"وادي السيليكون".. متاهة الصحافة في صحاري كاليفورنيا

"وادي السيليكون".. متاهة الصحافة في صحاري كاليفورنيا

من منا يمكنه أن يدعي اليوم قدرته على التدوين والتغريد بكل حرية واستعمال كلمات وعبارات تشير إلى (إسرائيل أو الصهيونية أو السامية أو حركة حماس أو حزب الله أو كراهية الإسلام… إلخ)، دون أن يخاف من إغلاق حساباته الشخصية على فيسبوك أو تويتر، بشكل مؤقت أو دائم؟ 

ألم نطوّر أساليب "ساذجة" للتحايل على خوارزميات عمالقة وادي السيليكون؛ من قبيل كتابة الكلمة المحظورة مقسمة إلى شطرين أو ثلاثة؟ ألم يستيقظ بعضنا يوما على عقوبات صارمة تمنعه من الكتابة والنشر دون سابق إخطار ولا محاكمة ولا تبليغه بحكم قضائي؟

إننا بصدد دخول فصل جديد مما عاشته الصحافة من تحولات خلال الأعوام الـ 20 الأخيرة، والتي يمكن إجمالها في ثلاثة تحولات كبرى: الأول هو الانتقال من نمط البث التقليدي إلى الرقمي، والثاني هو ظهور مجتمع الإنترنت، وأخيرا هيمنة الهواتف المحمولة على نمط استهلاك المحتوى الإعلامي. وقد أثرت هذه التحولات -وخاصة الأخير منها- على النموذج الاقتصادي والقواعد المهنية بشكل كبير. 

فمن الناحية السياسية، بات عمالقة الإنترنت يبسطون سيطرتهم على الرأي العام (الدولي والداخلي للدول). ومن الناحية الاقتصادية، سحب عمالقة وادي السيليكون من مؤسسات الصحافة التقليدية سوق الإعلانات، وفرضوا أنفسهم وسيطا بينها وبين الجمهور بعدما سحبوا منها وظيفة "الناشر". أما مهنيا، فإن الشبكات الاجتماعية أدت إلى تهميش صحافة الاستقصاء وصحافة قيم المواطنة والمشاركة والقرب والإنسانية، وعزّزت نمط الأخبار السريعة والمثيرة، بصرف النظر عن صحتها وتوازنها.

وبالتالي، فإن سؤالا عريضا بات يخيم على دول العالم، بديمقراطياتها ودكتاتورياتها: من الذي سيضع حدود حرية الرأي والتعبير؟ هل هي البرلمانات الوطنية أو أشخاص غير معروفين يعملون لصالح منصات وادي السيليكون؟ والجواب الوحيد المتوفر حتى الآن، هو أن المنصات الرقمية سيدة الموقف (1).

 

انقلاب السحر على الساحر؟

بقدر ما شكّلت تغريدات وآراء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب مصدر انزعاج بل وخوف لدى الكثيرين، كانت الرقابة الفجة التي تعرض لها في آخر أيامه داخل البيت الأبيض من طرف عمالقة المنصات الإلكترونية -خاصة تويتر وفيسبوك- سببا لهلع عالمي من تلك السلطة اللامحدودة التي باتت هذه الكائنات المستحدثة تملكها. بل إن هذا الوضع المهيمن أثار أسئلة كبيرة ساد الاعتقاد طويلا بأنها تلقت أجوبة حاسمة، من قبيل مصير الديمقراطية والحرية على شاكلتها الغربية (2).

في شبه ضربة عسكرية خاطفة، أصدرت منصة "تويتر" يوم 8 يناير/كانون الثاني 2021 قرارا بحذف الحساب الخاص بالرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترمب، بما راكمه من متابعين يناهزون التسعين مليونا. ثم توالت القرارات المماثلة من منصات "فيسبوك" و"يوتيوب" و"إنستغرام".

لقد استبقت منصات وادي السيليكون مداولات الكونغرس الأمريكي وقرارات المحكمة العليا، وأنهت عمليّا ولاية رئيس أمريكي منتخب بكل التعقيدات التي ينطوي عليها النظام السياسي والانتخابي الأمريكي (3).

