التنظيم الذاتي للصحفيين في تونس.. دفاعا عن الحرية

إشاعات من كل حدب وصوب تسري كالنار في الهشيم، أخبار خطيرة متخفية خلف مصادر مجهولة تذاع في وسائل الإعلام، شحّ في المصادر والمعلومات الرسميّة بسبب احتجاب المسؤولين عن الإعلام وارتباك في السياسات الاتصالية للدولة، غياب لخطّة اتصالية واضحة المعالم في مستوى خطورة الأزمة، حملات تهديد واستهداف للصحفيين ولبعض وسائل الإعلام المحليّة وحتّى الدوليّة،  طالت مكتب قناة الجزيرة التي تعمل في البلاد منذ سنوات، ومخاوف جديّة من إمكانية حصول عملية انقضاض على مكتسبات دستور الثورة لاسيما في مجال حرية التعبير والصحافة.

هكذا بدا المشهد الإعلامي في تونس خلال الأيام الماضية، قبيل وغداة إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن جملة من القرارات التي أدخلت البلاد في دوامة جدل دستوري وسياسي جعل بعض المنتقدين يذهب إلى حدّ وصف ما حدث بـ "الانقلاب" على المسار الديمقراطي.

لقد أعاد هذا الوضع الجديد في تونس إلى الواجهة نقاشا محتدما حول معايير مهنة الصحافة وضوابط حرية التعبير والصحافة من منظور دور آليات التعديل الذاتي في زمن الأزمات التزاما بمبادئ المسؤولية الاجتماعية. ودار نقاش مستفيض عجّل بإعادة النظر في دور وسائل الإعلام وهياكل المهنة في الدفاع عن قيم النزاهة والدقّة والموضوعية ضمن التغطيات الإخبارية والسياسات التحريرية في ظلّ مظاهر الاصطفاف والتلاعب بالرأي العام وتهديد حرّية الصحافة من بوابة التوجيه والانحياز للرواية الواحدة.

 

صحافة تحت القصف

لا نبالغ في القول حينما نجزم بأنّ المناخ العام الذي تشتغل فيه وسائل الإعلام في تونس منذ الأيام القليلة الماضية هو الأخطر منذ الثورة.  هذا المناخ مرتبط، بلا شك، بالأزمة السياسية الخانقة التي تصاعدت وتيرتها بعد قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد بتجميد صلاحيات مجلس نواب الشعب، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه، ورفع الحصانة عن جميع البرلمانيين المنتخبين، وذلك في إطار قراءة للدستور يرى أنّها ترتكز على تفعيل الفصل 80 لمدّة 30 يوما، ضمن تدابير قال إنها استثنائية لحماية الدولة من شبح الانهيار والفوضى وتجنيب المجتمع خطر الاقتتال الأهلي.

قراءة الرئيس سعيّد للفصل 80 من الدستور فتحت الباب على مصراعيه لانقسام حاد في الرأي العام التونسي والمواقف الحزبية والمدنيّة، وحتى في ردود الأفعال الدولية؛ وذلك بسبب غياب المحكمة الدستورية التي يحقّ لها –حصرا- النظر في مسألة تأويل الدستور ومدى شرعية مثل هذه القرارات السياسية.

وقد سبقت قرارات رئيس الدولة قيس سعيّد موجةُ احتجاجات شعبية، تزامنت مع ذكرى عيد الجمهورية يوم 25 يوليوز/ تموز 2021.  شهد الشارع التونسي إثر هذه الاحتجاجات أعمال عنف وتخريب وحرق، طالت حتّى مقرات أحزاب من بينها حركة النهضة التي يشرف رئيسها راشد الغنوشي على رئاسة البرلمان التونسي منذ نهاية العام 2019، والتي تقود التحالف السياسي والبرلماني الداعم للحكومة المعفاة.

هذا الوضع السياسي والاجتماعي المحتقن جعل وسائل الإعلام والصحفيين في تونس يشتغلون تحت القصف؛ وطالت الانتقادات والهجمات حتّى الإعلام الرسمي ممثلا في التلفزة التونسية، حيث اتهم الرئيس قيس سعيّد المشرفين على نشرة الأخبار الرئيسية المسائية التي يشاهدها التونسيون بكثافة بالتعتيم على نشاطه، وتهميش ما يقوم به من حراك دبلوماسي لجلب المساعدات إلى تونس لمواجهة أزمة كورونا ونقص مادة الأوكسجين والمعدات الطبية مثل أسرّة الإنعاش فضلا عن شحّ المطاعيم ما تسبّب في ارتفاع نسبة الوفيات.

