التنظيم الذاتي للصحفيين في تونس.. دفاعا عن الحرية

التنظيم الذاتي للصحفيين في تونس.. دفاعا عن الحرية

إشاعات من كل حدب وصوب تسري كالنار في الهشيم، أخبار خطيرة متخفية خلف مصادر مجهولة تذاع في وسائل الإعلام، شحّ في المصادر والمعلومات الرسميّة بسبب احتجاب المسؤولين عن الإعلام وارتباك في السياسات الاتصالية للدولة، غياب لخطّة اتصالية واضحة المعالم في مستوى خطورة الأزمة، حملات تهديد واستهداف للصحفيين ولبعض وسائل الإعلام المحليّة وحتّى الدوليّة،  طالت مكتب قناة الجزيرة التي تعمل في البلاد منذ سنوات، ومخاوف جديّة من إمكانية حصول عملية انقضاض على مكتسبات دستور الثورة لاسيما في مجال حرية التعبير والصحافة.

هكذا بدا المشهد الإعلامي في تونس خلال الأيام الماضية، قبيل وغداة إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن جملة من القرارات التي أدخلت البلاد في دوامة جدل دستوري وسياسي جعل بعض المنتقدين يذهب إلى حدّ وصف ما حدث بـ "الانقلاب" على المسار الديمقراطي.

لقد أعاد هذا الوضع الجديد في تونس إلى الواجهة نقاشا محتدما حول معايير مهنة الصحافة وضوابط حرية التعبير والصحافة من منظور دور آليات التعديل الذاتي في زمن الأزمات التزاما بمبادئ المسؤولية الاجتماعية. ودار نقاش مستفيض عجّل بإعادة النظر في دور وسائل الإعلام وهياكل المهنة في الدفاع عن قيم النزاهة والدقّة والموضوعية ضمن التغطيات الإخبارية والسياسات التحريرية في ظلّ مظاهر الاصطفاف والتلاعب بالرأي العام وتهديد حرّية الصحافة من بوابة التوجيه والانحياز للرواية الواحدة.

 

صحافة تحت القصف

لا نبالغ في القول حينما نجزم بأنّ المناخ العام الذي تشتغل فيه وسائل الإعلام في تونس منذ الأيام القليلة الماضية هو الأخطر منذ الثورة.  هذا المناخ مرتبط، بلا شك، بالأزمة السياسية الخانقة التي تصاعدت وتيرتها بعد قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد بتجميد صلاحيات مجلس نواب الشعب، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه، ورفع الحصانة عن جميع البرلمانيين المنتخبين، وذلك في إطار قراءة للدستور يرى أنّها ترتكز على تفعيل الفصل 80 لمدّة 30 يوما، ضمن تدابير قال إنها استثنائية لحماية الدولة من شبح الانهيار والفوضى وتجنيب المجتمع خطر الاقتتال الأهلي.

قراءة الرئيس سعيّد للفصل 80 من الدستور فتحت الباب على مصراعيه لانقسام حاد في الرأي العام التونسي والمواقف الحزبية والمدنيّة، وحتى في ردود الأفعال الدولية؛ وذلك بسبب غياب المحكمة الدستورية التي يحقّ لها –حصرا- النظر في مسألة تأويل الدستور ومدى شرعية مثل هذه القرارات السياسية.

وقد سبقت قرارات رئيس الدولة قيس سعيّد موجةُ احتجاجات شعبية، تزامنت مع ذكرى عيد الجمهورية يوم 25 يوليوز/ تموز 2021.  شهد الشارع التونسي إثر هذه الاحتجاجات أعمال عنف وتخريب وحرق، طالت حتّى مقرات أحزاب من بينها حركة النهضة التي يشرف رئيسها راشد الغنوشي على رئاسة البرلمان التونسي منذ نهاية العام 2019، والتي تقود التحالف السياسي والبرلماني الداعم للحكومة المعفاة.

