كما جمعتنا شيرين في حياتها أمام الشاشات وحدت وجعنا وقهرنا أمام المشهدية العالية لوداعها وللفجيعة التي أحسسناها جميعا بفقدانها المفزع والظالم والمبكر. ردود الفعل الشعبية والمؤسساتية على جريمة الاحتلال ضد شيرين ملأت الفضاء الواقعي والافتراضي، ووحدت الصحفيين العرب ونقاباتهم في فلسطين والأردن والمغرب وتونس وغيرها. كما وجدت صداها في مؤسسات صحفية ونقابية وحقوقية دولية من أبرزها الفيدرالية الدولية للصحفيين ومنظمة مراسلون بلا حدود إضافة للمعهد الدولي للصحافة، والاتحاد الدولي للمحررين... إلخ
من قتل شيرين أطلق رصاصته في العين الباقية لهذا العالم الذي يصاب بالعوار عندما يتعلق الأمر بالحق الفلسطيني وبانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني وصحفييه. هذا المقال ليس رثاء لشيرين، وإنما هو نظرة مقتضبة في رسالة الاحتلال الإسرائيلي التي اتخذت شكل الرصاصة التي عمدت ابتسامة شيرين الجميلة بالدم وأدمت قلوبنا بفجيعة غيابها. هي رسالة إرهاب ضد الحقيقة وتذكير لنا بأن عيوننا (الصحفيين الفلسطينيين) المرابطين في كل مكان من الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة وغزة والداخل هم دائما في مرمى البطش الإسرائيلي، وأن البث قد ينقطع عنا في أي وقت يرغب فيه الاحتلال وأن سلاح الكلمة والصورة وعدسة الكاميرا أقوى من كيانهم.
اغتيال شيرين هو استهداف للحقيقة وللصحافة بصفتها مصدراً للمسودة الأولى للسرديات التاريخية وتوزيع الأدوار (الضحية والجلاد) وإضفاء أو حجب الشرعيات، في نظام دولي استخدم تراجيديا اليهود التي سببتها نازية أوروبا القرن العشرين لخلق تراجيديا فلسطينية ما زالت مستمرة بعد سبعة عقود من الاحتلال والقتل والتشريد. اغتيال شيرين نبهنا وزاد من حساسيتنا تجاه التضحيات والمخاطر التي يواجهها الصحفيون الفلسطينيون ببسالة كل يوم. هي صفعة في القلب لتذكرنا بأن على شعلة الغضب أن تبقى متأججة وأن وقود نشاطاتنا يجب أن يكون عدالة قضيتنا، فـ"الحقيقة" هي خلاص الفلسطينيين ومصدر شرعية نضالهم ووجودهم على أراضيهم المحتلة. إن رحلتنا طويلة مع عدو امتهن الكذب والتضليل والابتزاز، وتمرس في حيل الدعاية السياسية عبر عدد من الاستراتيجيات المتكررة لإخفاء وجهه العنصري. وهو وجه عرته شيرين وتعريه بسالة وتضحيات الصحفيين الفلسطينيين في كل زقاق وشارع وبيت ومخيم في فلسطين.
اغتيال شيرين هو رسالة خوف وثقة للصحفيين الفلسطينيين، حيث عرت الفزع الإسرائيلي من الحقيقة ومن التغطية المهنية والمتوازنة التي يقدمها عدد كبير من الصحفيين والمدرسة المهنية الملتزمة وطنياً وإنسانياً التي مثلتها شيرين ورفاقها ورفيقاتها.
اتهم المحتل الإسرائيلي بالأمس الفلسطينيين باغتيال شيرين عبر تصريحات مباشرة من مسؤوليه، ومن ثم انتقل إلى الاستعداد للمشاركة في تحقيق قالت عنه منظمة هيومان رايتس ووتش بأنه لن يكون أكثر من محاولة جديدة لتلميع صورة الاحتلال. علينا كفلسطينيين وعرب وصحفيين التمسك بأن التحقيق في اغتيال شيرين يجب أن يكون مستقلا وتحت إشراف المؤسسات الحقوقية الدولية المعنية، فمن غير المنطقي أن يشارك المتهم (دولة الاحتلال ومؤسساتها) في إجراء تحقيق قد يدينه، والشواهد في التحقيقات السابقة كثيرة على العد. ذلك أن استقلالية التحقيق وجدية المطالبة به والمتابعة المستمرة لمجرياته شعبيا وإعلاميا ورسميا هي من أهم الطرق لضمان محاسبة إسرائيل على جريمة الحرب التي ارتكبتها بحق شيرين وفي تشكيل سابقة قد تردع دولة الاحتلال في المستقبل أو تجعلها تتردد في القيام بعمل مشابه. من أطلق النار على شيرين وعلي السمودي هو والنظام الذي مكنه من ارتكاب جريمة الحرب هذه، يجب أن تتم محاسبتهم، وألا يفلتوا من العقاب. ناهيك عن ضرورة تعرية ومحاسبة جملة من السياسيين والإعلاميين الذين يقومون بالتحريض المستمر على الصحفيين الفلسطينيين. بالأمس فقط وبعد الاغتيال، قال الناطق باسم جيش الاحتلال إن الصحفيين الفلسطينيين "مسلحون بالكاميرات" مما يعتبر إشارة قوية لربطهم بالمقاتلين ونزع الصفة المدنية والحصانة الصحفية عنهم، وبشكل من الأشكال تبرير استهدافهم. لقد كان عضو الكنيست الإسرائيلي إيتمار بن غفير أوضح في قبحه حين قال: "عندما يتم إطلاق النار على جنودنا في جنين، فيجب أن يردوا على إطلاق النار بكامل قوتهم، حتى لو كان هناك صحفيون في المنطقة من قناة الجزيرة".
إن أقل ما يمكن تقديمه لذكرى شيرين، لتضحيات السمودي ورفاقهما من الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلوا (أكثر من 50 منذ سنة 2000) أو اعتقلوا أو جرحوا في دفاعهم عن صوت فلسطين وعن الحقيقة هو المطالبة بالتحقيق المستقل والعدالة. الاعتداء على الصحفيين محرم دوليا، والدول التي تقوم بذلك تتم مساءلتها من قبل المنظمات الدولية ومجالس حقوق الإنسان. إن حماية الصحفيين الفلسطينيين هي حماية لخط الدفاع الأول عن الحقيقة والحقوق الفلسطينية وإدانة جيش الاحتلال في جرائمه ضد الصحفيين ورفع الحصانة الدولية عنه وإنهاء التستر عليه يمهد الطريق لتحركات قانونية أوسع لتجريم تسليحه والتعاون معه في المستقبل. هدف قد يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي لكنه غير مستحيل، فالفلسطينيون محكومون بالأمل حتى في أحلك اللحظات.