وكذلك اتُهِمتْ العديد من وسائل الإعلام المحليّة بالتعتيم وتشويه الاحتجاجات الشعبية خدمةً لمصالح الحكومة السابقة وتحالفها السياسي، من خلال محاولة شيطنة المحتجين -حسب تقديرهم- وتصويرهم على أنهم مخربون، دون مراعاة لمشروعية مطالبهم بحلّ البرلمان ومحاسبة الفاسدين وإسقاط الحكومة، فضلا عن حقّهم الدستوري في التظاهر والاحتجاج.

ومما زاد الطين بلّة، سقوط بعض وسائل الإعلام المعروفة بمصداقيتها في نشر أخبار زائفة مثل إشاعة خبر وفاة رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد، ناهيك عن تعرض العديد من الصحفيين والمصورين الصحفيين إلى اعتداءات في الشارع من محتجين من أنصار الأطراف السياسية المتصارعة، كما كان بعض الصحفيين عرضة لتهديدات سياسية وإرهابية وحملات تحريض وتشويه على صفحات التواصل الاجتماعي.

إزاء هذا الظرف الاستثنائي والخطير الذي تمرّ به تونس، لاسيما فيما يخص الحريات والحقوق، سارعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى إصدار بيانات عديدة قامت بالتنديد والتحذير مما يجري، محملة رئيس الجمهورية قيس سعيّد مسؤولية حماية حرّية الصحافة واحترام الدستور خاصة بعد أن أقدم قرابة 20 عون أمنٍ صباح يوم الإثنين 26 يوليو/تموز الجاري على مداهمة مقر قناة "الجزيرة" من الباب الخلفي، مطالبين فريق العمل بالمكتب بمغادرة المقر وغلقه رغم عدم حيازة الأمنيين -الذين اكتفوا بالقول إنهم بصدد تنفيذ تعليمات- على أي قرار قضائي رسمي يتيح ذلك.

عبّرت نقابة الصحفيين التونسيين عن قلقها الشديد من الخطر الذي يهدّد حريّة الصحافة والتعبير والإعلام ومن محاولات إقحامها في الصراع السياسي، ودعت الجميع إلى النأي بالإعلام والصحفيين عن التجاذبات السياسية واحترام مبدأ حرية التعبير والصحافة المكفولة بالدستور، مع تأكيدها على مساندتها المطلقة لما أسمتها بالمطالب المشروعة التي رفعها الشعب التونسي في احتجاجاته الأخيرة التي سبقت قرارات الرئيس قيس سعيّد.

كما دعت لجنة أخلاقيات المهنة بالنقابة الوطنية للصحفيين وسائل الإعلام التي سقطت في مطب نشر أخبار زائفة في ظرف الأزمة الحالية، إلى ضرورة التحري في المصادر قبل نشر مثل هذه الأخبار المغلوطة أو المضللة، مذكرة بميثاق الشرف الصحفي الذي ينصّ على أنّ الصحفي يمتنع عن ذكر أي عنوان أو صفة أو خبر وهمي. وفي السياق ذاته، اعتبرت النقابة أن نشر مثل هذه الأخبار الكاذبة قد يتسبّب في شحن الأجواء، وقد تُأوّلُ على أنّها لفت انتباه عن القضايا الحقيقية التي تَهمُّ المواطن التونسي.

إنّ خطورة مآلات ومستقبل حرية الصحافة في تونس لا تكمن فقط في تحميل المسؤولية للأطراف السياسية وأنصارها في المجتمع وأجهزة الدولة فقط، بل هي أيضا مرتبطة بالمسؤولية الاجتماعية للصحفيين ووسائل الإعلام التي تحتاج إلى الرصانة والتأني في سياساتها التحريرية وتغطيتها الإخبارية، كي لا تقع في فخ الاصطفاف الأعمى والرواية الواحدة التي تفرضها موازين القوى السياسية في الظرف الراهن.

هنا يأتي دور مقاربة التعديل الذاتي كآلية لعدم الانزلاق في خطابات الكراهية والتحريض، أو نشر أخبار زائفة بناءً على مصادر مجهولة تزيد الوضع تأزما من شأنه أن يضعف مصداقية وسائل الإعلام والصحفيين خلال مواجهة محاولات قمعهم بالاستعانة بالقضاء والأمن والجيش، وهو أمر عبرّت هياكل المهنة الصحفية عن رفضها له مهما كانت المسوّغات والتبريرات. فالإعلام سيّد نفسه تضبط عمله مواثيق تحرير وحقوق دستوريّة وقوانين تحمي حريّة التعبير والصحافة.