بدأت القصة يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، حين وجّه دونالد ترمب نداء إلى أنصاره بالتظاهر قبالة مقر الكونغرس والاحتجاج ضد ما يصفه بـ "تزوير الانتخابات".

لم يكن أحد يتوقع ما سيتلو ذلك النداء؛ إذ جرى اقتحام مقر البرلمان الأمريكي وتخريب محتوياته ودفع أعضائه وضيفهم، نائب الرئيس الأمريكي، إلى الفرار تحت حراسة أمنية مشددة.

وبناء على ذلك كله، قرر تويتر حذف حساب الرئيس بشكل نهائي، لتقتفي آثاره بعد ذلك كل من فيسبوك ويوتيوب وإنستغرام (4).

ردة فعل معسكر ترمب لم تتأخر، وسرعان ما ارتفعت أسهم تطبيق بديل معروف بمحتواه المحافظ، وهو تطبيق Parler، حيث انطلقت موجة محمومة لتحميله داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وتصاعدت -إلى جانب ذلك- شحنة التطرف والعنصرية في الخطابات المنشورة عبر هذه المنصة، بما فيها دعوات للقيام باحتجاجات جديدة شبيهة بتلك التي استهدفت مبنى الكونغرس، ما اضطر كلّا من "غوغل" و"آبل" إلى سحب هذا التطبيق من قائمة منتوجاتهما (5).

المخيف في هذه القصة ليس "الحجر" المباشر على رئيس منتخب من طرف الشعب، بل إن هذه المنصات التي قامت بتكميم فمه وتقييد لسانه، هي نفسها التي دفعت أنصاره نحو التطرف وحفّزتهم على استباحة المؤسسات، وشكّلت منصة هجوم بالنسبة للرئيس الشعبوي دونالد ترمب. 

وإذا كانت هذه المنصات تبرر سلوكها بانتصارها للحقوق والحريات والاصطفاف إلى جانب المعسكر التقدمي، فمن سيضمن عدم انقلاب هذه المنصات العملاقة على "دستورها" الذي وضعته من تلقاء نفسها؟ وكيف أصبح بضعة مهندسين يقومون مقام الآباء المؤسسين للتجارب الديمقراطية الكبرى والتجارب الثورية والمؤسسات البرلمانية والمحاكم العليا؟ وهل أصبح تقييد الحقوق والحريات اختصاصا صريحا لشركات خاصة؟ 

 

دكتاتورية التقنية

 إنها أول مرة تجد فيها الإنسانية نفسها أمام مأزق يهدد حريتها بالكامل: موظف بيروقراطي بخلفية تقنية أو اقتصادية خالصة يجلس في برج عاجي خلف شاشة حاسوب أو هاتف ذكي، يقرر في حق مواطني العالم في القول والتعبير، من أبسطهم مكانة وأقلهم نفوذا، إلى أقواهم؛ بمن فيهم ساكن البيت الأبيض.

في الماضي كان مفكرون وفلاسفة وأكاديميون يتولون وضع مثل هذه القواعد، بما فيها تلك التي تهم النشر عبر الكتب والصحافة؛ بينما أصبح الأمر حاليا بين أيدي مهندسين فنيين شباب، يبرمجون المنصات الرقمية عبر خوارزميات معقدة، لتملي على الهواتف الذكية ما تنقله وما تحجبه عن الجمهور. 

لقد صنع النموذج الخاص بعمالقة الإنترنت مجده على فكرة بسيطة، ولا تكاد خطورتها تنفك عن بساطتها هذه، وتتمثل في جمع المعطيات الشخصية للمستعملين ورصد تفاصيل سلوكهم اليومي، وبيع ذلك كله للمعلنين، وأحيانا لأجهزة التجسس والمتلصصين.  

وبذلك؛ أصبحت منصات عمالقة الإنترنت أشبه بدول قائمة السيادة، ما يثير إشكالية الحدود الفاصلة بين "الحماية" و"الرقابة". فهؤلاء الذين نسميهم "عمالقة" -الذين ينتمي جلهم لمنصات وادي السيليكون الأمريكية- اتخذوا حزمة من الإجراءات التي تحد من رواج منتوجات تسوقها منظمات منتمية إلى تيار النازيين الجدد أو تحمل خطابا عنصريا أو تحريضا على العنف. 

