من منا يمكنه أن يدعي اليوم قدرته على التدوين والتغريد بكل حرية واستعمال كلمات وعبارات تشير إلى (إسرائيل أو الصهيونية أو السامية أو حركة حماس أو حزب الله أو كراهية الإسلام… إلخ)، دون أن يخاف من إغلاق حساباته الشخصية على فيسبوك أو تويتر، بشكل مؤقت أو دائم؟
ألم نطوّر أساليب "ساذجة" للتحايل على خوارزميات عمالقة وادي السيليكون؛ من قبيل كتابة الكلمة المحظورة مقسمة إلى شطرين أو ثلاثة؟ ألم يستيقظ بعضنا يوما على عقوبات صارمة تمنعه من الكتابة والنشر دون سابق إخطار ولا محاكمة ولا تبليغه بحكم قضائي؟
إننا بصدد دخول فصل جديد مما عاشته الصحافة من تحولات خلال الأعوام الـ 20 الأخيرة، والتي يمكن إجمالها في ثلاثة تحولات كبرى: الأول هو الانتقال من نمط البث التقليدي إلى الرقمي، والثاني هو ظهور مجتمع الإنترنت، وأخيرا هيمنة الهواتف المحمولة على نمط استهلاك المحتوى الإعلامي. وقد أثرت هذه التحولات -وخاصة الأخير منها- على النموذج الاقتصادي والقواعد المهنية بشكل كبير.
فمن الناحية السياسية، بات عمالقة الإنترنت يبسطون سيطرتهم على الرأي العام (الدولي والداخلي للدول). ومن الناحية الاقتصادية، سحب عمالقة وادي السيليكون من مؤسسات الصحافة التقليدية سوق الإعلانات، وفرضوا أنفسهم وسيطا بينها وبين الجمهور بعدما سحبوا منها وظيفة "الناشر". أما مهنيا، فإن الشبكات الاجتماعية أدت إلى تهميش صحافة الاستقصاء وصحافة قيم المواطنة والمشاركة والقرب والإنسانية، وعزّزت نمط الأخبار السريعة والمثيرة، بصرف النظر عن صحتها وتوازنها.
وبالتالي، فإن سؤالا عريضا بات يخيم على دول العالم، بديمقراطياتها ودكتاتورياتها: من الذي سيضع حدود حرية الرأي والتعبير؟ هل هي البرلمانات الوطنية أو أشخاص غير معروفين يعملون لصالح منصات وادي السيليكون؟ والجواب الوحيد المتوفر حتى الآن، هو أن المنصات الرقمية سيدة الموقف (1).
انقلاب السحر على الساحر؟
بقدر ما شكّلت تغريدات وآراء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب مصدر انزعاج بل وخوف لدى الكثيرين، كانت الرقابة الفجة التي تعرض لها في آخر أيامه داخل البيت الأبيض من طرف عمالقة المنصات الإلكترونية -خاصة تويتر وفيسبوك- سببا لهلع عالمي من تلك السلطة اللامحدودة التي باتت هذه الكائنات المستحدثة تملكها. بل إن هذا الوضع المهيمن أثار أسئلة كبيرة ساد الاعتقاد طويلا بأنها تلقت أجوبة حاسمة، من قبيل مصير الديمقراطية والحرية على شاكلتها الغربية (2).
في شبه ضربة عسكرية خاطفة، أصدرت منصة "تويتر" يوم 8 يناير/كانون الثاني 2021 قرارا بحذف الحساب الخاص بالرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترمب، بما راكمه من متابعين يناهزون التسعين مليونا. ثم توالت القرارات المماثلة من منصات "فيسبوك" و"يوتيوب" و"إنستغرام".
لقد استبقت منصات وادي السيليكون مداولات الكونغرس الأمريكي وقرارات المحكمة العليا، وأنهت عمليّا ولاية رئيس أمريكي منتخب بكل التعقيدات التي ينطوي عليها النظام السياسي والانتخابي الأمريكي (3).
بدأت القصة يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، حين وجّه دونالد ترمب نداء إلى أنصاره بالتظاهر قبالة مقر الكونغرس والاحتجاج ضد ما يصفه بـ "تزوير الانتخابات".
لم يكن أحد يتوقع ما سيتلو ذلك النداء؛ إذ جرى اقتحام مقر البرلمان الأمريكي وتخريب محتوياته ودفع أعضائه وضيفهم، نائب الرئيس الأمريكي، إلى الفرار تحت حراسة أمنية مشددة.
وبناء على ذلك كله، قرر تويتر حذف حساب الرئيس بشكل نهائي، لتقتفي آثاره بعد ذلك كل من فيسبوك ويوتيوب وإنستغرام (4).
