في ١١ آب/أغسطس 2023، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام اللبنانية خبر إقفال "تلفزيون لبنان"، التلفزيون اللبناني الرسمي. اتهم عدد من الموظفين ونقابة موظفي "تلفزيون لبنان" وزير الإعلام زياد مكاري بإصدار هذا القرار شفهيا، والذي وصفوه "بالمفاجئ بدل إعطاء الموظفين حقوقهم المادية" بحسب قولهم. ساعات قليلة، ويردّ مكاري ببيان صحفيّ يحمّل فيه النقابة مسؤولية الإقفال نافيا إصدار أي قرار بإقفال المحطة بل "وقف بثّ مؤقت حفاظا على المال العام"، حيث عبّر فيه عن "استغرابه من خطوة تعليق العمل لا سيما بعدما توصّل إلى صيغة لاستحصال حقوقهم". غير أنه لاحقا في ساعات المساء، انتشر مجددا على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام خبر إعادة البث في المحطة.
ولعلّ هذا التخبّط في انتشار خبر الإقفال وثمّ تجميله بعبارة "وقف بثّ" وصولا إلى إعادة البث وما تخلله من تبادل الاتهامات والتناقض في تصريحات المعنيين يعبّر عن واقع "تلفزيون لبنان" الذي يعدّ مثالا أو صورة عن حقيقة النظام اللبناني وأزمته في آن معا.
منذ عام 2019، وهو العام الذي أعلن فيه رسميّا عن بداية الانهيار المالي في لبنان، بدأ التداول على وسائل الإعلام بجوانب عدة من أزمة "تلفزيون لبنان" المالية والإدارية لا سيما فيما يتعلّق بأزمة رواتب الموظفين ومستحقاتهم وبالتعيينات الإدارية التي كانت مجمّدة بسبب الأزمات الحكومية من جهة والخلاف الطائفي والحزبيّ حول تقاسم التعيينات من جهة أخرى. وعلى عكس الاعتقاد العام بأن الأزمة تعود إلى المراحل الأولى للانهيار السياسي والمالي في لبنان، فإن تلفزيون لبنان يعاني من الضعف والمشاكل المالية منذ الحرب الأهلية بنسب متفاوتة إلى أن بدأ يفقد دوره وريادته تدريجيا منذ العام 1994 أي تاريخ صدور قانون الإعلام بعد انتهاء الحرب الأهلية.
إلا أن القانون واقعيا، وبذريعة تنظيم وسائل الإعلام، ساهم في مأسسة الطائفية والزبائنية السياسية في الإعلام إذ توزعت ملكية المحطات التلفزيونية على رؤساء الطوائف والسياسيين ورجال المال والأعمال وأفراد من العائلات السياسية.
التأسيس وبداية الأزمة
يعود تاريخ إنشاء "تلفزيون لبنان" إلى العام 1956 عندما حصل رجلا الأعمال وسام عزالدين وألكس عريضا بالحصول على ترخيص لإنشاء محطة تلفزيونية عرفت باسم "الشركة اللبنانية للتلفزيون"La Compagnie Libanaise de Television بعد عامين من التفاوض مع الدولة اللبنانية. ونصّ ترخيص الشركة على إنشاء محطتين تلفزيونيتين، واحدة ناطقة باللغة العربية وأخرى ناطقة باللغة الأجنبية لا سيّما الفرنسية. ولم تكن الشركة أول محطة تلفزيونية على مستوى لبنان فقط بل في المنطقة العربية، وهي على الرغم من كونها محطة تجارية خاصة، إلا أن القانون لم يسمح للمالكين بالاحتكار وأعطى للدولة الحقّ في التدقيق في المحتوى الذي يمنع من بثّ برامج "تهدد الأمن القومي، القيَم، المجموعات الدينية، أو تحسين صورة أي شخصية سياسية أو حزب".
وفي العام 1959، حصلت مجموعة أخرى من رجال أعمال لبنانيين مدعومين من الشركة الأميركية "آي.بي.سي" (ABC) على ترخيص مماثل لإنشاء محطة تلفزيونية باسم "شركة تلفزيون لبنان والشرق الأدنى" (Compagnie de Television du Liban et du Proche-Orient (Tele Orient)). لاحقا، اتفقت الشركتان على التشاور لتنظيم عملهما للحدّ من الخلافات والفوضى التي برزت بفعل المنافسة لا سيما فيما يتعلّق بالإعلان.
