في خطاب النصر الأول لدونالد ترامب، الذي ألقاه ارتجالا في فلوريدا عشية توارد الأنباء عن فوزه الساحق في الانتخابات الأمريكية، أشاد الرجل بشكل لافت للغاية بإيلون ماسك، مالك منصة إكس، وأبدى غاية الاهتمام بالتنويه بدوره. "لقد ولد نجمٌ جديد"، قال ترامب، إشارةً إلى الرجل الأغنى في العالم، الذي كان له ولمنصّته إسهام كبير بحسب عديد التقديرات، في تعظيم حظوظ قرينه الملياردير للعودة مظفرا إلى البيت الأبيض.
أمّا ماسك، فقد بدا ذهنه مشغولا بمسألة أخرى ظلّت تؤرّقه طويلا؛ لقد جهّز الرجل نفسه لاغتنام ما حصل من أجل شنّ حملة من التشفّي والتعريض بمن ثابروا على انتقاده والتحذير منه، منذ أن صعد على عرش "تويتر" قبل سنتين، وغير اسمها إلى "إكس". بدأ ماسك حملته هذه بكتابة تعليق وجيز مع صورة صاروخ منطلق بسرعة إلى السماء: "المستقبل سيكون مذهلا".
غير أن التعليق التالي الذي نشره ماسك على حسابه بعد بضع ساعات، كان البداية الفعليّة لهجومه المضادّ وبيان موقفه من العلاقة المعقّدة وشديدة الاحتدام بينه وبين وسائل الإعلام الليبرالية التقليدية المهيمنة في الولايات المتحدة وخارجها. قال ماسك: "لقد كانت حقيقةُ هذه الانتخابات جليّة للعيان على "إكس"؛ في حين ظل الإعلام السائد يكذب باستمرار على عامّة الناس... أنتم الإعلام اليوم!"
لم يكن ذلك ادعاءً عاديّا ولا عابرا، بل معززا بالأرقام التي أعلنت عنها المنصّة لاحقا، كاشفةً عن هيمنة واسعة على النقاش العالمي بشأن الانتخابات الأمريكية، وبأرقام غير مسبوقة إطلاقا؛ فقد بلغ عدد المنشورات عن الموضوع زهاء 942 مليون منشور، وقضى المستخدمون أكثر من 2.2 مليون ساعة مشاهدة أو استماع لفعاليات مباشرة على المنصة، كذلك حققت "إكس" خلال يوم الانتخابات فقط زيادة بعدد المستخدمين بلغت 15.5%. كان ماسك ينادي متابعيه، ويعدهم بأنّ "إعلام الشعب" هو الذي سيتفوّق على "إعلام النخبة"، وبدا هذا الخطاب جزءا من تحوّلات عميقة تطرأ على بيئة الإعلام في الولايات المتحدة والعالم.
فعلى الرغم من انسحاب 115،000 مستخدم على الأقل وإلغاء حساباتهم على إكس، فإن ذلك يبدو تفصيلا ضئيلا أمام المكتسبات التي حققتها المنصّة بين قطاعات واسعة من المستخدمين وتعزيز مكانتها بوصفها وسيطا متعاظم التأثير في نقل الأخبار وتبادلها والتعليق عليها عالميا، ولقد أثبت ذلك أن إيلون ماسك، بخلاف الاعتقاد الذي ساد عقب استحواذه على "تويتر"، لم يحرث أرضا محروقة، بل كان لديه تصوّر واضح عمّا ستؤول إليه المنصّة التي اتهمها بأنّها كانت لا تعبأ إلا بتوجّهات القائمين عليها؛ إذ تضخّم خطاباتٍ محدّدة وتعمل على تهميش خطابات أخرى وإقصائها.
على الرغم من انسحاب 115،000 مستخدم على الأقل وإلغاء حساباتهم على إكس، فإن ذلك يبدو تفصيلا ضئيلا أمام المكتسبات التي حققتها المنصّة بين قطاعات واسعة من المستخدمين وتعزيز مكانتها بوصفها وسيطا متعاظم التأثير في نقل الأخبار وتبادلها والتعليق عليها عالميا.
وقد تأكّدت هذه الحالة المتنامية من الاستقطاب حين دخلت هذه المعركة على "إكس" منعطفا جديدا، بقرار الغارديان البريطانية وقف نشاط حساباتها الرسميّة على المنصّة. وبحسب بيان نشرته الصحيفة العريقة الليبرالية، فإن إدارة التحرير فيها رصدت ظواهر سلبية متزايدة في المنصة، وارتأت أنّ الوقت قد حان للبحث عن مساحة جديدة لنشر العمل الصحفي الذي تنتجه.
لقد ادّعت الصحيفة أن "إكس" باتت حيزا مفتوحا لانتشار الأفكار العنصرية ونظريات المؤامرة التي يروجها اليمين المتطرف، وهو ما يجعلها بحسب هذا الادعاء "منصّة إعلامية سامّة"، وأن صاحبها بات يمتلك القدرة لاستغلال تأثيرها من أجل "تشكيل الخطاب السياسي".