ردة فعل معسكر ترمب لم تتأخر، وسرعان ما ارتفعت أسهم تطبيق بديل معروف بمحتواه المحافظ، وهو تطبيق Parler، حيث انطلقت موجة محمومة لتحميله داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وتصاعدت -إلى جانب ذلك- شحنة التطرف والعنصرية في الخطابات المنشورة عبر هذه المنصة، بما فيها دعوات للقيام باحتجاجات جديدة شبيهة بتلك التي استهدفت مبنى الكونغرس، ما اضطر كلّا من "غوغل" و"آبل" إلى سحب هذا التطبيق من قائمة منتوجاتهما (5).
المخيف في هذه القصة ليس "الحجر" المباشر على رئيس منتخب من طرف الشعب، بل إن هذه المنصات التي قامت بتكميم فمه وتقييد لسانه، هي نفسها التي دفعت أنصاره نحو التطرف وحفّزتهم على استباحة المؤسسات، وشكّلت منصة هجوم بالنسبة للرئيس الشعبوي دونالد ترمب.
وإذا كانت هذه المنصات تبرر سلوكها بانتصارها للحقوق والحريات والاصطفاف إلى جانب المعسكر التقدمي، فمن سيضمن عدم انقلاب هذه المنصات العملاقة على "دستورها" الذي وضعته من تلقاء نفسها؟ وكيف أصبح بضعة مهندسين يقومون مقام الآباء المؤسسين للتجارب الديمقراطية الكبرى والتجارب الثورية والمؤسسات البرلمانية والمحاكم العليا؟ وهل أصبح تقييد الحقوق والحريات اختصاصا صريحا لشركات خاصة؟
دكتاتورية التقنية
إنها أول مرة تجد فيها الإنسانية نفسها أمام مأزق يهدد حريتها بالكامل: موظف بيروقراطي بخلفية تقنية أو اقتصادية خالصة يجلس في برج عاجي خلف شاشة حاسوب أو هاتف ذكي، يقرر في حق مواطني العالم في القول والتعبير، من أبسطهم مكانة وأقلهم نفوذا، إلى أقواهم؛ بمن فيهم ساكن البيت الأبيض.
في الماضي كان مفكرون وفلاسفة وأكاديميون يتولون وضع مثل هذه القواعد، بما فيها تلك التي تهم النشر عبر الكتب والصحافة؛ بينما أصبح الأمر حاليا بين أيدي مهندسين فنيين شباب، يبرمجون المنصات الرقمية عبر خوارزميات معقدة، لتملي على الهواتف الذكية ما تنقله وما تحجبه عن الجمهور.
لقد صنع النموذج الخاص بعمالقة الإنترنت مجده على فكرة بسيطة، ولا تكاد خطورتها تنفك عن بساطتها هذه، وتتمثل في جمع المعطيات الشخصية للمستعملين ورصد تفاصيل سلوكهم اليومي، وبيع ذلك كله للمعلنين، وأحيانا لأجهزة التجسس والمتلصصين.
وبذلك؛ أصبحت منصات عمالقة الإنترنت أشبه بدول قائمة السيادة، ما يثير إشكالية الحدود الفاصلة بين "الحماية" و"الرقابة". فهؤلاء الذين نسميهم "عمالقة" -الذين ينتمي جلهم لمنصات وادي السيليكون الأمريكية- اتخذوا حزمة من الإجراءات التي تحد من رواج منتوجات تسوقها منظمات منتمية إلى تيار النازيين الجدد أو تحمل خطابا عنصريا أو تحريضا على العنف.
وبقدر ما أثاره ذلك من ارتياح، أثار، أيضا، مخاوف أخرى حول حق هذه المنصات في إصدار قرارات على أساس فكري، وحلولها محل الدستور الأمريكي وتعديله الأول. والذي كان إلى وقت قريب ضمانة مطمئنة لنشطاء الحرية عبر العالم، حيث كان يوحي بأن دولة الحرية والليبرالية لن تسمح بخروج عفريت القمع من قمقم ديمقراطيتها.
بالنسبة للقانون الأمريكي الذي تتبع له شركات وادي السيليكون، تعتبر المنصة الرقمية للشبكات الاجتماعية بمنزلة "مضيف" يحتضن المحتوى داخل خوادمه، وليس "ناشرا" بالمعنى التقليدي، ما يجنّبها أية ملاحقة قانونية أو قضائية.
