسته، كما أنّ مؤسسة رئاسة الجمهورية تعاني من غياب ناطق رسمي وخطة مستشار إعلامي وهي وضعية تطرح أكثر من نقطة استفهام.

 

More Articles

Gender Inequity in Sports Reporting: Female Journalists Demand Equality

Gender inequality persists in sports journalism, with female reporters significantly under-represented, as shown by studies revealing that only 5.1% of sports articles are written by women. Advocates call for equal representation, more inclusive hiring practices, and a broader focus on women's sports to challenge stereotypes, improve coverage, and give women a stronger voice in shaping sports narratives.

Akem
Akem Nkwain Published on: 18 Nov, 2024
How Does Misinformation Undermine Public Trust in Journalism?

Reports reveal a growing loss of trust in the media, driven by the extent of misinformation that undermines professional journalism's ability to influence public discourse. The platforms of misinformation, now supported by states and private entities during conflicts and wars, threaten to strip the profession of its core roles of accountability and oversight.

Muhammad Khamaiseh 1
Muhammad Khamaiseh Published on: 13 Nov, 2024
What Explains the Indian Media’s Silence on Muslim Lynchings?

A review of why the Indian media is biased in its coverage of cow vigilantes' lynchings, highlighting how the killing of a Hindu boy by such vigilantes sparked widespread outrage, while the lynching of a Muslim man over similar allegations was largely ignored, reflecting deeper anti-Muslim bias under the ruling BJP government.

Saif Khaled
Saif Khalid Published on: 11 Nov, 2024
Freedom of the Press in Jordan and Unconstitutional Interpretations

Since the approval of the Cybercrime Law in Jordan, freedom of opinion and expression has entered a troubling phase marked by the arrest of journalists and restrictions on media. Musab Shawabkeh offers a constitutional reading based on interpretations and rulings that uphold freedom of expression in a context where the country needs diverse opinions in the face of the Israeli ultra right wing politics.

Musab Shawabkeh
Musab Al Shawabkeh Published on: 8 Nov, 2024
Corporate Dominance and the Erosion of Editorial Independence in Indian Media

Corporate influence in Indian media has led to widespread editorial suppression, with media owners prioritising political appeasement over journalistic integrity, resulting in a significant erosion of press freedom and diversity in news reporting.

headshot
AJR Correspondent Published on: 3 Nov, 2024
Monitoring of Journalistic Malpractices in Gaza Coverage

On this page, the editorial team of the Al Jazeera Journalism Review will collect news published by media institutions about the current war on Gaza that involves disinformation, bias, or professional journalistic standards and its code of ethics.

A picture of the Al Jazeera Media Institute's logo, on a white background.
Al Jazeera Journalism Review Published on: 23 Oct, 2024
Atrocity Inc.: What Max Blumenthal's New Documentary Reveals About Western Media's Complicity in Israeli Propaganda

A digest of Max Blumenthal's new documentary, Atrocity Inc., in which he uncovers how the Israeli PR machinery and propaganda efforts were carefully and intentionally designed to manufacture consent for a campaign of mass death against Palestinians. It reveals how the Western media, especially in the United States, supported Israel's misinformation war.

A picture of the Al Jazeera Media Institute's logo, on a white background.
Al Jazeera Journalism Review Published on: 13 Oct, 2024
A Year of Genocide and Bias: Western Media's Whitewashing of Israel's Ongoing War on Gaza

Major Western media outlets continue to prove that they are a party in the war of narratives, siding with the Israeli occupation. The article explains how these major Western media outlets are still refining their techniques of bias in favor of the occupation, even a year after the genocide in Palestine.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 9 Oct, 2024
Failing Gaza: Pro-Israel Bias Uncovered Behind the Lens of Western Media

Journalists at CNN and the BBC expose the inner workings of their newsrooms, a year into Israel’s war on Gaza.

A picture of the Al Jazeera Media Institute's logo, on a white background.
Al Jazeera Journalism Review Published on: 8 Oct, 2024
Guns, Threats, and Poverty: The Daily Struggles of an African Journalist

The welfare of African journalists continues to deteriorate, from poor wages to security risks, arrests, detention, and even death. This common, ongoing trend generally affects the wellbeing of journalists during their discharge of duties, and these overlooked difficulties tend to affect the quality and output of their work.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 26 Sep, 2024
Testimonies of the First Witness of the Sabra & Shatila Massacre

The Sabra and Shatila massacre in 1982 saw over 3,000 unarmed Palestinian refugees brutally killed by Phalangist militias under the facilitation of Israeli forces. As the first journalist to enter the camps, Japanese journalist Ryuichi Hirokawa provides a harrowing first-hand account of the atrocity amid a media blackout. His testimony highlights the power of bearing witness to a war crime and contrasts the past Israeli public outcry with today’s silence over the ongoing genocide in Gaza.