 

لا سلطان على الصحفيين إلا التعديل الذاتي

على عكس العديد من الدول العربية، اختار المجتمع المدني في تونس، في مقدمته هياكل المهنة الصحفية، طريق إلغاء مؤسسة وزارة الإعلام والاتصال لإنهاء تقليد هيمنة الدولة على وسائل الإعلام والصحفيين.

رفضُ المجتمع المدني في تونس بعد الثورة لوجود وزارة تشرف على الإعلام وتقيّد حريّة الصحافة لتجعل وسائل الإعلام تحت قبضتها وسطوتها، انطلق من تقييم موضوعي تاريخي لتجربة الدولة في علاقة بهذا المجال. 

إنّ هذا المسار الذي انطلق منذ منعطف الثورة في 2011، وأفرز إلغاء وزارة الإعلام ووكالة الاتصال الخارجي التي كانت تمثل اليد اليمنى لنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي لتدجين الصحافة والصحفيين، لم يكن وليد الاعتباطية؛ بل كان نتاجا لتصوّر جديد أجمعت على أهميته مختلف هياكل المهنة الصحفية في تونس، والتي ترى بأنّ دور الدولة في علاقة بالإعلام يكمن أساسا في رسم السياسات العمومية ووضع القوانين لدعم حريّة الصحافة، وأنّ مسألة تنظيم الإعلام وتعديله ذاتيا هي أساسا من مشمولات الصحفيين أنفسهم والمنظمات التي تمثلهم وتدافع عن حقوقهم، فضلا عن الهياكل التعديلية المستقلة المنتخبة ديمقراطيا.

فلسفة التعديل والتعديل الذاتي ضمن هياكل مستقلة عن السلطة التنفيذية هي في الحقيقة مستلهمة من تجارب ديمقراطية عريقة في الدول الغربية. وفي هذا الإطار، أنشئت الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام بعد الثورة، تبعها تأسيس هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري فضلا عن إنشاء مجلس الصحافة.

هذه المؤسسات المستقلة عن السلطة التنفيذية أنيطت بعُهدتها مهمة تنظيم قطاع الإعلام وترسيخ فلسفة التعديل الذاتي الذي يعد من مسؤوليات الصحفيين أنفسهم في غرف الأخبار ومجالس التحرير. 

تجربة تونس الفريدة في هذا المجال عربيا تبدو اليوم مهدّدة في ظلّ محاولات توظيف القضاء والأمن والجيش للضغط على وسائل الإعلام والصحفيين من أجل ترهيبهم وقمعهم. من هذا المنطلق تكثفت الدعوات المهنية لتفعيل آلية التعديل الذاتي من أجل تبيان قيمتها وأهميتها، ليلعب الإعلام دوره الحيوي رغم الأزمة الحاصلة ومخاطر الانزلاق مجددا نحو مربع مصادرة الدولة لحريّة الصحافة التي تعتبر من أهم المكاسب إن لم نقل المكسب الوحيد بعد الثورة.

وعموما، يمكن تقسيم تعديل الإعلام والاتصال إلى ثلاثة فروع بحسب ورقة بحثية صادرة عن منظمة سوليدار تونس:

 

- احترام القواعد الاقتصادية، خاصة من مقاومة تركيز ملكية وسائل الإعلام ومواقع الهيمنة الاقتصادية، وإرساء التوازن بين مختلف المؤسسات والمتدخلين الناشطين في القطاع.  ومن هذه الزاوية لا يتميز التعديل باعتباره تعديلا لقطاع اقتصادي. لكنّ الإعلام ليس مجرد قطاع اقتصادي وليس قطاعا كالقطاعات الأخرى، وإنما لديه ارتباط وثيق بالحريات ولذلك فإن تعديله، فضلا عن بعده الاقتصادي، هو تعديل للحريات وحمايتها وتعزيزها وتأطيرها. على هذا النحو، يهدف تعديل الإعلام الى ضمان حرية التعبير والتعددية في الرأي والإعلام وإلى حماية استقلالية المؤسسات الإعلامية والصحفيين من مختلف الضغوطات والتضييقات التي يمكن أن تمارسها مختلف القوى السياسية والاقتصادية، بهدف إخضاعه وتوظيفه بشكل يضُرّ بمصداقيته وبالمصلحة العامة وبحق المواطنين في إعلام مهني ونزيه. 

