كاد تعيينها مقدمة لبرنامج كووركس Quarks المرموق يحقق قفزة نوعية في طريق تعزيز التنوع العرقي والديني في المشهد الإعلامي الألماني. في شهر أيلول/سبتمبر 2021 أعلنت قناة غرب ألمانيا العمومية WDR عن اختيارها "نعمة الحسن" لتقدم ابتداء من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته هذا البرنامج العلمي الأسبوعي العريق، الذي يحظى بشعبية وثقة كبيرتين في البلاد.
وُلِدت نعمة في ألمانيا لأسرة فلسطينية لجأت إلى البلاد مطلع التسعينيات هربا من الحرب الأهلية في لبنان، وأنهت دراستها للطب بنجاح في برلين، ثم فرضت ابنة الثامنة والعشرين نفسها في المشهد الإعلامي الألماني الذي يهيمن عليه بشكل شبه كلي الألمان البيض. قصة نجاح نعمة، التي ركزت في عملها الإعلامي على معالجة إشكاليات اليمين المتطرف الألماني والعنصرية وفشل الحكومة في محاربتهما، بالإضافة إلى معاداة السامية والتمييز ضد المسلمين، تكللت بفوزها عام 2018 بجائزة "سيفيس" الإعلامية الأوروبية للاندماج والتنوع الثقافي. كما تم ترشيحها لجائزة "غريمه" التي تعد أهم جائزة إعلامية مرموقة في ألمانيا. لجنة تحكيم جائزة "سيفيس" أوضحت سبب منحها الجائزة بالعبارات التالية:
"نعمة الحسن تظهر بثقة ذاتية كبيرة بصفتها مسلمة ترتدي الحجاب (...) الصحفية تدخل وسط الحشود بشجاعة وتحقق وسط اليمينيين ببداهة سريعة وأسلوب مواجه ودون خوف، فاضحة بذلك النمط الخطابي للنازيين الجدد. أداء صحفي متميز في قالب بصري رائع" (1).
تعيين نعمة لتقديم البرنامج المذكور كان بالنسبة لي تطورا منطقيا لمسارها الناجح، ولا أخفي سرا إذا قلتُ إني فرحتُ كثيرا للخبر وقتئذ، خاصة أن هذه الشابة الطموحة التي أتابع مسيرتها المهنية منذ سنوات تختلف عن أولئك الذين يدخلون ساحة الإعلام الألمانية "بتذكرة" التنوع، فقط ليعيدوا إنتاج خطاب البيض المهيمن.
لماذا إذن افتتحتُ هذا المقال بعبارة "كادت"؟
ببساطة لأن نعمة الحسن لم تنجح للأسف في تجسيد هذه القفزة النوعية الواعدة؛ فبُعيدَ إعلان القناة عن تعيينها، كشفت صحيفة بيلت المنتمية للصحافة الصفراء والمعروفة بموالاتها لإسرائيل -حد فرضها على موظفيها التعهد في عقد العمل بالدفاع عن مصالح إسرائيل-، كشفت في 13 أيلول/سبتمبر 2021 عن مشاركة نعمة الحسن العام 2014 في برلين في مظاهرة القدس المعادية لإسرائيل أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة، ونشرت صورة لها من المظاهرة وهي تلتحف الكوفية وترفع يدها في شكل إشارة النصر.
تلت هذا الخبر حملة تشويه اتُّهمت فيها الإعلامية بمعاداة إسرائيل والسامية والصهيونية، لتقرر القناة تعليق تقديمها للبرنامج إلى حين انتهاء تحقيق "دقيق" في الاتهامات "الثقيلة" الموجهة إليها، بحجة أنها لا تريد أن تحرم صحفية شابة من التطور المهني (2).
