من يتابع التغطية الإعلامية الغربية للإبادة الجماعية في فلسطين (غزة) خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، يتعجب من الأداء المعيب وغير المهني لعدد من المؤسسات الإعلامية الدولية المهمة. لقد خرقت المؤسسات الكبرى -بما فيها بي بي سي وسي أن أن ورويترز- مبادئ التوازن والعدالة والدقة والمسؤولية، ولم تلتزم بممارسة التدقيق في تغطيتها للحرب الإسرائيلية على غزة. وبينما وفرت عددا كبيرا من الموارد الصحفية والساعات الإخبارية لتغطية أخبار الضحايا الإسرائيليين في السابع من أكتوبر، وتحدثت عن كل واحد منهم على حدة، وأجرت مقابلات لاحقة مع الأسرى الإسرائيليين، فإنها نادرا ما سلطت الضوء على أكثر من 24 ألف ضحية فلسطينية للجرائم الإسرائيلية في الشهور التي تلت.
لقد بالغ الإعلام الغربي في منح الوقت والموارد لصناعة مشهدية درامية للمعاناة الإسرائيلية في السابع من أكتوبر نتيجة هجوم المقاومة الفلسطينية، في حين أطفأ الكاميرا والميكروفون عن التراجيديا الفلسطينية المستمرة لأكثر من مئة يوم. هذا الواقع هو حصيلة عقود من البروباغندا (الدعاية السياسية) التي أدت إلى تدجين الصحافة الدولية وتحصين إسرائيل وممارساتها وسياساتها من النقد وسياسيّيها من الأسئلة المحرجة.
بالغ الإعلام الغربي في منح الوقت والموارد لصناعة مشهدية درامية للمعاناة الإسرائيلية في السابع من أكتوبر نتيجة هجوم المقاومة الفلسطينية، في حين أطفأ الكاميرا والميكروفون عن التراجيديا الفلسطينية المستمرة لأكثر من مئة يوم.
بدا واضحا من التغطية الصحفية تباين المعايير المهنية في التعامل مع ضحايا الحروب بحسب اختلاف لون البشرة والدين والقومية. الصحافة التي عدها أوسكار وايلد الكاتب الأيرلندي الشهير "الحاكم الفعلي والأبدي" في الولايات المتحدة والديمقراطيات تعرت وتقزمت لتصبح أداة دعائية في آلة البروباغندا الصهيونية.
وإلا فكيف يمكن للجمهور في عصر الإنترنت والبث الإخباري الفوري والتقارير المباشرة والأخبار التلفزيونية على مدار الساعة وإضفاء الطابع الديمقراطي على تقنيات الاتصال وتنوع مصادر الأخبار، ألا يتمكن من الوصول للحقيقة ورؤية تغطية متوازنة ومهنية وعادلة للفلسطينيين؟!
لقد قبلت مؤسسات صحفية كبرى عديدة -بما فيها سي أن أن- أن تخضع تقاريرها قبل البث للرقيب الإسرائيلي، بممارسة الصحافة المدمجة (المرفقة بالجيش) التي كانت من أهم عوامل السقوط الأخلاقي الصحفي في تغطية الحرب الأمريكية على العراق 2003؛ إذ أُلحِقَت الفرق الصحفية بالجيش خلال العمليات العسكرية، وفيها تتطابق تماما زوايا الرؤية ومداها بين الصحفي والعسكري، على نحو يجعل من الصحفي أداة دعائية في يد الجيش ويحرمه من أي استقلالية أو مصداقية (1) أو مساحة للالتزام بالقواعد الأساسية لممارسة عمله بمهنية، ولا سيما قواعد الحياد والتوازن والعدالة والمسؤولية.
ألحِقَت الفرق الصحفية بالجيش خلال العمليات العسكرية، وفيها تتطابق تماما زوايا الرؤيا ومداها بين الصحفي والعسكري، على نحو يجعل من الصحفي أداة دعائية في يد الجيش.
التحيزات التحريرية وغرف الأخبار
حذر الباحثون والمحللون من أن الاختيارات التحريرية غالبا ما تبيِّض جرائم إسرائيل في حقّ الفلسطينيين، وتحجب عدم تكافؤ القوى بين الطرفين، وتعفي إسرائيل من أي مسؤولية عن أفعالها؛ فقد اتُّهمت غرف الأخبار في الغرب بإعطاء الأولوية للمصادر الإسرائيلية، وتبني مصطلحات مؤيدة لإسرائيل، والامتناع تحريريا عن فضح تصرفات إسرائيل؛ من خلال الاستخدام المنهجي لعدد من الأدوات اللغوية، من ضمنها استخدام مفردات مختلفة (قتلى مقابل موتى على سبيل المثال) في تغطية الأحداث نفسها، بحسب جنسية الجاني والمجني عليه، وكذلك استخدام صيغة المبني للمجهول -التي تخفي هوية مرتكب الجريمة- عندما يكون الجاني إسرائيل. وفي المقابل، يُجرَّد الفلسطينيون من إنسانيتهم ويتم التعتيم على معاناتهم وتحييد أصواتهم؛ ففي أكتوبر/ تشرين الأول غرد عدد من الناشطين الفلسطينيين محذرين من أن غرف الأخبار الأمريكية تلغي مقابلاتهم المجدولة، وهو ما يحرم وجهة النظر الفلسطينية من أن تصل إلى الجمهور، ويحرم الجمهور من فرصته في الحصول على أخبار ونقاشات تمثل طرفي الصراع لتكوين رأي حوله.
