كان "نزول الكتابة إلى الميدان" - إن جاز لي القول - في تجربتي الصحفية والأدبية قبل عشرين عاماً تقريباً، أمراً حاسماً ومحورياً في طبيعة فهمي وتعاملي الشخصي مع "الكتابة" و"الميدان"، إن كنّا نقصد ميدان الواقع الحيّ المتحرّك. على الرغم من أنني لم أكن أعي هذه الأهمية في وقتها، وتكشفت لي بالتدريج فيما بعد.
كانت خبرتي الأساسية مع الكتابة ومعالجة الكلمات حتى ذلك الوقت قادمة من تماريني المنتظمة على الكتابة الأدبية، وليس من دراسة أكاديمية لفنون الكتابة الصحفية، أو ممارسة متدرجة كصحفي متدرّب يرتقي شيئاً فشيئاً في العمل الصحفي.
لم أكن لأدخل لعالم الصحافة أصلاً لولا شيئان أساسيان؛ الأول: حاجتي للعمل ومصدر للعيش، والثاني: معرفتي أن الكثير من نجوم الكتابة الأدبية حول العالم، وفي العالم العربي أيضاً، زاولوا الصحافة بشكل دائم أو مؤقت خلال مسيرة حياتهم الأدبية. فكانت هذه الحقيقة تعطيني إشارة أمان إلى أنني لا "أخون" الكتابة الأدبية.
الشيء الذي تكشّف لي سريعاً هو ما سيغدو الدرس الأساسي في الكتابة الأدبية والصحفية على حدٍّ سواء؛ أن القضية كلّها تتعلق بتحويل مقنع لوقائع وتجارب على أرض الواقع إلى كلمات.
لقد قضيت وقتاً طويلاً في حيرة أمام قصاصات ورقية كثيرة تتضمن إفادات لأشخاص وملاحظات وأوصاف لأمكنة كنت جمعتها لإنجاز قصصي الصحفية الأولى. كيف يمكن أن تتحوّل هذه القصاصات إلى نسيج مترابط، وأن يتضمن المكتوب أيضاً إحساسي الشخصي بالتجربة، وما علق في ذهني من أشياء لم أدوّنها في دفتر الملاحظات؟
تبرز هذه الحيرة طبعاً أمام القصة الصحفية الطويلة، الربورتاج، ولا تتضح مع كتابة الأخبار القصيرة أو تحريرها، والربورتاج هو المجال الذي استهواني أكثر، وفيه كانت تتوفّر تجربة فعلية لمواجهة مع أماكن وأشخاص واكتشاف أشياء جديدة. وهنا نفعتني خبرتي مع الكتابة الأدبية، فالربورتاج يحتاج إلى مثل هذه الخبرة، تحديداً قدرة الخيال على اختلاق شكل للنص المكتوب. كيف تبدأ؟ وبماذا تبدأ؟ وكيف تقود القارئ في رحلة تعرّف واكتشاف ولكن مع يقين هذا القارئ أنك تنقل له حقائق ووقائع، وليس نصاً متخيلاً بالطبع؟
سرعان ما أيقنت أن "تحويل الوقائع والتجارب إلى كلمات" هو أيضاً عصب الكتابة الأدبية، وتحديداً في نقطتين:
الأولى: تتعلق بتنمية حسّ الفضول تجاه العالم الخارجي، والانتباه إلى التفاصيل، والانجذاب لشهوة التعرّف على الأشياء، والشعور بالعوز والنقص تجاه معرفة العالم، وعدم الاكتفاء بما يعلق في الذاكرة، والمرويات التي تسمعها عرضاً من الناس بجوارك. فالكتابة الأدبية - وتحديداً القصة والرواية والنص الدرامي والسينمائي - يتعلق بـ "الآخرين" وليس "الذات". فهذه الأخيرة صوتها الأدبي هو "الشعر"، كما أن الذات الخالصة المتمحورة على نفسها لا تحوي شيئاً أبداً، فكل ما في الذات هو شبكة علائق مع العالم والآخرين.
الثانية: أن أكثر النصوص الأدبية تحليقاً في الخيال يحوي في نهاية المطاف شيئاً من العناصر الواقعية، فالإيهام الضروري للأدب لا يمرّ إلا عبر الواقع، حتى في رواية مثل "الأمير الصغير" لاوكزوبري، هناك خبرة حياتية ما يمرّرها الكاتب من خلال نسيج القصّة الخيالية. كما أن هناك أعمالا شهيرة اعتبرت مجازاً وكناية عن حقائق اجتماعية/سياسية، كما هو الحال مع "مزرعة الحيوان" لأورويل. فرغم خياليّتها إلا إنها تعود بقوّة إلى الواقع بشكل رمزي، وهي صدرت أصلاً عن خبرة الكاتب مع وقائع محدّدة اجتماعية ونفسية وسياسية.