هذا الوضع السياسي والاجتماعي المحتقن جعل وسائل الإعلام والصحفيين في تونس يشتغلون تحت القصف؛ وطالت الانتقادات والهجمات حتّى الإعلام الرسمي ممثلا في التلفزة التونسية، حيث اتهم الرئيس قيس سعيّد المشرفين على نشرة الأخبار الرئيسية المسائية التي يشاهدها التونسيون بكثافة بالتعتيم على نشاطه، وتهميش ما يقوم به من حراك دبلوماسي لجلب المساعدات إلى تونس لمواجهة أزمة كورونا ونقص مادة الأوكسجين والمعدات الطبية مثل أسرّة الإنعاش فضلا عن شحّ المطاعيم ما تسبّب في ارتفاع نسبة الوفيات.

وكذلك اتُهِمتْ العديد من وسائل الإعلام المحليّة بالتعتيم وتشويه الاحتجاجات الشعبية خدمةً لمصالح الحكومة السابقة وتحالفها السياسي، من خلال محاولة شيطنة المحتجين -حسب تقديرهم- وتصويرهم على أنهم مخربون، دون مراعاة لمشروعية مطالبهم بحلّ البرلمان ومحاسبة الفاسدين وإسقاط الحكومة، فضلا عن حقّهم الدستوري في التظاهر والاحتجاج.

ومما زاد الطين بلّة، سقوط بعض وسائل الإعلام المعروفة بمصداقيتها في نشر أخبار زائفة مثل إشاعة خبر وفاة رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد، ناهيك عن تعرض العديد من الصحفيين والمصورين الصحفيين إلى اعتداءات في الشارع من محتجين من أنصار الأطراف السياسية المتصارعة، كما كان بعض الصحفيين عرضة لتهديدات سياسية وإرهابية وحملات تحريض وتشويه على صفحات التواصل الاجتماعي.

إزاء هذا الظرف الاستثنائي والخطير الذي تمرّ به تونس، لاسيما فيما يخص الحريات والحقوق، سارعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى إصدار بيانات عديدة قامت بالتنديد والتحذير مما يجري، محملة رئيس الجمهورية قيس سعيّد مسؤولية حماية حرّية الصحافة واحترام الدستور خاصة بعد أن أقدم قرابة 20 عون أمنٍ صباح يوم الإثنين 26 يوليو/تموز الجاري على مداهمة مقر قناة "الجزيرة" من الباب الخلفي، مطالبين فريق العمل بالمكتب بمغادرة المقر وغلقه رغم عدم حيازة الأمنيين -الذين اكتفوا بالقول إنهم بصدد تنفيذ تعليمات- على أي قرار قضائي رسمي يتيح ذلك.

عبّرت نقابة الصحفيين التونسيين عن قلقها الشديد من الخطر الذي يهدّد حريّة الصحافة والتعبير والإعلام ومن محاولات إقحامها في الصراع السياسي، ودعت الجميع إلى النأي بالإعلام والصحفيين عن التجاذبات السياسية واحترام مبدأ حرية التعبير والصحافة المكفولة بالدستور، مع تأكيدها على مساندتها المطلقة لما أسمتها بالمطالب المشروعة التي رفعها الشعب التونسي في احتجاجاته الأخيرة التي سبقت قرارات الرئيس قيس سعيّد.

كما دعت لجنة أخلاقيات المهنة بالنقابة الوطنية للصحفيين وسائل الإعلام التي سقطت في مطب نشر أخبار زائفة في ظرف الأزمة الحالية، إلى ضرورة التحري في المصادر قبل نشر مثل هذه الأخبار المغلوطة أو المضللة، مذكرة بميثاق الشرف الصحفي الذي ينصّ على أنّ الصحفي يمتنع عن ذكر أي عنوان أو صفة أو خبر وهمي. وفي السياق ذاته، اعتبرت النقابة أن نشر مثل هذه الأخبار الكاذبة قد يتسبّب في شحن الأجواء، وقد تُأوّلُ على أنّها لفت انتباه عن القضايا الحقيقية التي تَهمُّ المواطن التونسي.

إنّ خطورة مآلات ومستقبل حرية الصحافة في تونس لا تكمن فقط في تحميل المسؤولية للأطراف السياسية وأنصارها في المجتمع وأجهزة الدولة فقط، بل هي أيضا مرتبطة بالمسؤولية الاجتماعية للصحفيين ووسائل الإعلام التي تحتاج إلى الرصانة والتأني في سياساتها التحريرية وتغطيتها الإخبارية، كي لا تقع في فخ الاصطفاف الأعمى والرواية الواحدة التي تفرضها موازين القوى السياسية في الظرف الراهن.