وبقدر ما أثاره ذلك من ارتياح، أثار، أيضا، مخاوف أخرى حول حق هذه المنصات في إصدار قرارات على أساس فكري، وحلولها محل الدستور الأمريكي وتعديله الأول. والذي كان إلى وقت قريب ضمانة مطمئنة لنشطاء الحرية عبر العالم، حيث كان يوحي بأن دولة الحرية والليبرالية لن تسمح بخروج عفريت القمع من قمقم ديمقراطيتها.

بالنسبة للقانون الأمريكي الذي تتبع له شركات وادي السيليكون، تعتبر المنصة الرقمية للشبكات الاجتماعية بمنزلة "مضيف" يحتضن المحتوى داخل خوادمه، وليس "ناشرا" بالمعنى التقليدي، ما يجنّبها أية ملاحقة قانونية أو قضائية. 

إنه وضع أخل بالنظام الذي استقر عليه الأمر مع الصحافة التقليدية على مدى عقود -إن لم يكن طيلة قرون- إذ أصبح المجال الرقمي يعج بملايين الناشرين، وبالتالي أصبحنا أمام شبه استحالة ملاحقتهم جميعا في حال تداولهم محتوى غير قانوني أو غير أخلاقي. 

وحدها سلطة عمالقة وادي السيليكون تعززت في هذا الخضم، وهو ما سمح لها بمعاملة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مثل أي مغرد في أقصى الأرض. ولم يقع هذا الإجراء تحت طائلة أي نص دستوري أو قانوني، بل تتمتع هذه المنصات بحصانة يمنحها لها قرار صادر عن المحكمة العليا يعرف باسم Communications Decency Act، صدر عام 1997 ضد قانون حاول الحد من تداول المواد الإباحية عبر الإنترنت (6).

 

افتراس الحقوق والحريات

لا تكتفي المنصات الرقمية بالتلصص على أسرار الناس وخصوصياتهم فحسب، بل توظف سلاحا شديد الفتك أطلق عليه اسم "الأخبار الزائفة"، تجاوز في قوته التدميرية فنون الدعاية والتضليل التي طورتها البشرية في السابق (7). وسعيا إلى تلطيف هذا السلاح المدمر منح له لبوس صحفي، كي يبدو مجرد انحراف مهني في حرفة أريد لها أن تبدو كما لو تعجز عن اللحاق بركب التاريخ وتطور التكنولوجيا.

الأدهى من ذلك، ما باتت تكشفه الفضائح المتتالية لكيفية استغلال عمالقة وادي السيليكون لما يحوزونه من أسرار ومعطيات عن مستخدميهم، وتورُّطهم المكشوف في تمكين وكالات التجسس من رقاب الجمهور.

ففي يونيو/حزيران 2013، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية في موقعها، تسريبات عن الوكالة الأمريكية الوطنية التابعة للوكالة الأمريكية، تتضمن معطيات خاصة عن الأشخاص أو ما يسمى بـ"مراقبة الجماهير"، من خلال الإنترنت وشركات الخدمة الكبرى التي قد تكون متواطئة، أو تحت ضغط الوكالة. وهذا ما عاد بطلُ التسريبات الصادمة إدوارد سنودن، ليشرحه بإسهاب في كتاب "السجل الدائم" الذي رصد فيه فنون مراقبة الجماهير باستعمال الإنترنت (8).

قصة تسريبات سنودن للعام 2013، رفعت الغطاء عن جزء من الحديقة السرية لعمالقة الإنترنت. لقد تبيّن أن قناعة راسخة استبدت بالعقل الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر، مفادها أن مراقبة البشر -جماعات وأفرادا- أمر حتمي لتجنب الأسوأ. ومن ثم برزت شركات ظاهرها أنها خاصة، بينما هي مجرد واجهة لقوى خفية متعطشة لأسرار الناس.

كما فتحت تلك التسريبات أعين العالم على الدور الخطير الذي باتت المنصات الرقمية الكبرى تلعبه لفائدة أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وهو ما دفعها إلى محاولة جعل وصول عملاء الأجهزة الأمنية لقواعد بياناتها أكثر صعوبة. 

