في قلب هذا النقاش حول الهجرة بفرنسا تحضر وسائل الإعلام السائدة، ولا سيما التلفزيون والمواقع الإلكترونية، بوصفها الإطار الذي تدور فيه هذه المناقشات، وأيضا بوصفها منتَجا للتمثلات التي يتبناها الرأي العام الفرنسي والأوروبي بشأن المهاجرين. فلدى الفرنسيين علاقة سلبية فيما يتعلق بالهجرة؛ فهي تتأرجح بين التوتر وعدم الثقة، وفقا لأحدث استطلاعات الرأي (يونيو/ حزيران 2023)، التي تشير إلى أن 82% من الفرنسيين يعتقدون أن الهجرة موضوع لا يمكننا التحدث عنه بهدوء (+2 نقطة مقارنة بنوفمبر/ تشرين الثاني 2022). ويضاف إلى التوتر انعدام الثقة؛ إذ يرى 65% أن فرنسا لديها بالفعل العديد من الأجانب وأن الترحيب بمهاجرين إضافيين أمر غير مرغوب فيه، بينما يرى 61% أن بلادهم لم تعد تستطيع الترحيب بمزيد من المهاجرين بسبب اختلاف القيم والثقافة، وهذا يطرح مشكلات التعايش. وكذلك على المستوى الاقتصادي؛ إذ يعتقد 71% أن الهجرة الاقتصادية تسمح لأصحاب العمل بخفض الأجور. وتتعارض هذه التصورات مع الواقع الموضوعي، الذي تؤيده الأرقام الرسمية للحكومة الفرنسية؛ فإلى حدود عام 2022، يعيش في فرنسا 7.0 ملايين مهاجر، أي 10.3% من إجمالي السكان، و35% منهم حصلوا على الجنسية الفرنسية. ويبلغ عدد السكان الأجانب الذين يعيشون في البلاد 5.3 ملايين نسمة، أي 7.8% من إجمالي السكان، منهم 4.5 ملايين مهاجر لم يحصلوا على الجنسية الفرنسية و0.8 مليون شخص ولدوا في فرنسا ويحملون جنسية أجنبية.
هذا التبيان بين التمثلات الشعبية والإعلامية والواقع الموضوعي لقضية الهجرة، يطرح إشكالية تعاطي وسائل الإعلام الفرنسية –بوصفها وسيطا– مع قضايا الهجرة، ولا سيما مع بروز نموذج "صحافة الهجرة" في أعقاب "أزمة الهجرة واللجوء" بعد 2015، وسط استقطاب سياسي وأيديولوجي، وتوظيف انتخابي.
من التحدي الاقتصادي إلى المعضلة الأمنية
دخلت الهجرة إلى الصحافة الفرنسية من باب الاقتصاد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ودخول البلاد في مشروع إعادة البناء، في عهد الجنرال ديغول؛ إذ فتحت فرنسا باب الهجرة واسعا أمام سكان مستعمراتها القديمة في شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء. خلال عقدي الستينات والسبعينات ظهر المهاجر الأفريقي والمغاربي في وسائل الإعلام والصحف دائما بوصفه فاعلا في الدورة الاقتصادية؛ عاملا أعزب، منخفض الأجر وقليل التعليم، منعزلا عن المجتمع الفرنسي في أحياء الصفيح، والأهم، أنه يحقق فائض القيمة المناسب للرأسمالية الفرنسية. ورغم التوترات الأمنية التي خلقتها الثورة الجزائرية والاحتجاجات التي نفذها العمال الجزائريون وقتئذ، فإنها كانت فترة عابرة لم تؤثر جذريا على تمثيل المهاجر في وسائل الإعلام المحلية، وبقية مقالات الهجرة وموضوعاتها في يد أقسام الاقتصاد داخل المؤسسات الإعلامية، تتعامل معها بوصفها أرقاما ونسبا، من دون الالتفات إلى المهاجر بوصفه ذاتا إنسانية معقدة تنطوي على أبعاد ثقافية وروحية.