- احترام قواعد أخلاقيات المهنة لضمان إعلام مهني وموضوعي ومتوازن والحماية من الانحرافات والتجاوزات، خاصة على مستوى مضامين المادة الإعلامية وأساليب العمل الإعلامي.

وتجد خصوصية التعديل في قطاع الإعلام أسسها في أنّ هذا القطاع يواجه تأثيرات وضغوطات متنوعة ومتعددة الأطراف. فإن كان تدخل الدولة قد يحمي حرية التعبير والإعلام والاتصال من ضغوطات المصالح الاقتصادية، فإنّه كذلك يحمل مخاطر الوصاية السياسية، ولذلك فإن التعديل المستقل يمثل حلا وسطا يمكّن من الحماية من ضغوطات الدولة ومن اللوبيات الاقتصادية والمالية، ودعم استقلالية الفاعلين في القطاع سواء كانوا مؤسسات أو أفرادا.

- تعني الاستقلالية قيام الأفراد أو الهيئات، بإنتاج الفعل غير المُملى، وغير الموجّه من أي جهة مهما كانت، بناءً على قناعة معينة تسعى لبناء رؤية تهدف إلى خدمة المصلحة العامة والقضايا الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، دون تحيّز إلى هذه الجهة أو تلك، ودون رغبة في تحقيق غاية معينة، يلتمس من ورائها إرضاء أي جهة. ويطرح هذا المفهوم ضرورة احترام الممارسة الديمقراطية بمضمونها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي والمدني، والسياسي، ما يتيح الفرصة أمام ممارسة الإعلام المستقل. 

وانطلاقا من هذا التصور لاستقلالية الإعلام فإنّ التعديل يسعى وفق نفس الوثيقة البحثية المرجعية إلى:

- ألا يكون الإعلام منبرا لوجهة نظر الدولة بسلطاتها الثلاث، وخاصة التشريعية والتنفيذية تجاه القضايا الاقتصادية، أو الاجتماعية أو الثقافية، أو المدنية، أو السياسية، ولكنّه، في نفس الوقت، معني بالإخبار عما تقوم به الدولة في مختلف المجالات، دون تحديد موقف معين من ذلك.

- ألا يكون منبرا للحكومة بمعنى السلطة التنفيذية، التي يتحكم فيها حزب معين، أو مجموعة من الأحزاب، حتى يتأتى الابتعاد عن احتواء الحكومة، أو حزبها، أو أحزابها له، وحتى يتمكّن من تجسيد الحياد اللازم تجاه العمل الحكومي، وتجاه أحزاب الحكومة.

- ألا يكون منبرا لحزب معين، أو لمجموعة من الأحزاب المعارضة للحكومة، حتى يبقى بعيدا تماما عن الانحياز إلى المعارضة كيفما كان شكلها.

وحياد الإعلام المستقل، لا يمنع من أن يكون مجالا لعرض ما تقوم به الدولة، والحكومة وأحزابها المختلفة، وما تقوم به أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، دون تحيز لأيّ منها. وبذلك تكون استقلالية الإعلام مجسّدة على أرض الواقع، وعلى جميع المستويات، حتى يتأتى لها القيام بدورها كاملا في خدمة المعلومة المجردة إلا من الانحياز إلى خدمة الحقيقة، ما يساهم في رفع وعي جميع أفراد المجتمع على جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. وهذا ما يحتاجه الإعلام العمومي بالخصوص باعتباره المهدد أكثر من غيره من ميل من يمسك السلطة إلى الإفراط في استخدامها.

 

وتعاني ثقافة التعديل في تونس من هشاشة حقيقية نظرا لإرث تميز بتغييبها كليا ونظرا للسياق الانتقالي، فرغم ما تحقق فيه من خطوات وتطورات مهمة، ما زالت الأُطر القانونية والمؤسساتية المنظمة للمشهد الإعلامي والحامية لحريته لم ترسخ بشكل نهائي. أما بعض أصناف الإعلام كالإعلام المكتوب والإلكتروني فلم ترس أصلا، وفق نفس الدارسة.

إنّ حدود التجربة التونسية في مجال التعديل والتعديل الذاتي كآليات لضمان حرية الصحافة مع الالتزام بأخلاقيات المهنة، رغم أهمية وقيمة المكاسب التي تحقّقت والتي تبقى منقوصة، لا يجب أن تفسح المجال لنسف هذا المسار الذي بات تفعيله ضرورة قصوى أكثر من أي وقت مضى.