لكن الإحصاءات الرسمية تكشف صعودا غير مسبوق للأوامر القضائية التي تجيز للأجهزة الأمنية الولوج إلى معطيات شخصية في حوزة منصات الإنترنت. فقد تضاعفت الأوامر الموجهة إلى غوغل أكثر من ست مرات، وتلك الموجهة إلى فيسبوك نحو 13 مرة ما بين سنتي 2013 و2018 (9).

 

صحوة ضمير متأخرة؟

 على الصعيد الداخلي، عاش عمالقة وادي السيليكون في الأعوام الأخيرة على وقع "ثورة عمالية" هي الأولى من نوعها، كشف من خلالها موظفو هذه الشركات ما يكابدونه من استغلال وتمييز وتضييق. 

لكن هذه المعركة لم تقتصر على الحقل النقابي، بل كشفت النقاب عن العيوب الداخلية لممارسات عمالقة النت المخلة بالشفافية وحرمة الحياة الشخصية ومواثيق الأخلاقيات.

وعلى منوال أزماتها السابقة، بادرت كل من غوغل وأخواتها إلى إخضاع مهندسيها وموظفيها لدورات مكثفة في الأخلاقيات، مع توزيع الوعود بتطعيم الذكاء الاصطناعي بمصل الحقوق والحريات والمبادئ الأخلاقية (10).

فالمعقل "الكاليفورني" لكبريات شركات التكنولوجيا الحديثة يشهد في السنوات الأخيرة صحوة ضمير غير مسبوقة في تاريخه؛ حيث تتوالى رسائل الاستقالة والتنديد والتمرد على ممارسات المنصات الأكثر تحكما في تواصل البشرية بعضها ببعض، والعقود التي تبرمها مع وكالات الاستخبارات والجيش والشروع في استعمال تقنية بصمة الوجه (11).

لكن، هل يمكن الاعتماد على صحوة ضمير لدى بعض مهندسي وفنيي وادي السيليكون لإنقاذ حقوق وحريات مليارات الأشخاص عبر العالم؟ ألا يتم الإجهاز عمليا على تراث فلسفي وحقوقي راكمته البشرية على مدى عقود، ووضعت له دساتير وقوانين وضوابط أخلاقية لمهنة اسمها الصحافة؛ لإحداث توازن دقيق بين حقين غير متعارضين: الحق في الإخبار، والحق في حماية الخصوصية؟

إن أخطر ما أفرزته هذه الدينامية الضاغطة على عمالقة الإنترنت، ليس هو التعاون، الذي كان خفيا وأصبح معلنا، مع أجهزة الأمن والاستخبارات؛ بل هو النزوع المتواصل لهذه المنصات نحو ممارسة الرقابة على مستخدميها لتتقي غضب الحكومات وضغوطاتهم.

وتحت غطاء مصطلحات فضفاضة هي "الإرهاب" و"الكراهية"، طورت جل المنصات أدواتها التقنية التي تمارس الرقابة، التي ساد الاعتقاد إلى وقت قريب أن قانون 1881 الفرنسي أزالها من سجل البشرية إلى غير رجعة.

جمعني قبل فترة لقاء بمجموعة من الصحفيين العرب في محفل إعلامي إقليمي، وحدث أن كان دبلوماسي غربي كبير ضيفا على إحدى جلساتنا. بدأ هذا الضيف لقاءه بإلقاء "إنذار مبكر" محذرا من توجيه أية أسئلة مستفزة إليه، مشددا على أنه لن "يتسامح" معها، ولن يكون سلوكه دبلوماسيا. 

ما إن انطلق اللقاء رسميا، حتى حصل ما كان الدبلوماسي الغربي يخشاه، حيث طلب منه أحد الصحفيين تفسير كيف تدعي بلاده دعم الصحافة وحرية التعبير في المنطقة العربية، وتقوم في الوقت نفسه بتزويد الأنظمة بأجهزة التنصت والمراقبة وتحويل الإنترنت إلى مكمم للأفواه. لم يجد هذا المسؤول الغربي في النهاية بدّا من الاحتماء باللغة الدبلوماسية، وقال: إن بلاده تقدم مساعداتها لدول المنطقة كي تتصدى لمخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة.