Mei Shigenobu مي شيغينوبو
Mei Shigenobu Published on: 18 Sep, 2024
How to Bring more Balance to Western Media Coverage of Israel and Palestine

How can journalists accurately cover Palestine without becoming unbalanced or biased? Here are some concrete tools and techniques for reporters to keep in mind.

A picture of the author, Megan O'Toole
Megan O'Toole Published on: 16 Sep, 2024
Journalist Mothers in Gaza: Living the Ordeal Twice

Being a journalist, particularly a female journalist covering the genocide in Palestine without any form of protection, makes practicing journalism nearly impossible. When the journalist is also a mother haunted by the fear of losing her children, working in the field becomes an immense sacrifice.

Amani Shninu
Amani Shninu Published on: 15 Sep, 2024
Anonymous Sources in the New York Times... Covering the War with One Eye

The use of anonymous sources in journalism is considered, within professional and ethical standards, a “last option” for journalists. However, analysis of New York Times data reveals a persistent pattern in the use of “anonymity” to support specific narratives, especially Israeli narratives.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 8 Sep, 2024
Monitoring of Journalistic Malpractices in Gaza Coverage

On this page, the editorial team of the Al Jazeera Journalism Review will collect news published by media institutions about the current war on Gaza that involves disinformation, bias, or professional journalistic standards and its code of ethics.

A picture of the Al Jazeera Media Institute's logo, on a white background.
Al Jazeera Journalism Review Published on: 5 Sep, 2024
India’s Social Media Crackdown; Broader Implications for Journalism

India’s crackdown on X-Twitter accounts documenting hate crimes highlights the increased risks faced by journalists who report on these issues. The suppression of such accounts significantly hampers the ability of journalists to access and report critical information on hate crimes.

Rushda Fathima Khan
Rushda Fathima Khan Published on: 3 Sep, 2024
Cameroonian Journalists at the Center of Fighting Illegal Fishing

While the EU’s red card to Cameroon has undeniably tarnished its image, it has paradoxically unlocked the potential of Cameroonian journalists and ignited a movement poised to reshape the future. Through this shared struggle, journalists, scientists, conservationists, storytellers, and government officials have united, paving the way for a new era of ocean advocacy.

Shuimo Trust Dohyee
Shuimo Trust Dohyee Published on: 21 Aug, 2024
The Gaza Journalist and the "Heart and Mind" Struggle

Inside the heart of a Palestinian journalist living in Gaza, there are two personas: one is a human who wants to protect his own life and that of his family, and the other is a journalist committed to safeguarding the lives of the people by holding on to the truth and staying in the field. Between these two extremes, or what journalist Maram Hamid describes as the struggle between the heart and the mind, the Palestinian journalist continues to share a narrative that the occupation intended to keep "away from the camera."

Maram
Maram Humaid Published on: 18 Aug, 2024
India and Pakistan; Journalists building Bridges for Understanding

Amid decades of tension, journalists from India and Pakistan are uniting to combat hostile narratives and highlight shared challenges. Through collaboration, they’re fostering understanding on pressing issues like climate change and healthcare, proving that empathy can transcend borders. Discover how initiatives like the Journalists' Exchange Programme are paving the way for peace journalism and a more nuanced narrative.

Safina
Safina Nabi Published on: 12 Aug, 2024
Journalists Recount the Final Moments of Ismail Al-Ghoul

Journalists remembering the slain reporter of Al Jazeera in Northern Gaza, Ismail Al Ghoul. "He insisted on continuing his coverage from the northern part of the Gaza Strip, despite the challenges and obstacles he faced. He was arrested and interrogated by the Israeli army, his brother was killed in an Israeli airstrike, and his father passed away during treatment abroad."

Mohammad Abu Don
Mohammad Abu Don Published on: 11 Aug, 2024
Analysis: Media Disinformation and UK Far-Right Riots

Analysis on the impact of media disinformation on public opinion, particularly during UK riots incited by far-right groups. A look at how sensationalist media can directly influence audience behavior, as per the Hypodermic Needle Theory, leading to normalized discrimination and violence. The need for responsible journalism is emphasized to prevent such harmful effects.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 8 Aug, 2024
Challenges for Female Journalists in Crisis Zones of Cameroon

Testimonies of what female journalists in Cameroon are facing and how they are challenging these difficulties.

Akem
Akem Nkwain Published on: 30 Jul, 2024
Daughters of Data: African Female Journalists Using Data to Reveal Hidden Truths

A growing network of African women journalists, data scientists, and tech experts is amplifying female voices and highlighting underreported stories across the continent by producing data-driven projects and leveraging digital technologies in storytelling.

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 23 Jul, 2024
Are Podcasts the Future of African Broadcasting?

The surge of podcasts across Africa is a burgeoning trend, encompassing a wide array of themes and subjects, and swiftly expanding across various nations.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 11 Jul, 2024