ولم يشفع لها اعتذارها وتعبيرها عن ندمها لمشاركتها في المظاهرة، ولا تأكيدها على أن آراءها تغيرت في السنوات السبع الأخيرة، ولا تنديدها بمعاداة السامية والعنف، ولا حتى خلعها للحجاب لتظهر بخصلات شعرها البني الداكن المربوطة إلى الخلف تماشيا مع تنامي شهرتها الإعلامية قبل عامين.
قوبلت حملة التشويه برسالة تضامنية مفتوحة، وقّع عليها المئات من الإعلاميين والفنانين والباحثين الألمان والمهاجرين، بينهم مشاهير. يقول نص الرسالة التي وُجِّهت لقناة غرب ألمانيا:
"نحن مصعوقون إزاء الطبيعة التشهيرية والوشائية التي يدار بها هذا النقاش…".
تحولت نعمة الحسن إلى هدف للتحريض والكراهية بسبب أصلها الفلسطيني وهويتها المسلمة. وبلغ هذا التحريض ذروته عندما وصفها رئيس تحرير "بيلت" على المباشر في التلفزيون الألماني "بيلت تيفي" بالمتطرفة الإسلامية، وأنكر تمتعها بالكفاءة العلمية اللازمة بسبب انتمائها الديني (3).
غير أن صحيفة بيلت كشفت الأسبوع التالي عن "فضائح" جديدة، من بينها قيام نعمة مؤخرا بوضع علامة إعجاب في مواقع التواصل الاجتماعي على خبر فرار الأسرى الفلسطينيين (الذين وصفتهم الصحيفة بالإرهابيين) من سجن جلبوع الإسرائيلي ومنشورات تدعم حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، وأخرى تدعو إلى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، واصفة إياها بالتحريض على إبادة إسرائيل (4).
في ظل "الفضائح" الجديدة، قررت قناة غرب ألمانيا التراجع بشكل نهائي عن منح نعمة الحسن تقديم برنامج كووركس، بحجة أن القناة ترفض رفضا تاما معاداة السامية. لكنها أبقت الباب مفتوحا أمام احتمال التعاون مع الصحفية بصفتها كاتبة تقارير تلفزيونية للبرنامج ذاته، وهو ما أثار بدوره ضجة واستنكارا ممن يرون في نعمة الحسن شخصا غير متناسب وقيم قناة عمومية ألمانية.
الكيل بمكيالين
قد يرى البعض أن ما حدث لنعمة الحسن لا علاقة له بأصولها المهاجرة، وأن أي صحفي يثير الجدل مثلما فعلت سيعرض نفسه للإقصاء؛ لأن شخصه يصبح مسيئا للمؤسسة التي تشغله.
لدحض هذه الفرضية، دعونا ننتقل إلى مشهد آخر:
رجل أربعيني أبيض البشرة، شعره أشقر ناعم وعيناه زرقاوان. كونستانتين شرايبر إعلامي ألماني أقل ما يمكن القول فيه أن أسهمه صاعدة حاليا في الساحة الإعلامية الألمانية. سبق له أن عمل مراسلا لقناة دويتشه فيله من دبي، كما قدم برنامجا عن التكنولوجيا في القناة المصرية أون تيفي، ثم برنامج "مرحبا" باللغة العربية في القناة الألمانية الخاصة إن تي في عقب وصول مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى ألمانيا. وفي مطلع 2021 أصبح شرايبر مذيعا لأهم برنامج إخباري في التلفزيون العمومي الألماني، وهو ما يعد بمثابة تكريم الأبطال في ألمانيا.
الملفت في سيرة شرايبر، الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع وزارة الخارجية الألمانية، أنها تعتمد أساسا على المستكشف الكولونيالي الأبيض للعالم العربي الغرائبي والخطير؛ فإضافة إلى الادعاء بأنه يجيد العربية بشكل كامل (عربيته ركيكة للغاية)، يُصوَّر إعلاميا على أنه خبير ملم بخبايا العالم العربي. وهي خبرة تمخضت عن مؤلفات حققت رواجا كبيرا برغم أنها ضعيفة علميا وغير دقيقة لغويا تصور الإسلام والمسلمين على أنهم خطر يداهم ألمانيا والغرب، وتسهم في شيطنة المهاجرين من أصول عربية ومسلمة في المجتمع الألماني.