أعظم النصوص المكتوبة للتلفزيون يمكن أن يعرّضها الإنتاج للتشويه القادم من الاختزال بسبب سقفه الواطئ.
حتى مع انتقالي إلى النصّ التلفزيوني الوثائقي، كانت لوثة الفنّ والأدب حاضرة؛ فأنت هنا تريد عملاً تلفزيونياً يجذب المشاهد، يكثّف له المعلومات، ويشدّه ولا يشعره بالملل، ولا يكون ذلك إلا بالعناية بعناصر جمالية وتقنية/فنية تحيل - في كلّ الأحوال - إلى الأدب والسينما.
لم يكن غريباً بعدها أن استثمرت هذه الخبرة مع الصورة وتقنيات إنتاج الفيلم الوثائقي في مجال جديد هو الكتابة الدرامية للتلفزيون؛ حيث المطالب تكاد تكون واحدة من المحتوى التلفزيوني - إن كان وثائقياً أو درامياً خيالياً - التكثيف، والإبهار، والتشويق، ونقل خبرة ما مع الواقع والمجتمع.
رغم ذلك فإن التحديات أمام النص المكتوب كي يكون "مكتملاً" وفق ما يريده الصانع والمنشئ - إن كان عملاً صحفياً أو أدبياً - تبقى أقل من تلك المتعلقة بالتلفزيون؛ فأعظم النصوص المكتوبة للتلفزيون يمكن أن يعرّضها الإنتاج للتشويه القادم من الاختزال بسبب سقفه الواطئ، أو سوء الفهم والكسل وضعف الموهبة والحماسة والإخلاص للعمل لدى العناصر الأخرى المتعلقة بالإنتاج التلفزيوني.
في الكثير من الحالات لا تبدو النتائج مرضية دائماً أو بشكل كامل للكاتب الذي يعمل في التلفزيون، وغالباً عليه أن يرضى بالتسوية مع عناصر العمل الأخرى، والتي منها ـ بالإضافة إلى ما ذكرته ـ التوجهات والتصورات السياسية والفكرية لمالكي القناة التلفزيونية، والتي تعمل عمل المشرط على العمل الوثائقي أو الدرامي، إن لم ينتبه كاتب النص لحدود هذا المشرط مسبّقاً.
الشيء الذي تكشّف لي سريعاً هو ما سيغدو الدرس الأساسي في الكتابة الأدبية والصحفية على حدٍّ سواء؛ أن القضية كلّها تتعلق بتحويل مقنع لوقائع وتجارب على أرض الواقع إلى كلمات.
زرت في صيف 2011 معبد لالش، أقدس أماكن العبادة للديانة الأيزيدية في العراق، لإنجاز وثائقي قصير عن المعبد، وكانت فرصة ثمينة للتعرّف على تفاصيل هذه الديانة، والتواصل مع مجتمعها بشكل مباشر، ولم يكن لي قبلها سوى تواصل سطحي مع هذا المجتمع، بالإضافة إلى ما قرأته في الكتب وبعض المقالات عن هذا المجتمع الخاص وشبه المغلق على نفسه حتى أحداث غزو الموصل من قبل تنظيم الدولة.
بعد هجوم "داعش" على سنجار في آب/أغسطس سنة 2014، وأحداث التهجير والقتل وسبي النساء وغيرها من الفظائع تحوّل المجتمع فجأة إلى بؤرة الضوء الإعلامي عالمياً. أنتجت العشرات من القصص الصحفية والأخبار، ثم لاحقاً الأفلام الوثائقية والبرامج عن الأيزيديين والسبي والتهجير وما إلى ذلك، ثم بعد سنة أنتجت أعمال درامية عراقية وعربية تتناول جزئياً محنة السبي. وظل هذا الموضوع حاضراً بشكل دائم في الفضاء الإعلامي العراقي والعربي والعالمي لوقت طويل، خصوصاً بعد تنظيم الأيزيديين لخطابهم الإعلامي وفضح ممارسات تنظيم الدولة، وتحريض العالم والمؤسسات الدولية على مساعدتهم. ليتوّج ذلك بحصول نادية مراد على جائزة نوبل للسلام في 2018 لدورها في التوعية بمأساة شعبها الخاصة، وأيضاً إصدارها كتاب مذكرات باللغة الإنجليزية، ترجم لاحقاً إلى العربية بعنوان "الفتاة الأخيرة" تروي فيه محنتها مع تنظيم الدولة.