فهم الجميع من جواب هذا الدبلوماسي الغربي أنه اختار الهرب واستعمال لغة الخشب، خاصة أن الأمر لم يعد مقتصرا على مجتمعات الدول المتخلفة أو غير الديمقراطية، بل صار رحم الإنترنت يلد كائنات عملاقة لا يبدو أن غريزة الافتراس لديها تستثني محاضنها الغربية والعريقة في الديمقراطية. 

 

فشل الرهان على سحر التكنولوجيا

 يجزم مؤرخ المملكة المغربية السابق، حسن أوريد، في مؤلفه الحديث "عالم بلا معالم"، بأن التكنولوجيا ليست محايدة، مستدلا بربط الكثير من العلماء التغيرات السياسية الكبرى بتطور وسائل الاتصال المستحدثة، واعتقاد بعضهم أن الإنترنت أحد المعاول للقضاء على صروح الديكتاتورية، أو ما تبقى منها؛ لأن هناك ترابطا بين الرأسمالية والتكنولوجيا والديمقراطية. 

استنبط هؤلاء المتفائلون اعتقادهم هذا من فكرة مفادها أن الإنترنت بما يتيحه من تبادل للمعلومة، سيضعف احتكار المعرفة والتحكم فيها، وهو ما تجسد في فكرة تسمى "عقيدة غوغل"؛ ومؤداها أن روسيا وأوربا الشرقية لن تتمكنا من العودة إلى السلطوية بعد ظهور الإنترنت.

وما جعل هذا التفاؤل يتمتع بقدر من اليقينية، هو الدور الذي لعبته وسائط الاتصال -إبان الحرب الباردة- في إضعاف المعسكر الشيوعي وإسقاط أكبر معاقله "الاتحاد السوفياتي".

معتقدات بات أنصارها يعترفون تباعا بأن التكنولوجيا والإنترنت أصبحا سلاحا جديدا بيد الدكتاتوريات والأنظمة البوليسية وخصوم الديمقراطية -حتى في أعتى معاقلها تحصينا في الغرب- حيث قدّما لخصوم الحرية وسائل خارقة للضبط والمراقبة والتضليل والتوجيه. 

فبدل تجنيد جحافل الجواسيس والعملاء والمتلصصين، أصبحت القوى القمعية تراقب الأشخاص والجماعات في حركاتهم وسكناتهم، عن بعد ودون أن تترك أي أثر. وانبعث بشكل مفاجئ شبح الأخ الأكبر، الذي أوهم عنوانُ رواية جورج أورويل "1984" بكونه شيئا من الماضي الذي لا يعود.

 

ما العمل؟

خلال فترة انتشار كوفيد-19 التي عاشها العالم منذ أواخر 2019، تصاعدت أصوات الانتقاد في مواجهة عمالقة الإنترنت، حيث تعززت الشكوك تجاهها بشأن محاولتها توجيه الرأي العام العالمي وتحميل الصين المسؤولية الكاملة عن انتشار الفيروس، دون أن يكون لهذا المعطى ما يعززه من تقارير ودلائل علمية. وسرعان ما توجهت الأنظار نحو إدارة جو بايدن الأمريكية. لقد بات العالم يطالبها بفرض قواعد تمنع عمالقة وادي السيليكون من ممارسة الرقابة والحد من حرية التعبير في العالم الرقمي (12).

وخلال الأزمة الاجتماعية العنيفة التي عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2020 إثر مقتل رجل أسود البشرة، اسمه جورج فلويد، خنقا تحت قدم ضابط شرطة؛ طفت من جديد المفارقة الخطيرة التي تلف سلوك الشبكات الاجتماعية. فبقدر ما كانت فضاء للتعبير عن الغضب والاحتجاج الشعبيين، لعبت دورا في نشر خطاب الكراهية والعنصرية.