هنا يأتي دور مقاربة التعديل الذاتي كآلية لعدم الانزلاق في خطابات الكراهية والتحريض، أو نشر أخبار زائفة بناءً على مصادر مجهولة تزيد الوضع تأزما من شأنه أن يضعف مصداقية وسائل الإعلام والصحفيين خلال مواجهة محاولات قمعهم بالاستعانة بالقضاء والأمن والجيش، وهو أمر عبرّت هياكل المهنة الصحفية عن رفضها له مهما كانت المسوّغات والتبريرات. فالإعلام سيّد نفسه تضبط عمله مواثيق تحرير وحقوق دستوريّة وقوانين تحمي حريّة التعبير والصحافة.

 

لا سلطان على الصحفيين إلا التعديل الذاتي

على عكس العديد من الدول العربية، اختار المجتمع المدني في تونس، في مقدمته هياكل المهنة الصحفية، طريق إلغاء مؤسسة وزارة الإعلام والاتصال لإنهاء تقليد هيمنة الدولة على وسائل الإعلام والصحفيين.

رفضُ المجتمع المدني في تونس بعد الثورة لوجود وزارة تشرف على الإعلام وتقيّد حريّة الصحافة لتجعل وسائل الإعلام تحت قبضتها وسطوتها، انطلق من تقييم موضوعي تاريخي لتجربة الدولة في علاقة بهذا المجال. 

إنّ هذا المسار الذي انطلق منذ منعطف الثورة في 2011، وأفرز إلغاء وزارة الإعلام ووكالة الاتصال الخارجي التي كانت تمثل اليد اليمنى لنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي لتدجين الصحافة والصحفيين، لم يكن وليد الاعتباطية؛ بل كان نتاجا لتصوّر جديد أجمعت على أهميته مختلف هياكل المهنة الصحفية في تونس، والتي ترى بأنّ دور الدولة في علاقة بالإعلام يكمن أساسا في رسم السياسات العمومية ووضع القوانين لدعم حريّة الصحافة، وأنّ مسألة تنظيم الإعلام وتعديله ذاتيا هي أساسا من مشمولات الصحفيين أنفسهم والمنظمات التي تمثلهم وتدافع عن حقوقهم، فضلا عن الهياكل التعديلية المستقلة المنتخبة ديمقراطيا.

فلسفة التعديل والتعديل الذاتي ضمن هياكل مستقلة عن السلطة التنفيذية هي في الحقيقة مستلهمة من تجارب ديمقراطية عريقة في الدول الغربية. وفي هذا الإطار، أنشئت الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام بعد الثورة، تبعها تأسيس هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري فضلا عن إنشاء مجلس الصحافة.

هذه المؤسسات المستقلة عن السلطة التنفيذية أنيطت بعُهدتها مهمة تنظيم قطاع الإعلام وترسيخ فلسفة التعديل الذاتي الذي يعد من مسؤوليات الصحفيين أنفسهم في غرف الأخبار ومجالس التحرير. 

تجربة تونس الفريدة في هذا المجال عربيا تبدو اليوم مهدّدة في ظلّ محاولات توظيف القضاء والأمن والجيش للضغط على وسائل الإعلام والصحفيين من أجل ترهيبهم وقمعهم. من هذا المنطلق تكثفت الدعوات المهنية لتفعيل آلية التعديل الذاتي من أجل تبيان قيمتها وأهميتها، ليلعب الإعلام دوره الحيوي رغم الأزمة الحاصلة ومخاطر الانزلاق مجددا نحو مربع مصادرة الدولة لحريّة الصحافة التي تعتبر من أهم المكاسب إن لم نقل المكسب الوحيد بعد الثورة.