خلال عقدي الستينات والسبعينات ظهر المهاجر الأفريقي والمغاربي في وسائل الإعلام والصحف دائما بوصفه فاعلا في الدورة الاقتصادية؛ عاملا أعزب، منخفض الأجر وقليل التعليم، منعزلا عن المجتمع الفرنسي في أحياء الصفيح، والأهم، أنه يحقق فائض القيمة المناسب للرأسمالية الفرنسية.
في منتصف السبعينات، وبعد تطور الوعي في صفوف الطبقة العاملة المهاجرة (تنفيذ أول إضراب عمالي في مصانع إعادة تدوير الورق في نانتير، 21 مايو/ أيار 1973)، الذي ترافق مع الأزمة النفطية العالمية، وتأثيراتها الكارثية على الاقتصادات الغربية، تحولت تمثيلات المهاجر في الصحافة الفرنسية من مجرد "أداة اقتصادية" إلى "إشكالية اجتماعية". مع انتهاء مشروع إعادة البناء، لم تعد السوق الفرنسية تحتاج أعدادا كبيرة من العمال المهاجرين، فقررت حكومة فاليري جيسكار ديستان في عام 1974، تعليق دخول العمال المهاجرين الدائمين، على أمل الحد من البطالة، ثم أقرت قانونا للمساعدة على العودة إلى البلد الأصلي في عام 1977، لتستمر هذه السياسة مع صدور قانون بونيه عام 1980، الذي جعل شروط الدخول إلى البلاد أكثر صرامة وسمح بطرد الأجانب في حالة الإخلال بالنظام العام. شكّل تحول السبعينات الجذري تغيرا أساسيا في صورة المهاجر على صفحات الجرائد الفرنسية وفي الشاشات؛ إذ تحول من فاعل اقتصادي إيجابي، إلى فاعل اقتصادي سلبي، يسهم في رفع نسبة البطالة في البلاد ويحرم الفرنسيين من فرص العمل. ومع ذلك لم تغادر قضايا الصحافة، أقسام الاقتصاد في وسائل الإعلام، وحافظت على هذه الطبيعة.
شكّل تحول السبعينات الجذري تغيرا أساسيا في صورة المهاجر على صفحات الجرائد الفرنسية وفي الشاشات؛ إذ تحول من فاعل اقتصادي إيجابي، إلى فاعل اقتصادي سلبي، يسهم في رفع نسبة البطالة في البلاد ويحرم الفرنسيين من فرص العمل.
ومع انتخاب فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية، اتُّخذت سلسلة من الإجراءات الفورية لمنح حقوق للمهاجرين ووقف عمليات الطرد جميعها؛ فقد ألغيت أحكام قانون بونيه في أكتوبر/ تشرين الأول 1981 ونظام المساعدة على العودة في نوفمبر 198/ تشرين الثاني، وإقرار قانون 17 يوليو/ تموز 1984 بشأن تصريح الإقامة والعمل الفردي، الذي اعترف للمرة الأولى بالطبيعة الدائمة لاستقرار السكان المهاجرين في فرنسا وفَصَلَ بين الحق في الإقامة والعمل. وقد لعبت الصحافة اليسارية في ذلك الوقت دورا بارزا في الدفاع عن خيارات الحكومة الجديدة أمام الرأي العام. ولعبت جماعات حقوق المهاجرين دورا رئيسا في جلب الهجرة إلى النقاش العام. لكن ظهور الجبهة الوطنية -حزب اليمين المتشدد- عام 1983 والأزمة الاقتصادية المستمرة أثر على الخطاب السياسي، لتعود السلطة إلى سياسات "السيطرة على تدفقات الهجرة". دفعت سياسة ميتران إلى تزايد أعداد المهاجرين، وقد تحولت طبيعة الوجود الأجنبي في البلاد، من عمل الأفراد إلى العائلات، وبدأت تظهر أحياء واسعة في الحزام الباريسي تضم مئات العائلات من أصول مغاربية وأفريقية، وبذلك بدأت في الظهور إلى المجال العام عادات وتقاليد وثقافات جديدة.