آخر هذه المؤلفات رواية لشرايبر بعنوان "المرشحة" الصادرة في أيار/مايو 2021، التي استلهم فكرتها بشكل واضح من رواية الكاتب الفرنسي الشهير ميشال ويلبك "خضوع". يرسم شرايبر صورة مؤامرة نسجها داعمو التنوع هدفها سيطرة المسلمين على الحكم في ألمانيا. بطلة الرواية شخصية خيالية تدعى صباح حسين، وهي سياسية من الحزب البيئي تنحدر من أصول فلسطينية وتمارس التقية من أجل الفوز بمنصب المستشارة.
في السيناريو الديستوبي (ضد اليوتوبيا) الذي يرسمه شرايبر، يتم دعم المسلمين في ألمانيا على حساب الألمان الأصليين، عبر فرض نظام محاصصة في الشركات ومنع الألمان فوق سن السبعين من التصويت ومختلف الإجراءات الأخرى. تتعرض المرشحة لمحاولة اغتيال من قبل شرطية ألمانية شقراء، لكن المرشحة تتعافى، فيما تحكم قاضية مسلمة على الشرطية بالسجن. وتنتهي الرواية قبيل الإعلان عن نتائج الانتخابات.
الغريب في الأمر أن مؤلفات شرايبر التي تعيد بشكل واضح إنتاج الصور النمطية المعادية للعرب والمسلمين في ألمانيا، لم تُحدِث جدلا كبيرا. صحيح أن بعض النقاد تناولوها بسلبية، لكن معالجتها بقيت في إطار النقد المهذب الذي لم يحدث أي ضجة. والأغرب في الأمر أن منصبه كمذيع لأهم نشرة أخبار في التلفزيون العمومي الألماني، الذي يفترض أن يلزمه بالحياد، لم يتضرر جراء رواية "المرشحة". بل بالعكس، أسهم التلفزيون العمومي في الترويج للرواية عبر مناقشتها، بالإضافة إلى مواقع إعلامية مرموقة أخرى.
تنوع انتهازي
لماذا اخترتُ هذه المقارنة مثالا على حالة التنوع في الإعلام الألماني؟
صحفية شابة باسم أجنبي وملامح أجنبية تعاني أسرتها نتيجة النكبة منذ عقود، يرجح أنها أُعدِمَتْ مهنيا لأن سرديتها الشخصية لا تتوافق مع السردية الألمانية المهيمنة منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تنص على أن المحرقة التي ارتكبها الألمان في حق اليهود وما يترتب عنها من حق إسرائيل في الوجود يمثلان الأولوية المطلقة، وأن أي رواية أخرى مهما كان إلحاحها بالنسبة للمعني شخصيا يجب أن تتراجع أمام هذه الأولوية.
وفي المقابل صحفي أبيض مدعوم، يشغل منصبا مرموقا تترتب عنه مسؤولية اجتماعية كبرى، يصدر مؤلَّفا تلو الآخر يغذي بها النزعة اليمينية المتنامية في البلاد ويحذر من مخاطر التنوع المحدقة بالألمان، دون أن يتسبب له ذلك بأي إشكال.
قبل الإجابة عن هذا السؤال أود الخوض باقتضاب في التاريخ القصير للتنوع في ألمانيا.
بدأ التنوع يظهر بصفته فكرة في ألمانيا في العقد الأول من القرن الحالي، لكنه بقي مصطلحا تقنيا مقتصرا على الأوساط الأكاديمية. ومع موجة "أنا_أيضا" (#Me_too) نهاية 2017 بدأت الكلمة تتسرب إلى الرأي العام، لكن انتشارها لم يبلغ أوجه إلا بعد مقتل الأمريكي الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض، ووصول موجة "حياة السود مهمة" في صيف 2020 إلى ألمانيا.