وعموما، يمكن تقسيم تعديل الإعلام والاتصال إلى ثلاثة فروع بحسب ورقة بحثية صادرة عن منظمة سوليدار تونس:

 

- احترام القواعد الاقتصادية، خاصة من مقاومة تركيز ملكية وسائل الإعلام ومواقع الهيمنة الاقتصادية، وإرساء التوازن بين مختلف المؤسسات والمتدخلين الناشطين في القطاع.  ومن هذه الزاوية لا يتميز التعديل باعتباره تعديلا لقطاع اقتصادي. لكنّ الإعلام ليس مجرد قطاع اقتصادي وليس قطاعا كالقطاعات الأخرى، وإنما لديه ارتباط وثيق بالحريات ولذلك فإن تعديله، فضلا عن بعده الاقتصادي، هو تعديل للحريات وحمايتها وتعزيزها وتأطيرها. على هذا النحو، يهدف تعديل الإعلام الى ضمان حرية التعبير والتعددية في الرأي والإعلام وإلى حماية استقلالية المؤسسات الإعلامية والصحفيين من مختلف الضغوطات والتضييقات التي يمكن أن تمارسها مختلف القوى السياسية والاقتصادية، بهدف إخضاعه وتوظيفه بشكل يضُرّ بمصداقيته وبالمصلحة العامة وبحق المواطنين في إعلام مهني ونزيه. 

- احترام قواعد أخلاقيات المهنة لضمان إعلام مهني وموضوعي ومتوازن والحماية من الانحرافات والتجاوزات، خاصة على مستوى مضامين المادة الإعلامية وأساليب العمل الإعلامي.

وتجد خصوصية التعديل في قطاع الإعلام أسسها في أنّ هذا القطاع يواجه تأثيرات وضغوطات متنوعة ومتعددة الأطراف. فإن كان تدخل الدولة قد يحمي حرية التعبير والإعلام والاتصال من ضغوطات المصالح الاقتصادية، فإنّه كذلك يحمل مخاطر الوصاية السياسية، ولذلك فإن التعديل المستقل يمثل حلا وسطا يمكّن من الحماية من ضغوطات الدولة ومن اللوبيات الاقتصادية والمالية، ودعم استقلالية الفاعلين في القطاع سواء كانوا مؤسسات أو أفرادا.

- تعني الاستقلالية قيام الأفراد أو الهيئات، بإنتاج الفعل غير المُملى، وغير الموجّه من أي جهة مهما كانت، بناءً على قناعة معينة تسعى لبناء رؤية تهدف إلى خدمة المصلحة العامة والقضايا الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، دون تحيّز إلى هذه الجهة أو تلك، ودون رغبة في تحقيق غاية معينة، يلتمس من ورائها إرضاء أي جهة. ويطرح هذا المفهوم ضرورة احترام الممارسة الديمقراطية بمضمونها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي والمدني، والسياسي، ما يتيح الفرصة أمام ممارسة الإعلام المستقل. 

وانطلاقا من هذا التصور لاستقلالية الإعلام فإنّ التعديل يسعى وفق نفس الوثيقة البحثية المرجعية إلى:

- ألا يكون الإعلام منبرا لوجهة نظر الدولة بسلطاتها الثلاث، وخاصة التشريعية والتنفيذية تجاه القضايا الاقتصادية، أو الاجتماعية أو الثقافية، أو المدنية، أو السياسية، ولكنّه، في نفس الوقت، معني بالإخبار عما تقوم به الدولة في مختلف المجالات، دون تحديد موقف معين من ذلك.

- ألا يكون منبرا للحكومة بمعنى السلطة التنفيذية، التي يتحكم فيها حزب معين، أو مجموعة من الأحزاب، حتى يتأتى الابتعاد عن احتواء الحكومة، أو حزبها، أو أحزابها له، وحتى يتمكّن من تجسيد الحياد اللازم تجاه العمل الحكومي، وتجاه أحزاب الحكومة.

- ألا يكون منبرا لحزب معين، أو لمجموعة من الأحزاب المعارضة للحكومة، حتى يبقى بعيدا تماما عن الانحياز إلى المعارضة كيفما كان شكلها.