فالتدابير الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد، والتي أدت تقريبا إلى تجميع جميع السلطات بيده، تبقى ظرفية لا تلغي الدستور الذي مازال قائما والذي ينصّ في فصليه 31 و32 على أنّ حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يمكن ممارسة رقابة مسبقة عليها حيث تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة وإلى شبكات الاتصال. كما أنّ قرارات الرئيس سعيّد لا تلغي المراسيم المنظّمة للعمل الصحفي وحرية التعبير والصحافة وهما المرسومان 115 و116.

 

في ظلّ هذا المنعطف الخطير التي تعيشه تونس منذ أيّام، لا مناص من اعتماد آليات التعديل الذاتي بالنسبة للصحفيين التونسيين ووسائل الإعلام التي تعمل في تونس لتكريس أخلاقيات المهنة والحفاظ على جوهر العمل الصحفي؛ وهو السعي إلى الحقيقة دون اكتفاء برواية واحدة، أو خضوع لأي سلطة كانت بما في ذلك سلطة المزاج العام الشعبي المؤيد في جزء كبير منه لقرارات الرئيس قيس سعيّد.

إذ يحقّ للصحفي والوسيلة الإعلامية في إطار حريّة التعبير والتفريق بين الخبر والرأي، أن يصفا ما حصل بالانقلاب الدستوري أو بأنه تصحيح لمسار الثورة تماشيا مع الإرادة الشعبية. لكن ليس من حقه نشر أخبار زائفة أو إقصاء أي طرف سياسي، كما ليس من حقّه الاكتفاء فقط بنشر الرواية الرسمية ونقل البلاغات الجافة التي تنشرها رئاسة الجمهورية أو بقيّة أجهزة الدولة.

تفعيل آلية التعديل الذاتي هو مسؤولية الصحفيين المطالبين باحترام ميثاق الشرف الصحفي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، ومدونات أخلاقيات المهنة بما في ذلك المدونة التي أقرها الاتحاد الدولي للصحفيين في مؤتمره الأخير في تونس سنة 2019، ومواثيق التحرير التي صاغتها وسائل الإعلام نفسها بالشراكة مع الصحفيين العاملين فيها.

إنّ التعديل الذاتي هو أهم آلية في تونس اليوم لحماية حريّة الصحافة من مخاطر الاستهداف والقمع، وهو عملية معقدة ولكنها ضرورية لتجنب الانحراف بدور الإعلام المستقل الذي ينقل الوقائع كما هي ويبحث عن الحقيقة دون خلفيات وفق سياسات تحريرية يختارها القائمون على الصحف والإذاعات والقنوات التلفزية وليس أي سلطة كانت. لكنّ هذا التعديل لا يمكن أن ينجح دون مرافقة من هياكل المهنة ومعاضدة من الهياكل التعديلية مثل هيئة الاتصال السمعي البصري ومجلس الصحافة الذي اكتفى بالصمت حتى الآن، وهو الذي يكاد يتحوّل إلى مؤسسة مشلولة.

لا شكّ في أنّ مسؤولية وسائل الإعلام والصحفيين جسيمة في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس. وضعٌ يحتم التذكير بأنّ لوسائل الإعلام مسؤولية اجتماعية لا تقتضي فقط إخبار الجمهور، بل تنويره عبر تنويع الأشكال/الأنماط الصحفية على غرار التفسير والتحليل والتقصي والتحري في ظلّ احترام التنوع والتعددية الفكرية والسياسيّة.

فالصحفي كما هو الحال بالنسبة لوسيلة الإعلام التي يشتغل فيها، يقبل بالنقد والمساءلة ويتحلى بالشجاعة الأخلاقية للاعتذار كلما كان هناك خطأ مهني مع ضرورة تصويبه. ومسؤولية الإعلام لا تكمن فقط في الإخبار بل هي أيضا مرتبطة بدوره الرقابي كسلطة مضادة ومعدلّة تقوم بدورها النقدي لأي سلطة كانت بما في ذلك رئيس الجمهورية. 

إنّ التعديل الذاتي آلية حتمية في الممارسة الإعلامية في تونس خلال هذه الأزمة من خلال ضرورة التحري في الأخبار والمصادر وعدم الانسياق مع كل ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وتجنب نقل الخطابات العنيفة والمحرضة، والمعلومات والاتهامات الخطيرة التي قد تكون في إطار تصفية حسابات أو رغبة في تأجيج الوضع دون أي أسانيد أو دلائل أو حجج دامغة. بيد أنّه لا يجب تحويل مطلب تفعيل آلية التعديل الذاتي إلى شمّاعة للتغطية على التقصير الحاصل في الضفة المقابلة، لاسيما مؤسسات الدولة التي عليها أن تكون أكثر انفتاحا وشفافية في التعامل مع وسائل الإعلام والصحفيين من خلال احترام حقهم في الحصول على المعلومة. إذ أنّ الرئيس قيس سعيّد لم يقم بأيّ حوار صحفي مطوّل مع وسيلة إعلام تونسية منذ توليه مقاليد الحكم في 2019، إذا ما استثنينا الحوار الذي التزم به بعد مرور 100 يوم على رئاسته، كما أنّ مؤسسة رئاسة الجمهورية تعاني من غياب ناطق رسمي وخطة مستشار إعلامي وهي وضعية تطرح أكثر من نقطة استفهام.