وبعد نحو أربعة عقود من اختراع الشبكة العنكبوتية، أصبح السؤال مطروحا في مشارق الأرض ومغاربها، حول من يضع قوانين هذا الفضاء الموحد؟ وهل حان الوقت للتعامل مع الإنترنت كخدمة عمومية مفتوحة وبعيدة عن قبضة الرأسمال الخاص؟ ثم هل تعني حرية الإنترنت غض الطرف عن خطابات العنف والكراهية والتطرف؟ وما السبيل للتمييز المنصف والمحايد بين الآراء المشروعة وبين دعوات التمييز والعنصرية؟

 

تحرير الصحافة من جديد

اليوم، لم يعد ممكنا اعتبار الشبكات الاجتماعية مجرد منصات رقمية لنقل وتداول المحتوى. فالحجم الذي بات عليه عمالقة وادي السيليكون، بالإضافة للكم الهائل من الأسرار والمعطيات الشخصية والرسمية والاجتماعية التي تتكدس في خزائنها، وعلاقة الحب القاتل التي جمعتها بالصحافة التقليدية بجميع أنواعها، مكتوبة أو مرئية أو مسموعة، تجعل هذه المنصات في موقع الآمر الناهي، المهيمن والمسيطر، على مصائر الحقوق والحريات التي قدّمت الإنسانية من أجلها ملايين الأرواح عبر مئات الثورات والحروب والصراعات.

لقد استحوذت منصات التواصل الاجتماعي على الحرية وابتلعت الصحافة كمهنة وكدور وكوظيفة داخل المجتمعات المعاصرة، وحان الوقت لنقول: إن كل ما راكمته التجربة الإنسانية في ضبط وتنظيم وتخليق عملية التداول العام للأخبار والآراء، إلى المجال الرقمي الذي بات -في حقيقة الأمر- واقعا حقيقيا وليس افتراضيا. 

حان الوقت لفرض حد أدنى من القيم الصحفية على كائنات توشك أن تسحب من الإنسان سلطته الرابعة، موهمة إياه أن هاتفه "الذكي" جعله في غنى عن صحافة محترفة. 

لابد من حد أدنى من المعلومات المفيدة والتعبيرات الصادقة ومراعاة الصالح العام، في كل ما تمطرنا به سماء وادي السيليكون.

 

 

المصادر:

 

1-    https://www.franceculture.fr/emissions/le-tour-du-monde-des-idees/ne-peut-pas-continuer-a-laisser-les-reseaux-sociaux-censurer-arbitrairemen

2-     https://www.courrierinternational.com/article/la-une-de-lhebdo-etats-unis-quand-les-reseaux-sociaux-font-la-loi

3-    https://www.courrierinternational.com/article/bannissement-cest-la-big-tech-qui-destitue-trump-en-premier

4-     https://lepetitjournal.com/expat-politique/trump-banni-de-twitter-la-liberte-dexpression-en-danger-296210

5-    https://lepetitjournal.com/expat-politique/trump-banni-de-twitter-la-liberte-dexpression-en-danger-296210

6-    https://lepetitjournal.com/expat-politique/trump-banni-de-twitter-la-liberte-dexpression-en-danger-296210

7-    حسن أوريد، عالم بلا معالم، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 2021

8-    حسن أوريد، مرجع سابق

9- https://www.monde-diplomatique.fr/2020/07/TREGUER/61980

10-  https://www.lesechos.fr/tech-medias/hightech/la-revolte-morale-de-la-silicon-valley-1004341

11- https://www.lesechos.fr/tech-medias/hightech/la-revolte-morale-de-la-silicon-valley-1004341

12- https://www.franceculture.fr/emissions/le-tour-du-monde-des-idees/ne-peut-pas-continuer-a-laisser-les-reseaux-sociaux-censurer-arbitrairement

 

 

More Articles

Independent Syrian Journalism: From Revolution to Assad's Fall

Independent Syrian journalism played a pivotal role in exposing regime corruption and documenting war crimes during the 13-year revolution, despite immense risks to journalists, including imprisonment, assassination, and exile. Operating from abroad, these journalists pioneered investigative and open-source reporting, preserving evidence, and shaping narratives that challenged the Assad regime's propaganda.

Ahmad Haj Hamdo
Ahmad Haj Hamdo Published on: 17 Dec, 2024
Bolivia’s Mines and Radio: A Voice of the Global South Against Hegemony

Miners' radio stations in the heart of Bolivia's mining communities, played a crucial role in shaping communication within mining communities, contributing to social and political movements. These stations intersected with anarchist theatre, educational initiatives, and alternative media, addressing labour rights, minority groups, and imperialism.