وحياد الإعلام المستقل، لا يمنع من أن يكون مجالا لعرض ما تقوم به الدولة، والحكومة وأحزابها المختلفة، وما تقوم به أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، دون تحيز لأيّ منها. وبذلك تكون استقلالية الإعلام مجسّدة على أرض الواقع، وعلى جميع المستويات، حتى يتأتى لها القيام بدورها كاملا في خدمة المعلومة المجردة إلا من الانحياز إلى خدمة الحقيقة، ما يساهم في رفع وعي جميع أفراد المجتمع على جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. وهذا ما يحتاجه الإعلام العمومي بالخصوص باعتباره المهدد أكثر من غيره من ميل من يمسك السلطة إلى الإفراط في استخدامها.

 

وتعاني ثقافة التعديل في تونس من هشاشة حقيقية نظرا لإرث تميز بتغييبها كليا ونظرا للسياق الانتقالي، فرغم ما تحقق فيه من خطوات وتطورات مهمة، ما زالت الأُطر القانونية والمؤسساتية المنظمة للمشهد الإعلامي والحامية لحريته لم ترسخ بشكل نهائي. أما بعض أصناف الإعلام كالإعلام المكتوب والإلكتروني فلم ترس أصلا، وفق نفس الدارسة.

إنّ حدود التجربة التونسية في مجال التعديل والتعديل الذاتي كآليات لضمان حرية الصحافة مع الالتزام بأخلاقيات المهنة، رغم أهمية وقيمة المكاسب التي تحقّقت والتي تبقى منقوصة، لا يجب أن تفسح المجال لنسف هذا المسار الذي بات تفعيله ضرورة قصوى أكثر من أي وقت مضى.

فالتدابير الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد، والتي أدت تقريبا إلى تجميع جميع السلطات بيده، تبقى ظرفية لا تلغي الدستور الذي مازال قائما والذي ينصّ في فصليه 31 و32 على أنّ حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يمكن ممارسة رقابة مسبقة عليها حيث تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة وإلى شبكات الاتصال. كما أنّ قرارات الرئيس سعيّد لا تلغي المراسيم المنظّمة للعمل الصحفي وحرية التعبير والصحافة وهما المرسومان 115 و116.

 

في ظلّ هذا المنعطف الخطير التي تعيشه تونس منذ أيّام، لا مناص من اعتماد آليات التعديل الذاتي بالنسبة للصحفيين التونسيين ووسائل الإعلام التي تعمل في تونس لتكريس أخلاقيات المهنة والحفاظ على جوهر العمل الصحفي؛ وهو السعي إلى الحقيقة دون اكتفاء برواية واحدة، أو خضوع لأي سلطة كانت بما في ذلك سلطة المزاج العام الشعبي المؤيد في جزء كبير منه لقرارات الرئيس قيس سعيّد.

إذ يحقّ للصحفي والوسيلة الإعلامية في إطار حريّة التعبير والتفريق بين الخبر والرأي، أن يصفا ما حصل بالانقلاب الدستوري أو بأنه تصحيح لمسار الثورة تماشيا مع الإرادة الشعبية. لكن ليس من حقه نشر أخبار زائفة أو إقصاء أي طرف سياسي، كما ليس من حقّه الاكتفاء فقط بنشر الرواية الرسمية ونقل البلاغات الجافة التي تنشرها رئاسة الجمهورية أو بقيّة أجهزة الدولة.

تفعيل آلية التعديل الذاتي هو مسؤولية الصحفيين المطالبين باحترام ميثاق الشرف الصحفي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، ومدونات أخلاقيات المهنة بما في ذلك المدونة التي أقرها الاتحاد الدولي للصحفيين في مؤتمره الأخير في تونس سنة 2019، ومواثيق التحرير التي صاغتها وسائل الإعلام نفسها بالشراكة مع الصحفيين العاملين فيها.

إنّ التعديل الذاتي هو أهم آلية في تونس اليوم لحماية حريّة الصحافة من مخاطر الاستهداف والقمع، وهو عملية معقدة ولكنها ضرورية لتجنب الانحراف بدور الإعلام المستقل الذي ينقل الوقائع كما هي ويبحث عن الحقيقة دون خلفيات وفق سياسات تحريرية يختارها القائمون على الصحف والإذاعات والقنوات التلفزية وليس أي سلطة كانت. لكنّ هذا التعديل لا يمكن أن ينجح دون مرافقة من هياكل المهنة ومعاضدة من الهياكل التعديلية مثل هيئة الاتصال السمعي البصري ومجلس الصحافة الذي اكتفى بالصمت حتى الآن، وهو الذي يكاد يتحوّل إلى مؤسسة مشلولة.