 

المزيد من المقالات

الوقفة أمام الكاميرا.. هوية المراسل وبصمته

ماهي أنواع الوقفات أمام الكاميرا؟ وما وظائفها في القصة التلفزيونية؟ وكيف يمكن للصحفي استخدامها لخدمة زوايا المعالجة؟ الزميل أنس بنصالح، الصحفي بقناة الجزيرة، راكم تجربة ميدانية في إنتاج القصص التلفزيونية، يسرد في هذا المقال لماذا تشكل الوقفة أمام الكاميرا جزءا أصيلا من التقارير الإخبارية والإنسانية.

أنس بن صالح نشرت في: 18 فبراير, 2025
قتل واستهداف الصحفيين.. لماذا تفلت إسرائيل من العقاب؟

لماذا تفلت إسرائيل من العقاب بعد قتلها أكثر من 200 صحفي؟ هل بسبب بطء مساطر وإجراءات المحاكم الدولية أم بسبب فشل العدالة في محاسبة الجناة؟ ألا يشجع هذا الإفلات على استهداف مزيد من الصحفيين وعائلاتهم ومقراتهم؟

ناصر عدنان ثابت نشرت في: 16 فبراير, 2025
الصحفيون الفريلانسرز.. تجارب عربية في مواجهة "الحرس القديم"

في الأردن كما في لبنان ما يزال الصحفيون الفريلانسرز يبحثون عن الاعترافيْن النقابي والقانوني. جيل جديد من الصحفيين إما متحررين من رقابة مؤسسات وسائل الإعلام أو اضطرتهم الظروف للعمل كمستقلين يجدون أنفسهم في مواجهة "حرس قديم" يريد تأميم المهنة.

بديعة الصوان, عماد المدولي نشرت في: 12 فبراير, 2025
العنف الرقمي ضد الصحفيات في لبنان

تواجه الصحفيات اللبنانيات أشكالا مختلفة من العنف الرقمي يصل حد التحرش الجنسي والملاحقات القضائية و"المحاكمات الأخلاقية" على وسائل التواصل الاجتماعي. تحكي الزميلة فاطمة جوني قصص صحفيات وجدن أنفسهن مجردات من حماية المنظمات المهنية.

فاطمة جوني نشرت في: 9 فبراير, 2025
الصحافة والجنوب العالمي و"انتفاضة" مختار امبو

قبل أسابيع، توفي في العاصمة السنغالية داكار أحمد مختار امبو، الذي كان أول أفريقي أسود يتولى رئاسة منظمة دولية كبر

أحمد نظيف نشرت في: 3 فبراير, 2025
الصحفي الرياضي في مواجهة النزعة العاطفية للجماهير

مع انتشار ظاهرة التعصب الرياضي، أصبح عمل الصحفي محكوما بضغوط شديدة تدفعه في بعض الأحيان إلى الانسياق وراء رغبات الجماهير. تتعارض هذه الممارسة مع وظيفة الصحافة الرياضية التي ينبغي أن تراقب مجالا حيويا للرأسمال السياسي والاقتصادي.

أيوب رفيق نشرت في: 28 يناير, 2025
الاحتلال الذي يريد قتل الصحافة في الضفة الغربية

"كل يوم يعيش الصحفي هنا محطة مفصلية، كل يوم كل ثانية، كل خروج من المنزل محطة مفصلية، لأنه قد يعود وقد لا يعود، قد يصاب وقد يعتقل"، تختصر هذه العبارة للصحفي خالد بدير واقع ممارسة مهنة الصحافة بالضفة الغربية خاصة بعد السابع من أكتوبر

Hoda Abu Hashem
هدى أبو هاشم نشرت في: 21 يناير, 2025
لماذا يجب أن يحْذر الصحفيون من المصادر الإسرائيلية؟