في هذه اللحظة بدأت تمثلات المهاجر في وسائل الإعلام الفرنسية في التحول نحو البعد الثقافي؛ فقد فرضت التحولات السوسيولوجية تحولا في الخطاب الإعلامي ترافق مع بروز مشكلات الاندماج والعنصرية، مدفوعة بوعي الجيل الثاني بها.
إن ظهور ما تسميه عالمة الاجتماع آني كولوفالد "مشكلة الضواحي" قبل ثلاثين عاما يفسر التحول في إنتاج المعلومات بشأن الهجرة؛ فمع الأحداث التي وقعت عام 1981 في منطقة مينجويت (في ضواحي ليون)، تركز اهتمام السياسيين والصحفيين على المهاجرين من الجيل الثاني. وهنا لم تعد الهجرة والمهاجرين في وسائل الإعلام الفرنسية قضايا اقتصادية، بل مشكلات أمنية وثقافية.
لقد بدأت وسائل الإعلام والصحف تهتم بالجانب الديني والثقافي للمهاجرين وتأثيراته على وجودهم في فرنسا. وفي نهاية الثمانينيات، بلورت الهجرة والإسلام تمثلات جديدة حول الهجرة؛ فقد أدى طرد ثلاث فتيات محجبات من مدرسة ثانوية في أوبرفيليه عام 1989 إلى إعادة إطلاق النقاش بشأن مسائل الاندماج والعنصرية في وسائل الإعلام. اكتسبت هذه "القضية" زخما إعلاميا بشكل خاص لأنها تشكك في المبادئ العلمانية لمدرسة الجمهورية لترسخ تمثلا جديدا عن المهاجرين بوصفهم معادين للعلمانية والجمهورية. ومنذ ذلك الوقت أصبحت قضية الهجرة من اختصاص صحافة الأمن والحوادث، ولا سيما بعد عام 1996 في عهد جاك شيراك، عندما هيمنت تعبئة المهاجرين غير الشرعيين على الأخبار مع احتلال كنيستي سان أمبرواز وسانت برنارد في باريس، احتجاجا على عمليات الطرد.
لاحقا، ارتكز الخطاب العام بشأن الهجرة على الانتقال مما يسمى بالهجرة "الخاضعة" إلى الهجرة "الانتقائية"، الموجهة نحو القطاعات التي تفتقر إلى العمالة. أسهمت هذه التحولات السياسية والاجتماعية في رسم صورة للمهاجر في وسائل الإعلام السائدة بوصفه "مهددا للأمن". وهذه الظاهرة الإعلامية ليست حديثة، وغالبا ما تظل مرتبطة بالخطابات السياسية. إن إضفاء الطابع الجماعي على الخبر، أي توازي الفعل الإجرامي مع الأصل، هو –من ثَمّ- محاولة لتفسير الفعل المعادي للمجتمع من خلال الأصل الثقافي.
الاستقطاب
ترك غياب تخصص صحافة الهجرة –في بلد متنوع– كفرنسا، فراغا كبيرا في تغطية قضايا الهجرة والمهاجرين، بينما أدى وضع هذه المسألة في يد أقسام الحوادث والاقتصاد إلى تشويه صورة المهاجرين على نحو عميق لدى الرأي العام؛ ذلك أنها أصبحت مقترنة بالتهديدات الأمنية والصراع الثقافي والديني، فصارت وجبة دسمة في كل المعارك الانتخابية، يعود ريعها السياسي الأبرز إلى معسكر اليمين المتطرف.
ترك غياب تخصص صحافة الهجرة في بلد متنوع كفرنسا، فراغا كبيرا في تغطية قضايا الهجرة والمهاجرين، بينما أدى وضع هذه المسألة في يد أقسام الحوادث والاقتصاد إلى تشويه صورة المهاجرين على نحو عميق لدى الرأي العام.