أما نقطة التحوّل الأولى والتي أسست فعليا لوجود "تلفزيون لبنان" بصيغته الحالية، أي كمؤسسة تابعة للدولة، فقد كانت في العام 1974، أي قبل عام من اندلاع الحرب الأهلية حيث سمحت الحكومة اللبنانية آنذاك بتجديد عقد "الشركة اللبنانية للتلفزيون" لمدة تسع سنوات فقط مقابل إعطاء الصلاحيات للحكومة في ممارسة السلطة السياسية على البثّ. وعلى إثر القانون الجديد، حصلت الحكومة على2.5 بالمئة من عائدات الإعلانات كما فرضت بثّ برنامج سياسيّ يوميّ من إعداد السلطة السياسية. واللافت أن القانون الجديد لم يتمّ تطبيقه على الشركة الثانية ما أدى إلى حدوث فوضى في القطاع الإعلامي وعدم القدرة على تطبيق القانون ما جعل الدولة لاحقا غير قادرة على تنظيم هذا القطاع.
وشكّلت الحرب الأهلية نقطة التحوّل الثانية في تاريخ "تلفزيون لبنان"، ليس في الخسائر المادية التي تكبدتها المحطتان بفعل الاقتتال الداخلي وتراجع الإعلانات وعدم القدرة على الاستمرار، بل في سيطرة الميلشيات المتقاتلة على المحطتين. ففي العام 1976، قامت الحركة الوطنية (المدعومة من غالبية مسلمة) باحتلال مبنى المحطة -في منطقة تلة الخياط فيما كان يعرف ببيروت الغربية - والسيطرة عليها، بينما احتلّت ميليشيا "الكتائب اللبنانية" (المدعومة من غالبية المسيحيين) مبنى المحطة في منطقة الحازمية فيما كان يعرف ببيروت الشرقية. على الأثر، ومع ازدياد الخسائر المادية وسرقة المعدات طلبت الشركتان تدخّل الدولة لإنقاذ قطاع الإعلام المرئي في لبنان، ومع انتخاب إلياس سركيس رئيسا للجمهورية تمّ استبدال الشركتين بأخرى جديدة بحيث تملك الدولة النصف والقطاع الخاص (الشركتان القديمتان) النصف الآخر، فتأسست رسميا "شركة التلفزيون اللبناني" أو "تلفزيون لبنان" بصلاحيات كاملة للحكومة اللبنانية. بعدها، أصدرت الدولة اللبنانية مرسوما عاما رقم 4128 نصّ على "اعتبار شركة تلفزيون لبنان من المؤسسات المكلفة بإدارة مرفق عام".
أما نقطة التحوّل الثالثة، فتمثلت في ظهور القنوات التلفزيونية الحزبية التي انتشرت في ثمانينيات القرن الماضي بفعل استمرار الحرب الأهلية وضعف وتفتت مؤسسات الدولة إذ بات لكلّ حزب وسيلته التلفزيونية المدعومة ماليا والمجهزة تقنيا، الأمر الذي أفرغ "تلفزيون لبنان" من اليد العاملة المتميّزة مع عدم القدرة على تحسين نوعية البرامج.
وفي العام 1994، صدر قانون الإعلام الذي أعلنت الحكومة أنه يهدف إلى تنظيم الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب بعد انتهاء الحرب الأهلية وإلى إنهاء الحالة الطائفية والمناطقية التي سادت خلال الحرب لا سيما مع ظهور عشرات المحطات غير مرخصة. إلا أن القانون واقعيا، وبذريعة تنظيم وسائل الإعلام، ساهم في مأسسة الطائفية والزبائنية السياسية في الإعلام إذ توزعت ملكية المحطات التلفزيونية على رؤساء الطوائف والسياسيين ورجال المال والأعمال وأفراد من العائلات السياسية ومستشارين وموظفين لدى زعماء الطوائف والسياسيين كشركاء من خلال امتلاك بأسهم متفاوتة كطريقة للالتفاف على القانون الجديد الذي يمنع حصرية الملكية لشخص واحد.
هذه المشاكل المالية والتجاذبات بين الحكومة وإدارة المؤسسة، ما لبثت أن تفاقمت لسنوات طويلة. ولم تقتصر هذه المشاكل على تبادل الاتهامات حول الفساد المالي للتلفزيون بل أيضا السياسي وذلك من خلال الزبائنية في فائض التوظيفات في إدارة المحطة.
انتقدته، فأوقف البثّ!