تقابل المؤسسات الإعلامية الدولية المعلقين الفلسطينيين ضمن شروط وإملاءات يبدو أنها جزء من السياسة التحريرية لعدد منها؛ إذ يُسمح للمعلقين الفلسطينيين بالتعبير عن الحزن على الضحايا، ولكن بشروط منها عدم التطرق للجرائم الإسرائيلية أو شرح سياق الأحداث الجارية، وكذلك يُطلَب منهم إدانة أعمال المقاومة في السابع من أكتوبر للاستمرار في المقابلة. ووصل الأمر إلى حد مضايقتهم بتكرار السؤال لوقت يأخذ معظم مدة المقابلة، وهي ممارسات وسياسات نادرا ما تستخدم مع المصادر أو المعلقين الإسرائيليين. عدد من المقابلات مع الفلسطينيين ومناصريهم حظيت بمشاهدات عالية جدا وتداول كبير على منصات التواصل الاجتماعي.
في الوقت الذي أمعنت فيه النظم الغربية في السقوط الأخلاقي والتقاعس عن حماية القيم التي دعوا لمناصرتها لعقود، لم تستطع وسائل الإعلام أن تمارس أي دور محاسبة أو رقابة مفترضين لسياسييها، ولخدمة مواطنيها ضمن الإطار الديمقراطي.
ورغم أن هذه الممارسات ليست جديدة فيما يتعلق بتغطية القضية الفلسطينية، وهناك عشرات الكتب ومئات الدراسات التي قدمت براهين على الانحياز شبه الكامل في الإعلام الغربي للسردية الإسرائيلية، فإنّ هذه الجولة من العدوان والإبادة الجماعية فاقت في تبعاتها الأخلاقية أي جولة سابقة لعدد من الأسباب، أهمها التبعات السياسية والإنسانية للصمت عن جرائم نستطيع مشاهدتها زمن حصولها؛ فالجرائم الإسرائيلية يمكن أن نراها في الوقت نفسه الذي تجري فيه، فلو التزمت المؤسسات الإعلامية الغربية بالقواعد الأخلاقية والمهنية التي نادت بعالميتها ونشرها لعقود ولتدويلها قواعدَ مهمة في إطار الممارسات الديمقراطية، فلربما أدى ذلك إلى تعاظم الرأي العالمي المناهض للإبادة ولممارسة ضغط أكبر على السياسيين في عواصم القرار الغربية لإيقاف العدوان الإسرائيلي، ولربما استطاع الإعلام عبر تحمله مسؤوليته الأخلاقية أن يساعد العالم في رؤية الحقيقة، وربما كان يمكن إنقاذ حياة بعض الأطفال والنساء ومحاسبة مرتكبي الجرائم.
في الوقت الذي أمعنت فيه النظم الغربية في السقوط الأخلاقي والتقاعس عن حماية القيم التي دعوا لمناصرتها لعقود، لم تستطع وسائل الإعلام أن تمارس أي دور محاسبة أو رقابة مفترضين لسياسييها، ولخدمة مواطنيها ضمن الإطار الديمقراطي.
مقاومة الانحياز من الداخل
لا أريد أن أختم دون التعريج على عدد من الفاعلين الإعلاميين الذين حاولوا مقاومة هذا التيار؛ فقد صيغ عدد من الرسائل المفتوحة الموقعة من صحفيين في كل من أستراليا وكندا والولايات المتحدة وبريطانيا لمحاولة الضغط على وسائل الإعلام في هذه الدول؛ للعودة إلى القيم المهنية الراسخة، ولاستعادة مصداقية هذه الوسائل الإعلامية.
ففي رسالة مفتوحة كتبها صحفيون أستراليون، تدعو غرف الأخبار إلى اتخاذ ثماني خطوات لتحسين التغطية، بما في ذلك "الالتزام بالحقيقة بدلا من التحيز"، و"ممارسة قدر كبير من الشك المهني عند إعطاء الأولوية" أو "الاعتماد على الحكومة والجيش الإسرائيليين غير الموثوقين كما يمارس على حماس". وفي رسالة أخرى موقعة من 1500 صحفي، وثالثة من 750 صحفيا أميركيا عبروا فيها عن استيائهم من الممارسات غير المهنية في غرف الأخبار الأميركية. لكنّ عددا من هؤلاء الصحفيين تجاوزوا الخوف من العقاب والتحييد الممنهج للأصوات الناقدة لإسرائيل وجرائمها. إن الاعتراض من قبل الصحفيين يعبر عن جرأة كبيرة في تحدي آلة دعائية مستعدة لتشويه سمعتهم ولاتهامهم بكراهية النفس أو العداء للسامية أو غيرها من التهم الجاهزة.
المراجع
1 - J. D. Froneman & Thalyta Swanepoel (2004) Embedded journalism – more than a conflictreporting issue, Communicatio, 30:2, 24-35, DOI: 10.1080/02500160408537994