لا شكّ في أنّ مسؤولية وسائل الإعلام والصحفيين جسيمة في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس. وضعٌ يحتم التذكير بأنّ لوسائل الإعلام مسؤولية اجتماعية لا تقتضي فقط إخبار الجمهور، بل تنويره عبر تنويع الأشكال/الأنماط الصحفية على غرار التفسير والتحليل والتقصي والتحري في ظلّ احترام التنوع والتعددية الفكرية والسياسيّة.

فالصحفي كما هو الحال بالنسبة لوسيلة الإعلام التي يشتغل فيها، يقبل بالنقد والمساءلة ويتحلى بالشجاعة الأخلاقية للاعتذار كلما كان هناك خطأ مهني مع ضرورة تصويبه. ومسؤولية الإعلام لا تكمن فقط في الإخبار بل هي أيضا مرتبطة بدوره الرقابي كسلطة مضادة ومعدلّة تقوم بدورها النقدي لأي سلطة كانت بما في ذلك رئيس الجمهورية. 

إنّ التعديل الذاتي آلية حتمية في الممارسة الإعلامية في تونس خلال هذه الأزمة من خلال ضرورة التحري في الأخبار والمصادر وعدم الانسياق مع كل ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وتجنب نقل الخطابات العنيفة والمحرضة، والمعلومات والاتهامات الخطيرة التي قد تكون في إطار تصفية حسابات أو رغبة في تأجيج الوضع دون أي أسانيد أو دلائل أو حجج دامغة. بيد أنّه لا يجب تحويل مطلب تفعيل آلية التعديل الذاتي إلى شمّاعة للتغطية على التقصير الحاصل في الضفة المقابلة، لاسيما مؤسسات الدولة التي عليها أن تكون أكثر انفتاحا وشفافية في التعامل مع وسائل الإعلام والصحفيين من خلال احترام حقهم في الحصول على المعلومة. إذ أنّ الرئيس قيس سعيّد لم يقم بأيّ حوار صحفي مطوّل مع وسيلة إعلام تونسية منذ توليه مقاليد الحكم في 2019، إذا ما استثنينا الحوار الذي التزم به بعد مرور 100 يوم على رئاسته، كما أنّ مؤسسة رئاسة الجمهورية تعاني من غياب ناطق رسمي وخطة مستشار إعلامي وهي وضعية تطرح أكثر من نقطة استفهام.

 

More Articles

The Whispers of Resistance in Assad’s Reign

For more than a decade of the Syrian revolution, the former regime has employed various forms of intimidation against journalists—killing, interrogations, and forced displacement—all for a single purpose: silencing their voices. Mawadda Bahah hid behind pseudonyms and shifted her focus to environmental issues after a "brief session" at the Kafar Soussa branch of Syria’s intelligence agency.

Mawadah Bahah
Mawadah Bahah Published on: 18 Feb, 2025
Invisible Crisis: The Deteriorating Mental Health Among African Journalists

The revealing yet underreported impact of mental health on African journalists is far-reaching. Many of them lack medical insurance, support, and counselling while covering sensitive topics or residing in conflicting, violent war zones, with some even considering suicide.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 13 Feb, 2025
Will Meta Become a Platform for Disinformation and Conspiracy Theories?

Meta’s decision to abandon third-party fact-checking in favor of Community Notes aligns with Donald Trump’s long-standing criticisms of media scrutiny, raising concerns that the platform will fuel disinformation, conspiracy theories, and political polarization. With support from Elon Musk’s X, major social media platforms now lean toward a "Trumpian" stance, potentially weakening global fact-checking efforts and reshaping the online information landscape.

Arwa Kooli
Arwa Kooli Published on: 5 Feb, 2025
Charged with Being a Journalist in Sudan

Between the barricades of the conflicting parties, sometimes displaced, and sometimes hiding from bullets, journalist Iman Kamal El-Din lived the experience of armed conflict in Sudan and conveyed to Al-Sahafa magazine the concerns and challenges of field coverage in a time of deception and targeting of journalists.