Khaldoun Shami PhD
Khaldoun H. Shami Published on: 16 Dec, 2024
How Does Misinformation Undermine Public Trust in Journalism?

Reports reveal a growing loss of trust in the media, driven by the extent of misinformation that undermines professional journalism's ability to influence public discourse. The platforms of misinformation, now supported by states and private entities during conflicts and wars, threaten to strip the profession of its core roles of accountability and oversight.

Muhammad Khamaiseh 1
Muhammad Khamaiseh Published on: 13 Nov, 2024
Challenging the Narrative: Jeremy Scahill on the Need for Adversarial Journalism

Investigative journalist Jeremy Scahill calls for a revival of "adversarial journalism" to reinstate crucial professional and humanitarian values in mainstream Western media, especially regarding the coverage of the Gaza genocide.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 10 Nov, 2024
Freedom of the Press in Jordan and Unconstitutional Interpretations

Since the approval of the Cybercrime Law in Jordan, freedom of opinion and expression has entered a troubling phase marked by the arrest of journalists and restrictions on media. Musab Shawabkeh offers a constitutional reading based on interpretations and rulings that uphold freedom of expression in a context where the country needs diverse opinions in the face of the Israeli ultra right wing politics.

Musab Shawabkeh
Musab Al Shawabkeh Published on: 8 Nov, 2024
Voting in a Time of Genocide

The upcoming U.S. presidential election occurs against the backdrop of the ongoing genocide in Gaza, with AJ Plus prioritising marginalised voices and critically analysing Western mainstream media narratives while highlighting the undemocratic aspects of the U.S. electoral system.

Tony Karon Published on: 22 Oct, 2024
Journalists Should Not Embrace the Artificial Intelligence Hype

What factors should journalists take into account while discussing the use of AI in the media?

Jorge Sagastume Muralles
Jorge Sagastume Published on: 16 Oct, 2024
A Year of Genocide and Bias: Western Media's Whitewashing of Israel's Ongoing War on Gaza

Major Western media outlets continue to prove that they are a party in the war of narratives, siding with the Israeli occupation. The article explains how these major Western media outlets are still refining their techniques of bias in favor of the occupation, even a year after the genocide in Palestine.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 9 Oct, 2024
A Half-Truth is a Full Lie

Misinformation is rampant in modern conflicts, worsened by the internet and social media, where false news spreads easily. While news agencies aim to provide unbiased, fact-based reporting, their focus on brevity and hard facts often lacks the necessary context, leaving the public vulnerable to manipulation and unable to fully grasp the complexities of these issues.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 30 Sep, 2024
Testimonies of the First Witness of the Sabra & Shatila Massacre

The Sabra and Shatila massacre in 1982 saw over 3,000 unarmed Palestinian refugees brutally killed by Phalangist militias under the facilitation of Israeli forces. As the first journalist to enter the camps, Japanese journalist Ryuichi Hirokawa provides a harrowing first-hand account of the atrocity amid a media blackout. His testimony highlights the power of bearing witness to a war crime and contrasts the past Israeli public outcry with today’s silence over the ongoing genocide in Gaza.

Mei Shigenobu مي شيغينوبو
Mei Shigenobu Published on: 18 Sep, 2024
Anonymous Sources in the New York Times... Covering the War with One Eye

The use of anonymous sources in journalism is considered, within professional and ethical standards, a “last option” for journalists. However, analysis of New York Times data reveals a persistent pattern in the use of “anonymity” to support specific narratives, especially Israeli narratives.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 8 Sep, 2024
India and Pakistan; Journalists building Bridges for Understanding

Amid decades of tension, journalists from India and Pakistan are uniting to combat hostile narratives and highlight shared challenges. Through collaboration, they’re fostering understanding on pressing issues like climate change and healthcare, proving that empathy can transcend borders. Discover how initiatives like the Journalists' Exchange Programme are paving the way for peace journalism and a more nuanced narrative.