أسوق هذه القضية لأنها مفيدة في الإشارة إلى أمرين:
الأول: في تلك الفترة كنت أنا نفسي في دائرة الضوء، بعد فوزي بالجائزة الدولية للرواية العربية "البوكر" سنة 2014. وكان من الصعب لدى الكثير من القرّاء والمتابعين أن يفصلوا ما بين رواية "فرانكشتاين في بغداد" والحدث السياسي والأمني الأبرز في العراق والعالم في تلك الأوقات؛ ألا وهو تنظيم الدولة وانهيار القوات الأمنية العراقية أمام تقدمه الكاسح وتشكيل تحالف دولي لمواجهته. هذا الربط كان يحاول أن يفسّر ما يجري من خلال قراءة العمل الأدبي، رغم أن الرواية كتبت ونشرت قبل حدث تنظيم الدولة.
كان هناك نمط مريح، وقد أقول "كسول" من القراءة، لا يرى العمل الأدبي جاذباً للاهتمام إلا بإشارته المباشرة إلى الحدث الواقعي، وكأنه "تعليق صحفي"!
لقد واجهت ذلك في اللقاءات الصحفية المباشرة مع جمهور القرّاء إن كان في العالم العربي أو في حفلات التوقيع للطبعات الأجنبية المختلفة في أوروبا وآسيا.
لقد طلبت مني صحفية ألمانية تعليقاً مناسباً حول اعتزام حكومة أنجيلا ميركل تزويد إقليم كردستان العراق بالسلاح من دون المرور بالحكومة العراقية المركزية ببغداد، وكان هذا خلال حفل أدبي أقيم لي ببرلين أواخر 2014. بالنسبة لي كان الأمر أشبه بقفزة مؤلمة وطويلة من موضوع الجلسة إلى مجال تقني ودبلوماسي يمكن أن يجيب عليه وزير الخارجية العراقي وليس أنا!
الشيء المهم الذي اتضح لي في تلك الفترة أن هناك ضغطاً قوياً تمارسه التغطيات الإعلامية على الأديب كي يتابع القضايا الأكثر حضوراً في الفضاء الإعلامي. يكتب وينشر روايات حول الحدث الأبرز في الساحة الآن.
بينما كنت أنا أتحدث في روايتي "فرانكشتاين في بغداد" عمّا بدا لي تجربة من التاريخ القريب؛ أحداث العنف الطائفي ببغداد في 2005-2006. كنت مؤمناً أنني حصلت على مسافة كافية من هذه التجربة التي كنت جزءاً منها، تتيح لي تحليلها وإعادة انتاجها أدبياً.
كان من الواضح أنه من المناسب في تلك الأجواء أن أكتب رواية عن محنة الأيزيديين. ستكون مناسبة لدائرة الضوء المزدوجة؛ تلك التي على هذا الحدث الإنساني الصادم، والأخرى المسلّطة عليّ كنجم أدبي صاعد.
لكن كانت هناك مشكلة جوهرية بالنسبة لي: فأنا لن أتمكن من ركوب الموجة سريعاً، لأنني أقضي وقتاً طويلاً في الكتابة الأدبية [روايتي "باب الطباشير" اللاحقة على "فرانكشتاين في بغداد" استغرقت فيها 4 سنوات حتى اكتملت]، ثم أين تجربتي الشخصية مع هذه المحنة الإنسانية الصادمة؟ لقد حصلت - مثل آخرين غيري - على انطباع وردّة فعل من التغطيات الإعلامية، وفي بعض الحالات من خلال التواصل بالبريد مع بعض الضحايا، عرَضاً ودون تخطيط. وهذا الانطباع يحمل تقديراً لجهد الآخرين الإبداعي والصحفي، وليس حصيلة تجربة شخصية لي.