Iman Kamal El-Din is a Sudanese journalist and writer
Eman Kamal El-Din Published on: 2 Feb, 2025
Sports Photojournalism in Cameroon: A Craft at Risk in the Digital Age

Sports photojournalists in Cameroon face growing challenges, from the rise of mobile photography and content creators to financial struggles, piracy, and a widespread expectation for free images. Despite these obstacles, professionals emphasise the need for innovation, investment in training, and greater respect for their craft to ensure the survival of photojournalism in a rapidly evolving digital landscape.

Akem
Akem Nkwain Published on: 30 Jan, 2025
The Occupation’s War on Journalism in the West Bank

Every day here is a turning point; every moment, every step outside the house could mean returning safely—or not. A journalist may be injured or arrested at any time.” This statement by journalist Khaled Bdeir succinctly captures the harsh reality of practicing journalism in the West Bank, particularly after October 7.

Hoda Abu Hashem
Hoda Abu Hashem Published on: 26 Jan, 2025
From Journalism to Agriculture or “Forced Unemployment” for Sudanese Journalists

How did the war in Sudan push dozens of journalists to change their professions in search of a decent life? In this article, colleague Muhammad Shaarawi recounts the journey of journalists who were forced by war conditions to work in agriculture, selling vegetables, and other professions.

Shaarawy Mohammed
Shaarawy Mohammed Published on: 23 Jan, 2025
October 7: The Battle for Narratives and the Forgotten Roots of Palestine

What is the difference between October 6th and October 7th? How did the media distort the historical context and mislead the public? Why did some Arab media strip the genocidal war from its roots? Is there an agenda behind highlighting the Israel-Hamas duality in news coverage?

Said El Hajji
Said El Hajji Published on: 21 Jan, 2025
Challenges of Unequal Data Flow on Southern Narratives

The digital revolution has widened the gap between the Global South and the North. Beyond theories that attribute this disparity to the North's technological dominance, the article explores how national and local policies in the South shape and influence its narratives.

Hassan Obeid
Hassan Obeid Published on: 14 Jan, 2025
Sound of Change: How Podcasting is Changing Journalism in India

India’s podcasting scene is on the rise, driven by affordable internet and changing content habits, yet still faces challenges like limited monetisation and urban-focused reach. Despite these hurdles, independent creators are using the medium to amplify grassroots narratives, shaping a more inclusive media landscape.

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar, Jyoti Thakur Published on: 9 Jan, 2025
I Resigned from CNN Over its Pro-Israel Bias

  Developing as a young journalist without jeopardizing your morals has become incredibly difficult.

Ana Maria Monjardino
Ana Maria Monjardino Published on: 2 Jan, 2025
Digital Colonialism: The Global South Facing Closed Screens

After the independence of the Maghreb countries, the old resistance fighters used to say that "colonialism left through the door only to return through the window," and now it is returning in new forms of dominance through the window of digital colonialism. This control is evident in the acquisition of major technological and media companies, while the South is still looking for an alternative.

Ahmad Radwan
Ahmad Radwan Published on: 31 Dec, 2024
Fake Accounts with Arab Faces: "A Well-Organized Cyber Army"

Israel has launched a digital war against Palestinians by flooding social media with fake accounts designed to spread disinformation, distort narratives, and demonize Palestinian resistance. These accounts, often impersonating Arabs and mimicking regional dialects, aim to create fake public opinion, promote division among Arab nations, and advance the Israeli agenda in the digital space.

Linda Shalash
Linda Shalash Published on: 29 Dec, 2024
Citizen Journalism in Gaza: "The Last Witness"

With a phone camera, Abboud Battah appears every day from northern Gaza, documenting the crimes of the occupation in a language that is not devoid of spontaneity that led to his being arrested. When the Israeli occupation closed Gaza to the international press, killed journalists, and targeted their headquarters, the voice of the citizen journalist remained a witness to the killing and genocidal war.