إنه وضع أخل بالنظام الذي استقر عليه الأمر مع الصحافة التقليدية على مدى عقود -إن لم يكن طيلة قرون- إذ أصبح المجال الرقمي يعج بملايين الناشرين، وبالتالي أصبحنا أمام شبه استحالة ملاحقتهم جميعا في حال تداولهم محتوى غير قانوني أو غير أخلاقي.
وحدها سلطة عمالقة وادي السيليكون تعززت في هذا الخضم، وهو ما سمح لها بمعاملة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مثل أي مغرد في أقصى الأرض. ولم يقع هذا الإجراء تحت طائلة أي نص دستوري أو قانوني، بل تتمتع هذه المنصات بحصانة يمنحها لها قرار صادر عن المحكمة العليا يعرف باسم Communications Decency Act، صدر عام 1997 ضد قانون حاول الحد من تداول المواد الإباحية عبر الإنترنت (6).
افتراس الحقوق والحريات
لا تكتفي المنصات الرقمية بالتلصص على أسرار الناس وخصوصياتهم فحسب، بل توظف سلاحا شديد الفتك أطلق عليه اسم "الأخبار الزائفة"، تجاوز في قوته التدميرية فنون الدعاية والتضليل التي طورتها البشرية في السابق (7). وسعيا إلى تلطيف هذا السلاح المدمر منح له لبوس صحفي، كي يبدو مجرد انحراف مهني في حرفة أريد لها أن تبدو كما لو تعجز عن اللحاق بركب التاريخ وتطور التكنولوجيا.
الأدهى من ذلك، ما باتت تكشفه الفضائح المتتالية لكيفية استغلال عمالقة وادي السيليكون لما يحوزونه من أسرار ومعطيات عن مستخدميهم، وتورُّطهم المكشوف في تمكين وكالات التجسس من رقاب الجمهور.
ففي يونيو/حزيران 2013، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية في موقعها، تسريبات عن الوكالة الأمريكية الوطنية التابعة للوكالة الأمريكية، تتضمن معطيات خاصة عن الأشخاص أو ما يسمى بـ"مراقبة الجماهير"، من خلال الإنترنت وشركات الخدمة الكبرى التي قد تكون متواطئة، أو تحت ضغط الوكالة. وهذا ما عاد بطلُ التسريبات الصادمة إدوارد سنودن، ليشرحه بإسهاب في كتاب "السجل الدائم" الذي رصد فيه فنون مراقبة الجماهير باستعمال الإنترنت (8).
قصة تسريبات سنودن للعام 2013، رفعت الغطاء عن جزء من الحديقة السرية لعمالقة الإنترنت. لقد تبيّن أن قناعة راسخة استبدت بالعقل الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر، مفادها أن مراقبة البشر -جماعات وأفرادا- أمر حتمي لتجنب الأسوأ. ومن ثم برزت شركات ظاهرها أنها خاصة، بينما هي مجرد واجهة لقوى خفية متعطشة لأسرار الناس.
كما فتحت تلك التسريبات أعين العالم على الدور الخطير الذي باتت المنصات الرقمية الكبرى تلعبه لفائدة أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وهو ما دفعها إلى محاولة جعل وصول عملاء الأجهزة الأمنية لقواعد بياناتها أكثر صعوبة.
لكن الإحصاءات الرسمية تكشف صعودا غير مسبوق للأوامر القضائية التي تجيز للأجهزة الأمنية الولوج إلى معطيات شخصية في حوزة منصات الإنترنت. فقد تضاعفت الأوامر الموجهة إلى غوغل أكثر من ست مرات، وتلك الموجهة إلى فيسبوك نحو 13 مرة ما بين سنتي 2013 و2018 (9).
صحوة ضمير متأخرة؟
على الصعيد الداخلي، عاش عمالقة وادي السيليكون في الأعوام الأخيرة على وقع "ثورة عمالية" هي الأولى من نوعها، كشف من خلالها موظفو هذه الشركات ما يكابدونه من استغلال وتمييز وتضييق.
لكن هذه المعركة لم تقتصر على الحقل النقابي، بل كشفت النقاب عن العيوب الداخلية لممارسات عمالقة النت المخلة بالشفافية وحرمة الحياة الشخصية ومواثيق الأخلاقيات.
وعلى منوال أزماتها السابقة، بادرت كل من غوغل وأخواتها إلى إخضاع مهندسيها وموظفيها لدورات مكثفة في الأخلاقيات، مع توزيع الوعود بتطعيم الذكاء الاصطناعي بمصل الحقوق والحريات والمبادئ الأخلاقية (10).