كان عليّ أن أخوض في تفاصيل المحنة ومجتمعها المحلّي الخاص بمبضع الصحفي لبضع سنوات، كي أكون مؤهلاً للكتابة بصدق عنها، ثم في نهاية المطاف سيطلب الضحايا ومجتمع القراءة المتضامن مع هذه المأساة أن أصوّر عالماً من الأبيض والأسود، وهذه منطقة غير مغرية أدبياً، لأنها تبنى على مسبّقات أخلاقية وفكرية، ولا تعطي تصوراً واقعياً عن التجربة الإنسانية المعقدة، وحتى أصل إلى هذه المنطقة من فهم التجربة ستكون قد مضت سنوات طويلة، أزالت الحدث نفسه من "تريد" الأخبار والتغطيات الإعلامية!
وللمفارقة فإن الكاتب اليوم في وضع أفضل للتعامل مع هذه التجربة الإنسانية، بعد زوالها من "الترند"، إن كان قادراً على انتزاع استعارات إنسانية منها، لا تتعلق فقط بعرض محنة فئة ومكوّن، وإنما الجوهر الإنساني للتجربة الذي ينعكس على كل النوع البشري أياً كان وفي أي مكان.
كان عليّ أن أخوض في تفاصيل المحنة ومجتمعها المحلّي الخاص بمبضع الصحفي لبضع سنوات، كي أكون مؤهلاً للكتابة بصدق عنها.
الأمر الثاني؛ يتعلق بحيثيات الصياغة الصحفية والأدبية كما تحقق فعلاً لهذه المحنة، وأبرز مثال عليها هو كتاب نادية مراد "الفتاة الأخيرة". وهذا يستدعي عدّة ملاحظات:
1 ـ إننا في ثقافتنا العراقية والعربية نفتقر لهذا النوع من الكتب. أو ربما ليست بذلك الحضور الذي لكتب مماثلة في مناطق أخرى من العالم. أقصد كتب الربورتاج، والسير الشخصية، والرحلات والمذكرات. إن لدينا تسيّداً واضحاً للكتب الأدبية وبالذات الرواية على النوع السردي. وهذا ليس أمراً سيئاً بحد ذاته، ولكنه يشير إلى نقص في مناطق أخرى من رفوف المكتبة العربية.
2 ـ لن يحتاج القارئ إلى تدقيق كبير لكي يعرف أن نادية مراد لم تكتب هي بنفسها هذا الكتاب، خصوصاً وأنه في الأصل مكتوب باللغة الإنجليزية، وإنما هناك "بلاك رايتر"، كما هو معمول به في السياق الغربي؛ يسجّل المادة من صاحبة القصّة، ثم يعيد صياغتها بأسلوبه. وهنا سيذهب الذهن مباشرة إلى أن جزءاً مهماً من القوة والإثارة الموجودة في الكتاب آتية من بلاغة الكاتب، بالإضافة إلى الشحنة الدرامية الإنسانية للقصة الأصلية.
إن الكاتب، وخياله وبراعته الأدبية، جزءٌ أصيل من قوّة الرسالة التي حملها الكتاب. ولكنه خيال وبراعة أدبية يريد أن يخدم الحقيقة، لا المجاز والاستعارة عن الحقيقة، كما يفعل النص الأدبي الصريح. رغم أننا في نهاية المطاف مع هكذا نوع من الكتب لن نملك ما نجزم به للفصل الحاد بين الخيال والواقع.
3 ـ إن ما رسّخه عالم الصحافة والتواصل المعاصر اليوم هو أن السياق واستعداد الجمهور أمران مهمان للقصة المروية. إن كان الجمهور ينتظر منك قصة عن محنة الأيزيديين،) أو الغزو الروسي لأوكرانيا اليوم مثلاً (فإنك بتجاهله ستخسر جمهوراً جاهزاً وينتظر، وبإمكانك دائماً أن تنتج شيئاً عظيماً أو سطحياً عابراً، فالأمر يتعلق بالموهبة وخصوبة الخيال ومهارات الكاتب التقنية ومجموعة ظروف أخرى متنوعة.
كما أن السياق - بسبب ضغط مواقع التواصل الاجتماعي، وثقافة الاستهلاك ما بعد الحداثية - يحرّض على الاختزال والتبسيط الذي يقود إلى التسطيح، وهو أمر يهدد الأعمال الأدبية بخسران خصوصيتها لصالح أعمال ذات طبيعة إعلامية وصحفية.
هذا أمر يمكن أن يخدم أعمالاً صحفية مركّبة، كما هو الحال مع كتاب "الفتاة الأخيرة" لنادية مراد، مكتوبة بروح الربورتاج، مع بلاغة الكتابة الأدبية وخيالها، تستكشف تجارب مجتمعية عديدة ما زالت بعيدة عن التوثيق والإضاءة.. وهذه حدود الواقع والخيال.