يعود الحديث عن الأزمات المالية والإدارية للتلفزيون في الإعلام إلى تسعينيات القرن الماضي. ففي العام 1990، أضرب موظفو التلفزيون بسبب عدم حصولهم على مستحقاتهم المالية. وفي العام 1997، جرى الحديث عن إفلاس المحطة الأمر الذي دفع المدير العام للمحطة آنذاك إلى نفي "ما تمّ تداوله في بعض الأوساط السياسية والإعلامية حول إمكانية إعلان إفلاس شركة تلفزيون لبنان".
في مقال له في العام 1999، كشف الصحفي في "جريدة السفير" آنذاك عماد مرمل عن خلافات بين إدارة التلفزيون وبين رئيس الحكومة آنذاك سليم الحص بسبب قيام الأخير بتعيين "فريق من الموظفين لإجراء جردة بالموجودات في كافة مراكز الشركة" و"استحداث مركز مراقبة مكون من رجلي أمن، عند مدخل مبنيي شركة التلفزيون في الحازمية وتلة الخياط، للتأكد من عدم إخراج أية موجودات".
هذه المشاكل المالية والتجاذبات بين الحكومة وإدارة المؤسسة، ما لبثت أن تفاقمت لسنوات طويلة بحيث شهدت المحطة على إضرابات متعددة للموظفين للمطالبة بالحصول على مستحقاتهم المالية. ولم تقتصر هذه المشاكل على تبادل الاتهامات حول الفساد المالي للتلفزيون بل أيضا السياسي وذلك من خلال الزبائنية في فائض التوظيفات في إدارة المحطة.
أما المحطة الأبرز في تلك المرحلة فكانت تتمثل بقرار رئيس الحكومة آنذاك الراحل رفيق الحريري مع "وعد بإعادة افتتاحه بعد 3 أشهر تاركا 503 موظفا". وفي حين ربطت الصحف اللبنانية آنذاك بين قرار الإقفال والأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها المحطة، برز رأي ربط بين تعرّض الحريري آنذاك لهجوم من قبل المحطة بتهمة الفساد وهدر المال العام وبين قرار الإقفال ليعود بعدها إلى البثّ بعد ما يقارب الثلاثة أشهر.
أزمة الإقفال الأخيرة أو "وقف البث المؤقت"
في السنوات القليلة الماضية، شهدت المحطة مشاكل عدة لا تقتصر فقط على الهدر المالي وامتناع الحكومة اللبنانية عن دفع مستحقات الموظفين وعن تلبية مطالبهم بتصحيح الأجور أسوة بباقي موظفي القطاع العام، بل أيضا عانى التلفزيون من فراغ في مجلس الإدارة بسبب عدم إتمام التعيينات اللازمة لعدة عوامل أهمها الأزمة السياسية في البلاد منذ العام والتجاذبات بين المرجعيات والأحزاب السياسية حول التعيينات والتي تعتمد الكوتا الطائفية في المناصب.
اليوم، يجري الحديث منذ مدة عن خصخصة عدد من مؤسسات القطاع العام في لبنان، فهل يكون "تلفزيون لبنان" أحدها؟
لا يقدم هذا المقال دراسة مفصّلة عن تلفزيون لبنان، إلا أنه يقدّم لمحة عامة عن أبرز المحطات التي مرّ بها "تلفزيون لبنان" وصولا إلى يومنا هذا. وإن كان ثمة تشابه بين أزمة الأمس واليوم، فهي في تكرار المشاكل نفسها والنهج نفسه في إدارة المحطة كمرفق عام يخضع للإهمال من قبل المعنيين، والذي يرى فيه البعض خطة ممنهجة لا سيما بعد انتشار المحطات الأرضية والفضائية الخاصة على حساب التلفزيون الرسمي من جهة، وانعكاس لصورة أزمة النظام في لبنان وغياب تطبيق القوانين وضرب مؤسسات القطاع العام من خلال سوء الإدارة والزبائنية من جهة أخرى.
اليوم، يجري الحديث منذ مدة عن خصخصة عدد من مؤسسات القطاع العام في لبنان، فهل يكون "تلفزيون لبنان" أحدها؟
المراجع
1- Dajani, N. (2001). “The Changing Scene of Lebanese Television”, Arab Media & Society, November
2- الحريري، ح. (2022). "الإعلام في لبنان بين الارتهان السياسي وسلطة رأس المال"، معهد الجزيرة للإعلام، مجلة الصحافة، العدد (25)، السنة السابعة.
3- Khashan, H. & Haddad, S. (2002). “Lebanon’s Political System: The Aftermath of Landslide Victory”, Il Politico, Vol. 67, No. 2 (200), pp. 189-208
4 - أرشيف صحيفة السفير اللبنانية