فالمعقل "الكاليفورني" لكبريات شركات التكنولوجيا الحديثة يشهد في السنوات الأخيرة صحوة ضمير غير مسبوقة في تاريخه؛ حيث تتوالى رسائل الاستقالة والتنديد والتمرد على ممارسات المنصات الأكثر تحكما في تواصل البشرية بعضها ببعض، والعقود التي تبرمها مع وكالات الاستخبارات والجيش والشروع في استعمال تقنية بصمة الوجه (11).
لكن، هل يمكن الاعتماد على صحوة ضمير لدى بعض مهندسي وفنيي وادي السيليكون لإنقاذ حقوق وحريات مليارات الأشخاص عبر العالم؟ ألا يتم الإجهاز عمليا على تراث فلسفي وحقوقي راكمته البشرية على مدى عقود، ووضعت له دساتير وقوانين وضوابط أخلاقية لمهنة اسمها الصحافة؛ لإحداث توازن دقيق بين حقين غير متعارضين: الحق في الإخبار، والحق في حماية الخصوصية؟
إن أخطر ما أفرزته هذه الدينامية الضاغطة على عمالقة الإنترنت، ليس هو التعاون، الذي كان خفيا وأصبح معلنا، مع أجهزة الأمن والاستخبارات؛ بل هو النزوع المتواصل لهذه المنصات نحو ممارسة الرقابة على مستخدميها لتتقي غضب الحكومات وضغوطاتهم.
وتحت غطاء مصطلحات فضفاضة هي "الإرهاب" و"الكراهية"، طورت جل المنصات أدواتها التقنية التي تمارس الرقابة، التي ساد الاعتقاد إلى وقت قريب أن قانون 1881 الفرنسي أزالها من سجل البشرية إلى غير رجعة.
جمعني قبل فترة لقاء بمجموعة من الصحفيين العرب في محفل إعلامي إقليمي، وحدث أن كان دبلوماسي غربي كبير ضيفا على إحدى جلساتنا. بدأ هذا الضيف لقاءه بإلقاء "إنذار مبكر" محذرا من توجيه أية أسئلة مستفزة إليه، مشددا على أنه لن "يتسامح" معها، ولن يكون سلوكه دبلوماسيا.
ما إن انطلق اللقاء رسميا، حتى حصل ما كان الدبلوماسي الغربي يخشاه، حيث طلب منه أحد الصحفيين تفسير كيف تدعي بلاده دعم الصحافة وحرية التعبير في المنطقة العربية، وتقوم في الوقت نفسه بتزويد الأنظمة بأجهزة التنصت والمراقبة وتحويل الإنترنت إلى مكمم للأفواه. لم يجد هذا المسؤول الغربي في النهاية بدّا من الاحتماء باللغة الدبلوماسية، وقال: إن بلاده تقدم مساعداتها لدول المنطقة كي تتصدى لمخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة.
فهم الجميع من جواب هذا الدبلوماسي الغربي أنه اختار الهرب واستعمال لغة الخشب، خاصة أن الأمر لم يعد مقتصرا على مجتمعات الدول المتخلفة أو غير الديمقراطية، بل صار رحم الإنترنت يلد كائنات عملاقة لا يبدو أن غريزة الافتراس لديها تستثني محاضنها الغربية والعريقة في الديمقراطية.
فشل الرهان على سحر التكنولوجيا
يجزم مؤرخ المملكة المغربية السابق، حسن أوريد، في مؤلفه الحديث "عالم بلا معالم"، بأن التكنولوجيا ليست محايدة، مستدلا بربط الكثير من العلماء التغيرات السياسية الكبرى بتطور وسائل الاتصال المستحدثة، واعتقاد بعضهم أن الإنترنت أحد المعاول للقضاء على صروح الديكتاتورية، أو ما تبقى منها؛ لأن هناك ترابطا بين الرأسمالية والتكنولوجيا والديمقراطية.
استنبط هؤلاء المتفائلون اعتقادهم هذا من فكرة مفادها أن الإنترنت بما يتيحه من تبادل للمعلومة، سيضعف احتكار المعرفة والتحكم فيها، وهو ما تجسد في فكرة تسمى "عقيدة غوغل"؛ ومؤداها أن روسيا وأوربا الشرقية لن تتمكنا من العودة إلى السلطوية بعد ظهور الإنترنت.
وما جعل هذا التفاؤل يتمتع بقدر من اليقينية، هو الدور الذي لعبته وسائط الاتصال -إبان الحرب الباردة- في إضعاف المعسكر الشيوعي وإسقاط أكبر معاقله "الاتحاد السوفياتي".