وتكشف دراسة فرنسية عن مدى هذا التأثير؛ فبالتأكيد إن زيادة ظهور الهجرة في وسائل الإعلام تؤدي إلى استقطاب المواقف تجاه المسألة. والواقع أن مزيدا من البث المخصص للهجرة على القنوات الفرنسية يؤدي إلى تأجيج الرأي العام تجاه المهاجرين ويجذب المشاهدين نحو المواقف المتطرفة. إن هذا التأثير ليس ذا دلالة إحصائية فحسب، بل هو كبير الحجم أيضًا. ومن ثَم، فإن زيادة قدرها نقطة مئوية واحدة في حصة الموضوعات المخصصة للهجرة، على قناة ولمدة شهر معين، ترتبط، بالنسبة للفرد الذي لم يكن مهتما جدا بالهجرة في البداية، باحتمال فردي أكبر يبلغ نقطتين مئويتين للإبلاغ عن آراء متطرفة تجاه الهجرة. ومن ثَمّ، فإن زيادة وقت البث المخصص للهجرة تصب جزئيا في مصلحة اليمين المتشدد وتؤكد المصلحة الإستراتيجية لبعض المرشحين في فرض موضوع الهجرة في قلب الحملات الانتخابية. وبتغطية إعلامية متساوية، فإن الحديث عن الهجرة يعيد توزيع الأوراق في اللعبة السياسية من خلال استقطاب الناخبين. ومع ذلك، تُظهر نتائج الدراسة أنه ليست الموضوعات المتعلقة بالهجرة كلّها متساوية. باستخدام أساليب تحليل الخطاب، تنجح الدراسة في عزل الموضوعات الأكثر تحديدا المتعلقة بالهجرة في وسائل الإعلام الفرنسية. وتكشف البيانات، أن قنوات مثل قناة TF1 على سبيل المثال، التي يشاهدها قطاع واسع من الرأي العام، تربط الهجرة في 20% من الحالات بتكلفتها، وفي 12% من الحالات بالإرهاب.
تكشف البيانات، أن قنوات مثل قناة TF1 على سبيل المثال، التي يشاهدها قطاع واسع من الرأي العام، تربط الهجرة في 20% من الحالات بتكلفتها، وفي 12% من الحالات بالإرهاب.
هذه الصورة المهيمنة في الإعلام السائد تقابلها محاولات في الإعلام البديل وفي الصحف والمؤسسات الإعلامية ذات التوجهات اليسارية، لتقديم تغطية متوازنة لقضايا الهجرة. والأهم من كل ذلك بداية ظهور تخصص "صحافة الهجرة" خلال السنوات الأخيرة، بوصفه قسما مستقلا في كثير من الصحف ووسائل الإعلام يعالج قضية الهجرة من أبعاد مختلفة، ولا يحصرها في جوانبها الاقتصادية والأمنية. هذا التخصص، لا يحصر مصادره في وسائل الدولة الاقتصادية والإحصائية والأمنية، بل إن المجتمع المدني، والعمل الاستقصائي الميداني يعدان بالنسبة له المصدر الأساسي لعمله. وفي الوقت نفسه يسعى إلى تغطية الهجرة في بعدها الدولي الشامل، مسائِلًا القضايا الجيوسياسية والعلاقات الدولية وطبيعة تقسيم العمل الدولي والاقتصادي السياسي وغيرها من التخصصات في العلوم الاجتماعية. ومع ذلك، يظل هذا النهج الجديد محدودا في الحضور والتأثير؛ أولا بسبب نقص الكوادر الصحفية القادرة على تغطية قضايا الهجرة لعدم وجود مساقات تعليمية كافية وعميقة في الموضوع، وثانيا بسبب استثمار التكتلات الرأسمالية –الإعلامية الكبرى في قضية الهجرة بوصفها أداة انتخابية وسياسية للتعبئة والاستقطاب. ونتج عن ذلك احتكار تغطية كل ما يتعلق بالهجرة واللجوء والمهاجرين ضمن منظور الصراعات الثقافية والدينية والسياسية والتهديدات الأمنية والاقتصادية؛ لأن هذه التكتلات تستثمر في الخوف كبضاعة تجني ريعها من الرأي العام.