Razan Al-Hajj
Razan Al-Hajj Published on: 25 Dec, 2024
A Survivor Interview should not be Considered a Scoop

Do ethical and professional standards allow for interviewing survivors while they are in a state of trauma? How should a journalist approach victims, away from sensationalism and the pursuit of exclusivity at the expense of their dignity and right to remain silent?

Lama Rajeh
Lama Rajeh Published on: 23 Dec, 2024
Censorship, Militarisation, and Dismantlement: How Public Media Became a Political Battlefield in Latin America

Public media in Latin America, such as Brazil's EBC and Argentina's Télam, are being undermined through militarisation and dismantlement, threatening their role as public institutions. These actions jeopardise media independence and weaken their ability to serve the public interest, posing a serious risk to democracy.

Rita Freire Published on: 19 Dec, 2024
Bolivia’s Mines and Radio: A Voice of the Global South Against Hegemony

Miners' radio stations in the heart of Bolivia's mining communities, played a crucial role in shaping communication within mining communities, contributing to social and political movements. These stations intersected with anarchist theatre, educational initiatives, and alternative media, addressing labour rights, minority groups, and imperialism.

Khaldoun Shami PhD
Khaldoun H. Shami Published on: 16 Dec, 2024
Journalists and the Gen–Z protest in Kenya

Caught between enraged protesters and aggressive police officers, journalists risked their lives to keep the world informed about the Gen–Z protests in Kenya. However, these demonstrations also exposed deeper issues regarding press freedom, highlighting a troubling aspect of Ruto’s government.

Shuimo Trust Dohyee
Shuimo Trust Dohyee Published on: 12 Dec, 2024
Behind the Burka: Journalism and Survival Under Taliban Rule

An account of a female Afghan journalist who persisted in her work in spite of the Taliban's comeback, using her writing to expose the harsh realities of oppression and promote women's rights. In defiance of the Taliban government's prohibitions on female education, she oversaw underground schools for girls and reported under a pseudonym while constantly fearing for her safety.

Khadija Haidary
Khadija Haidary Published on: 8 Dec, 2024
Is Pakistan’s Media Ignoring Climate Change?

Pakistan's media, despite its wide reach, largely neglects climate change in favor of political and economic issues, leaving the public under-informed about the causes and consequences of climate-related disasters. As a result, many Pakistanis remain unaware of the growing threats posed by climate change, which has devastating effects on the country's economy and population, as seen in the catastrophic floods of 2022.

Faras Ghani Published on: 3 Dec, 2024
Why Are Journalists Being Silenced in Kashmir?

Since the revocation of Article 370 in 2019, press freedom in Indian-administered Kashmir has sharply declined, with local journalists facing harassment, surveillance, and charges under anti-terror laws, while foreign correspondents are denied access or deported for critical reporting. These measures, aimed at controlling the region’s narrative and projecting normalcy, have drawn widespread criticism from international watchdogs, who warn of increasing suppression of both domestic and foreign media.

headshot
AJR Correspondent Published on: 27 Nov, 2024
Gender Inequity in Sports Reporting: Female Journalists Demand Equality

Gender inequality persists in sports journalism, with female reporters significantly under-represented, as shown by studies revealing that only 5.1% of sports articles are written by women. Advocates call for equal representation, more inclusive hiring practices, and a broader focus on women's sports to challenge stereotypes, improve coverage, and give women a stronger voice in shaping sports narratives.

Akem
Akem Nkwain Published on: 18 Nov, 2024
How Does Misinformation Undermine Public Trust in Journalism?

Reports reveal a growing loss of trust in the media, driven by the extent of misinformation that undermines professional journalism's ability to influence public discourse. The platforms of misinformation, now supported by states and private entities during conflicts and wars, threaten to strip the profession of its core roles of accountability and oversight.

Muhammad Khamaiseh Published on: 13 Nov, 2024
What Explains the Indian Media’s Silence on Muslim Lynchings?

A review of why the Indian media is biased in its coverage of cow vigilantes' lynchings, highlighting how the killing of a Hindu boy by such vigilantes sparked widespread outrage, while the lynching of a Muslim man over similar allegations was largely ignored, reflecting deeper anti-Muslim bias under the ruling BJP government.

Saif Khaled
Saif Khalid Published on: 11 Nov, 2024