فجأة اكتشف الإعلام الألماني أن وقوفه ضد العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية يمكن استثماره بشكل إيجابي لتلميع صورة علامته التجارية إذا تبنى التنوع الموجود في البلاد أيضا، والذي تجاهله عن قصد وإصرار طيلة عقود برغم نضال المعنيين. فجأة أصبح الجميع يعبرون عن مواقفهم الداعمة للتنوع والمستنكرة للعنصرية والتهميش، وانطلقت حركة حثيثة لدعم توظيف المتنوعين، خاصة المبتدئين، بهدف استقطاب الفئة المتنامية المنحدرة من أصول مهاجرة، والتي تقدر بأكثر من ربع السكان، والتي لا تهتم بالإعلام الألماني عموما، نظرا لعدم تماهيها بمقدميه ومواضيعه وخطابه.
لكن هذه الخطوات لا تخفي مشكلا بنيويا في ألمانيا؛ فالتنوع لم يتم تحديده بعد بشكل دقيق، ولا توجد آليات موضوعية لتجسيده بشكل مستدام خارج القرارات الفردية الرمزية والشعارات الرنانة. لم يطور الإعلام الألماني تصورا ملموسا عن كيفية تغيير ثقافة مؤسسة إعلامية معينة حتى تصبح في عمقها قابلة للتنوع. ولعل أفضل مثال على ذلك غياب أي إحصائية رسمية عن نسبة التنوع في المؤسسات المختلفة، ومع غياب البيانات يصبح مستحيلا تبني إجراءات صادقة وفعالة لتعزيز التنوع. كما أن المؤسسات الإعلامية لم تُبدِ اهتماما للتعاون مع المنظمات المتخصصة في هذا المجال (5).
وبما أن وجود التنوع من عدمه يؤثر على اختيار المواضيع وكيفية معالجتها والخبراء الذين يتم استضافتهم للحديث عن أي موضوع، فإن هذا الموضوع يلعب دورا حساسا في صناعة الرأي العام، ومن ثم في صناعة القرار. إنه أهم رهان يواجهه التنوع، وهو السبب الرئيس في تحفظ الغالبية المهيمنة في ألمانيا على إسهام الأقليات المتنوعة في الإعلام، أو بالأحرى تحفظها على إسهام من لديه وجهات نظر وسرديات تعكس هذا التنوع، وتشكل تحديا لمنظومة إنتاج الفكر المهيمنة.
وإذا ما التفتنا مجددا لقصتَيْ نعمة الحسن وكونستانتين شرايبر، يمكننا الاستنتاج بأن مسألة التنوع في ألمانيا ما تزال تتحرك في حيز الانتهازية السياسية؛ إذ يتم تقبل المواقف المعادية للتنوع بدون إشكال، في حين يواجه الإعلام الألماني صعوبة كبيرة في تقبل الآراء المتنوعة المثيرة للجدل لأنها تقع خارج آفاق سردية البيض. وإذا ما سلمنا بأن التنوع والوعي به أصبحا من شروط العمل الصحفي السليم، خاصة في الدول المتقدمة، يتضح جليا أن أمام الإعلام الألماني الكثير من العمل لمواكبة العصر.
مراجع:
1- https://www.bertelsmann.de/verantwortung/projekte-weltweit/projekt/euro…
2- https://presse.wdr.de/plounge/wdr/unternehmen/2021/09/20210914_nemi_el-…
3- https://drive.google.com/file/d/1iE7V1qZnbvc18ZIROPEU8CVumw2KqHPf/view
4- https://www.bild.de/politik/inland/politik/likes-fuer-antisemitismus-ne…
5- https://neuemedienmacher.de/aktuelles/beitrag/diversity-im-journalismus…