معتقدات بات أنصارها يعترفون تباعا بأن التكنولوجيا والإنترنت أصبحا سلاحا جديدا بيد الدكتاتوريات والأنظمة البوليسية وخصوم الديمقراطية -حتى في أعتى معاقلها تحصينا في الغرب- حيث قدّما لخصوم الحرية وسائل خارقة للضبط والمراقبة والتضليل والتوجيه.
فبدل تجنيد جحافل الجواسيس والعملاء والمتلصصين، أصبحت القوى القمعية تراقب الأشخاص والجماعات في حركاتهم وسكناتهم، عن بعد ودون أن تترك أي أثر. وانبعث بشكل مفاجئ شبح الأخ الأكبر، الذي أوهم عنوانُ رواية جورج أورويل "1984" بكونه شيئا من الماضي الذي لا يعود.
ما العمل؟
خلال فترة انتشار كوفيد-19 التي عاشها العالم منذ أواخر 2019، تصاعدت أصوات الانتقاد في مواجهة عمالقة الإنترنت، حيث تعززت الشكوك تجاهها بشأن محاولتها توجيه الرأي العام العالمي وتحميل الصين المسؤولية الكاملة عن انتشار الفيروس، دون أن يكون لهذا المعطى ما يعززه من تقارير ودلائل علمية. وسرعان ما توجهت الأنظار نحو إدارة جو بايدن الأمريكية. لقد بات العالم يطالبها بفرض قواعد تمنع عمالقة وادي السيليكون من ممارسة الرقابة والحد من حرية التعبير في العالم الرقمي (12).
وخلال الأزمة الاجتماعية العنيفة التي عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2020 إثر مقتل رجل أسود البشرة، اسمه جورج فلويد، خنقا تحت قدم ضابط شرطة؛ طفت من جديد المفارقة الخطيرة التي تلف سلوك الشبكات الاجتماعية. فبقدر ما كانت فضاء للتعبير عن الغضب والاحتجاج الشعبيين، لعبت دورا في نشر خطاب الكراهية والعنصرية.
وبعد نحو أربعة عقود من اختراع الشبكة العنكبوتية، أصبح السؤال مطروحا في مشارق الأرض ومغاربها، حول من يضع قوانين هذا الفضاء الموحد؟ وهل حان الوقت للتعامل مع الإنترنت كخدمة عمومية مفتوحة وبعيدة عن قبضة الرأسمال الخاص؟ ثم هل تعني حرية الإنترنت غض الطرف عن خطابات العنف والكراهية والتطرف؟ وما السبيل للتمييز المنصف والمحايد بين الآراء المشروعة وبين دعوات التمييز والعنصرية؟
تحرير الصحافة من جديد
اليوم، لم يعد ممكنا اعتبار الشبكات الاجتماعية مجرد منصات رقمية لنقل وتداول المحتوى. فالحجم الذي بات عليه عمالقة وادي السيليكون، بالإضافة للكم الهائل من الأسرار والمعطيات الشخصية والرسمية والاجتماعية التي تتكدس في خزائنها، وعلاقة الحب القاتل التي جمعتها بالصحافة التقليدية بجميع أنواعها، مكتوبة أو مرئية أو مسموعة، تجعل هذه المنصات في موقع الآمر الناهي، المهيمن والمسيطر، على مصائر الحقوق والحريات التي قدّمت الإنسانية من أجلها ملايين الأرواح عبر مئات الثورات والحروب والصراعات.
لقد استحوذت منصات التواصل الاجتماعي على الحرية وابتلعت الصحافة كمهنة وكدور وكوظيفة داخل المجتمعات المعاصرة، وحان الوقت لنقول: إن كل ما راكمته التجربة الإنسانية في ضبط وتنظيم وتخليق عملية التداول العام للأخبار والآراء، إلى المجال الرقمي الذي بات -في حقيقة الأمر- واقعا حقيقيا وليس افتراضيا.
حان الوقت لفرض حد أدنى من القيم الصحفية على كائنات توشك أن تسحب من الإنسان سلطته الرابعة، موهمة إياه أن هاتفه "الذكي" جعله في غنى عن صحافة محترفة.
لابد من حد أدنى من المعلومات المفيدة والتعبيرات الصادقة ومراعاة الصالح العام، في كل ما تمطرنا به سماء وادي السيليكون.
المصادر:
7- حسن أوريد، عالم بلا معالم، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 2021
8- حسن أوريد، مرجع سابق
9- https://www.monde-diplomatique.fr/2020/07/TREGUER/61980
10- https://www.lesechos.fr/tech-medias/hightech/la-revolte-morale-de-la-silicon-valley-1004341
11- https://www.lesechos.fr/tech-medias/hightech/la-revolte-morale-de-la-silicon-valley-1004341