دعاية وإشاعات وأخبار متضاربة رافقت المفاوضات العسيرة لصفقة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، اعتمدت خلالها الكثير من المؤسسات الإعلامية العربية على المصادر العبرية لمتابعة فصولها. ما هو الفرق بين نقل الخبر والرأي والدعاية إلى الجمهور العربي؟ وكيف أثرت الترجمة "العشوائية" على الجمهور الفلسطيني؟ وما الحدود المهنية للنقل عن المصادر الإسرائيلية؟

أحمد الأغا نشرت في: 20 يناير, 2025
هل ستصبح "ميتا" منصة للتضليل ونظريات المؤامرة؟

أعلن مارك زوكربيرغ، أن شركة "ميتا" ستتخلى عن برنامج تدقيق المعلومات على المنصات التابعة للشركة متأثرا بتهديدات "عنيفة" وجهها له الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب. هل ستساهم هذه الخطوة في انتعاش نظريات المؤامرة وحملات التضليل والأخبار الزائفة أم أنها ستضمن مزيدا من حرية التعبير؟

Arwa Kooli
أروى الكعلي نشرت في: 14 يناير, 2025
التعليق الوصفي السمعي للمكفوفين.. "لا تهمنا معارفك"!

كيف تجعل المكفوفين يعيشون التجربة الحية لمباريات كأس العالم؟ وهل من الكافي أن يكون المعلق الوصفي للمكفوفين يمتلك معارف كثيرة؟ الزميل همام كدر، الإعلامي بقنوات بي إن سبورتس، الذي عاش هذه التجربة في كأسي العرب والعالم بعد دورات مكثفة، يروي قصة فريدة بدأت بشغف شخصي وانتهت بتحد مهني.

همام كدر نشرت في: 12 يناير, 2025
لماذا عدت إلى السودان؟

قبل أكثر من سنة من الآن كان محمد ميرغني يروي لمجلة الصحافة كيف قادته مغامرة خطرة للخروج من السودان هربا من الحرب، بينما يروي اليوم رحلة العودة لتغطية قصص المدنيين الذين مزقتهم الحرب. لم تكن الرحلة سهلة، ولا الوعود التي قدمت له بضمان تغطية مهنية "صحيحة"، لأن صوت البندقية هناك أقوى من صوت الصحفي.

محمد ميرغني نشرت في: 8 يناير, 2025
الصحافة العربية تسأل: ماذا نفعل بكل هذا الحديث عن الذكاء الاصطناعي؟

كيف أصبح الحديث عن استعمال الذكاء الاصطناعي في الصحافة مجرد "موضة"؟ وهل يمكن القول إن الكلام الكثير الذي يثار اليوم في وسائل الإعلام عن إمكانات الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي ما يزال عموميّا ومتخيّلا أكثر منه وقائع ملموسة يعيشها الصحفيون في غرف الأخبار؟

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 2 يناير, 2025
ما ملامح المشهد الإعلامي سنة 2025؟

توهج صحافة المواطن، إعادة الاعتبار لنموذج المحتوى الطويل، تطور الفيديو، استكشاف فرص الذكاء الاصطناعي هي العناصر الأساسية لتوقعات المشهد الإعلامي لسنة 2025 حسب تقرير جديد لنيمان لاب التابع لجامعة هارفارد.

عثمان كباشي نشرت في: 31 ديسمبر, 2024
التضليل في سوريا.. فوضى طبيعية أم حملة منظمة؟

فيديوهات قديمة تحرض على "الفتنة الطائفية"، تصريحات مجتزأة من سياقها تهاجم المسيحيين، مشاهد لمواجهات بأسلحة ثقيلة في بلدان أخرى، فبركة قصص لمعتقلين وهميين، وكم هائل من الأخبار الكاذبة التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد: هل هي فوضى طبيعية في مراحل الانتقال أم حملة ممنهجة؟

فرحات خضر نشرت في: 29 ديسمبر, 2024
طلبة الصحافة في غزة.. ساحات الحرب كميدان للاختبار

مثل جميع طلاب غزة، وجد طلاب الإعلام أنفسهم يخوضون اختبارا لمعارفهم في ميادين الحرب بدلا من قاعات الدراسة. ورغم الجهود التي يبذلها الكادر التعليمي ونقابة الصحفيين لاستكمال الفصول الدراسية عن بعد، يواجه الطلاب خطر "الفراغ التعليمي" نتيجة تدمير الاحتلال للبنية التحتية.