Safina
Safina Nabi Published on: 12 Aug, 2024
From TV Screens to YouTube: The Rise of Exiled Journalists in Pakistan

Pakistani journalists are leveraging YouTube to overcome censorship, connecting with global audiences, and redefining independent reporting in their homeland.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 28 Jul, 2024
How AI Synthesised Media Shapes Voter Perception: India's Case in Point

The recent Indian elections witnessed the unprecedented use of generative AI, leading to a surge in misinformation and deepfakes. Political parties leveraged AI to create digital avatars of deceased leaders, Bollywood actors

Suvrat Arora
Suvrat Arora Published on: 12 Jun, 2024
The Rise of Podcasting: How Digital Audio Is Revolutionising Journalism

In this age of digital transformation and media convergence, podcasts stand out as a testament to the enduring power of journalism—a medium that transcends borders, sparks conversations, and brings the world closer together.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 6 Jun, 2024
Under Fire: The Perilous Reality for Journalists in Gaza's War Zone

Journalists lack safety equipment and legal protection, highlighting the challenges faced by journalists in Gaza. While Israel denies responsibility for targeting journalists, the lack of international intervention leaves journalists in Gaza exposed to daily danger.

Linda Shalash
Linda Shalash Published on: 9 May, 2024
Your Words Are Your Weapon — You Are a Soldier in a Propaganda War

Narrative warfare and the role of journalists in it is immense; the context of the conflict, the battleground has shifted to the realm of narratives, where journalists play a decisive role in shaping the narrative.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 21 Apr, 2024
The Privilege and Burden of Conflict Reporting in Nigeria: Navigating the Emotional Toll

The internal struggle and moral dilemmas faced by a conflict reporter, as they grapple with the overwhelming nature of the tragedies they witness and the sense of helplessness in the face of such immense suffering. It ultimately underscores the vital role of conflict journalism in preserving historical memory and giving a voice to the voiceless.

Hauwa Shaffii Nuhu
Hauwa Shaffii Nuhu Published on: 17 Apr, 2024
Journalism in chains in Cameroon

Investigative journalists in Cameroon sometimes use treacherous means to navigate the numerous challenges that hamper the practice of their profession: the absence of the Freedom of Information Act, the criminalisation of press offenses, and the scare of the overly-broad anti-terrorism law.

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 12 Apr, 2024
The Perils of Journalism and the Rise of Citizen Media in Southeast Asia

Southeast Asia's media landscape is grim, with low rankings for internet and press freedom across the region. While citizen journalism has risen to fill the gaps, journalists - both professional and citizen - face significant risks due to government crackdowns and the collusion between tech companies and authorities to enable censorship and surveillance.

AJR Contributor Published on: 6 Apr, 2024
Orientalism, Imperialism and The Western Coverage of Palestine

Western mainstream media biases and defence of the Israeli narrative are connected to orientalism, racism, and imperialism, serving the interests of Western ruling political and economic elites. However, it is being challenged by global movements aiming to shed light on the realities of the conflict and express solidarity with the Palestinian population.

Joseph Daher
Joseph Daher Published on: 1 Apr, 2024
Ethical Dilemmas of Photo Editing in Media: Lessons from Kate Middleton’s Photo Controversy

Photoshop—an intelligent digital tool celebrated for enhancing the visual appearance of photographs—is a double-edged sword. While it has the power to transform and refine images, it also skillfully blurs the line between reality and fiction, challenging the legitimacy of journalistic integrity and the credibility of news media.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 26 Mar, 2024
Breaking Barriers: The Rise of Citizen Journalists in India's Fight for Media Inclusion

Grassroots journalists from marginalized communities in India, including Dalits and Muslims, are challenging mainstream media narratives and bringing attention to underreported issues through digital outlets like The Mooknayak.

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar, Jyoti Thakur Published on: 3 Mar, 2024
Silenced Voices and Digital Resilience: The Case of Quds Network

Unrecognized journalists in conflict zones face serious risks to their safety and lack of support. The Quds Network, a Palestinian media outlet, has been targeted and censored, but they continue to report on the ground in Gaza. Recognition and support for independent journalists are crucial.

Yousef Abu Watfe يوسف أبو وطفة
Yousef Abu Watfeh Published on: 21 Feb, 2024