أحمد الأغا نشرت في: 26 ديسمبر, 2024
الضربات الإسرائيلية على سوريا.. الإعلام الغربي بين التحيز والتجاهل

مرة أخرى أطر الإعلام الغربي المدنيين ضمن "الأضرار الجانبية" في سياق تغطية الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا. غابت لغة القانون الدولي وحُجبت بالكامل مأساة المدنيين المتضررين من الضربات العسكرية، بينما طغت لغة التبرير وتوفير غطاء للاحتلال تحت يافطة "الحفاظ على الأمن القومي".

Zainab Afifa
زينب عفيفة نشرت في: 25 ديسمبر, 2024
صحافة المواطن في غزة.. "الشاهد الأخير"

بكاميرا هاتف، يطل عبود بطاح كل يوم من شمال غزة موثقا جرائم الاحتلال بلغة لا تخلو من عفوية عرضته للاعتقال. حينما أغلق الاحتلال الإسرائيلي غزة على الصحافة الدولية وقتل الصحفيين واستهدف مقراتهم ظل صوت المواطن الصحفي شاهدا على القتل وحرب الإبادة الجماعية.

Razan Al-Hajj
رزان الحاج نشرت في: 22 ديسمبر, 2024
مقابلة الناجين ليست سبقا صحفيا

هل تجيز المواثيق الأخلاقية والمهنية استجواب ناجين يعيشون حالة صدمة؟ كيف ينبغي أن يتعامل الصحفي مع الضحايا بعيدا عن الإثارة والسعي إلى السبق على حساب كرامتهم وحقهم في الصمت؟

Lama Rajeh
لمى راجح نشرت في: 19 ديسمبر, 2024
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة

طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.

Mawadah Bahah
مودة بحاح نشرت في: 17 ديسمبر, 2024
الاستعمار الرقمي.. الجنوب العالمي أمام شاشات مغلقة

بعد استقلال الدول المغاربية، كان المقاومون القدامى يرددون أن "الاستعمار خرج من الباب ليعود من النافذة"، وها هو يعود بأشكال جديدة للهيمنة عبر نافذة الاستعمار الرقمي. تبرز هذه السيطرة في الاستحواذ على الشركات التكنولوجية والإعلامية الكبرى، بينما ما يزال الجنوب يبحث عن بديل.

Ahmad Radwan
أحمد رضوان نشرت في: 9 ديسمبر, 2024
الجنوب العالمي.. مناجم بوليفيا والإعلام البديل

هل أسست إذاعات المناجم في بوليفيا لتوجه جديد في دراسات الاتصال الواعية بتحديات الجنوب العالمي أم كانت مجرد حركة اجتماعية قاومت الاستبداد والحكم العسكري؟ وكيف يمكن قراءة تطور إذاعات المناجم على ضوء جدلية الشمال والجنوب؟

Khaldoun Shami PhD
خلدون شامي نشرت في: 4 ديسمبر, 2024
تحديات تدفق البيانات غير المتكافئ على سرديات الجنوب

ساهمت الثورة الرقمية في تعميق الفجوة بين دول الجنوب والشمال، وبعيدا عن النظريات التي تفسر هذا التدفق غير المتكافئ بتطور الشمال واحتكاره للتكنولوجيا، يناقش المقال دور وسياسات الحدود الوطنية والمحلية لدول الجنوب في في التأثير على سرديات الجنوب.

Hassan Obeid
حسن عبيد نشرت في: 1 ديسمبر, 2024
عمر الحاج.. مذكرات مراسل الجزيرة في سجون "داعش"

بين زمن الاعتقال وزمن الكتابة ست سنوات تقريبا، لكن عمر الحاج يحتفظ بذاكرة حية غنية بالتفاصيل عن تجربة الاعتقال في سجون تنظيم الدولة الإسلامية (المعروفة بداعش). "أسير الوالي.. مذكرات مراسل الجزيرة في سجون تنظيم الدولة الإسلامية"، ليس سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي، بل كتاب يجمع بين السيرة الغيرية والأفق المعرفي والسرد القصصي.

محمد أحداد نشرت في: 27 نوفمبر, 2024
عن الصحافة الليبرالية الغربية وصعود الشعبويّة المعادية للإعلام

بنى إيلون ماسك، مالك منصة إكس، حملته الانتخابية المساندة لدونالد ترامب على معاداة الإعلام الليبرالي التقليدي. رجل الأعمال، الذي يوصف بأنه أقوى رجل غير منتخب في الولايات المتحدة الأمريكية، يمثل حالة دالة على صعود الشعبوية المشككة في وسائل الإعلام واعتبارها أدوات "الدولة العميقة التي تعمل ضد "الشعب".

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 24 نوفمبر, 2024