الإعلام الليبرالي والخصومة مع ماسك
حين استحوذ إيلون ماسك على تويتر عام 2022، تعهّد بحماية حريّة التعبير وإعادة الاعتبار لحق الجميع بالكلام، وقال حينئذ: "العصفور تحرّر أخيرا". كانت تلك إشارة إلى أنّه سيعتمد في "إكس" على إستراتيجية مختلفة جذريا عمّا كان سائدا فيها من قبل، ولا سيما في سياسات إدارة المحتوى والتساهل في حظر الحسابات "المخالفة"؛ فكان من أول القرارات التي اتخذها ماسك إعادة تفعيل حسابات شخصيات مثيرة للجدل معروفة بالتحريض على العنف أو نشر نظريات مؤامرة أو معلومات مضللة، أو تتّهم بذلك على الأقل. كذلك، عمد صاحب شركتي تيسلا وسبيس أكس إلى تسريح عشرات الموظفين المسؤولين عن إدارة المحتوى ومراقبته، وقرّر في مقابل ذلك اعتماد آلية جديدة أطلق عليها اسم "ملاحظات المجتمع"، تتيح لمستخدمي المنصّة أنفسهم تقديم توضيحات سياقية وتصحيحات على منشورات يرون أنّها مضللة، ولا يُعتمد التوضيح إلا بعدما يحظى بتقييم عدد كاف من المستخدمين الآخرين، فيُعرض حينئذ علنا في التغريدة.
تلك التغييرات صدرت عن توجّه شعبوي لدى ماسك، ينطوي في جوهره على تشكّك بوسائل الإعلام الليبرالية الرئيسة ذات التأثير الواسع، وهو توجّه تعزّز في سياق تضخّم ظاهرة دونالد ترامب الذي لطالما عبّر هو الآخر عن موقف مناهض للإعلام والنخب الليبرالية الديمقراطية، سواء في حملاته الانتخابية أو حتى بعد وصوله إلى السلطة فترة رئاسته الأولى بين 2016 و2020. وقد أكّد ماسك في العديد من المواقف عن قناعة أن فئات من "الشعب" (الأمريكي في حالته) لا تحظى بالتمثيل الكافي في وسائل الإعلام السائدة ولا في "تويتر" قبل الاستحواذ عليه، وأنّ لهؤلاء الناس "العاديين" الحق في التعبير عن نطاق من الآراء "غير السائدة" من منظور النخب السياسية والثقافية المتنفذة في المجتمع. لقد اعتبر ماسك أن هنالك "غالبيّة" صوتها مهمّش في الخطاب العام كما تمثله وسائل الإعلام الليبرالية السائدة، وأنّها غير منزّهة عن التضليل وبث المعلومات الفاسدة أو توجيه أجندات التغطية الإعلامي والنقاشات العامة، فسعى إلى بناء سرديّة يقدّم بها نفسه على أنّه الضامن، عبر الاستحواذ على "إكس" وتعديل سياسات المحتوى فيها، لإتاحة الحيّز لظهورها.
تلك التغييرات صدرت عن توجّه شعبوي لدى ماسك، ينطوي في جوهره على تشكّك بوسائل الإعلام الليبرالية الرئيسة ذات التأثير الواسع، وهو توجّه تعزّز في سياق تضخّم ظاهرة دونالد ترامب الذي لطالما عبّر هو الآخر عن موقف مناهض للإعلام والنخب الليبرالية الديمقراطية.
ولقد نشأ عن ذلك مثلما هو متوقّع تصاعد خطر في شعبيّة اليمين السياسي بمختلف أطيافه على منصّة "إكس"، في الولايات المتحدة والعديد غيرها من الدول، وقد تطوّر مع هذه الموجة من الخطابات الشعبوية موقف شعبوي مناهض للإعلام anti-media populism) (1) يدلّ على الاستقطاب السياسي والاجتماعي، والاستياء العام الذي يتغذى على فكرة "المظلومية" و"التهميش"، والتحمّس للوعود الذي يطلقها السياسيون من التيارات اليمينية بالتخلص من ذلك وتقديم بديل له.
في هذا السياق، الذي كان ماسك في المركز منه، جرى الترويج لتصوّر يرى أن الإعلام التقليدي جزء من منظومة نخبوية عليا متشابكة تعمل وفق نسق أيديولوجي ضيّق غير شعبي ولا يمثّل مصالح عامة الناس بالضرورة. وعلى الرغم من أن مثل هذه التصوّرات حاضرة في أدبيات نقدية معروفة في دراسات الإعلام(2)، فإن الخطابات الشعبوية تعاملت مع الظاهرة خطابيا بشكل رئيسي، عبر إلقاء سلسلة من الاتهامات لشبكات إعلام سائدة ترى أنها أدوات ضمن "دولة عميقة" تعمل ضد "الشعب". هكذا، صار العداء لتلك الشبكات الإعلامية ومن يمثّلها عنصرا أساسيا في السردية الاجتماعية والسياسية للتيار الشعبوي، تحديدا في الولايات المتحدة.
"أنا لا أقرأ الصحافة التقليدية إطلاقا تقريبا" يقول ماسك في إحدى تغريداته، وقد نبّه متابعيه عبر حسابه أيضا إلى ما يراه "أكاذيب الصحافة التقليدية الكثيرة، خصوصا في اختيار الإطار"، مشيرا إلى أنّ "ملاحظات المجتمع" على منصّة إكس كفيلة بالكشف عن مثل هذه الأكاذيب، على حدّ تعبيره. كذلك قال ماسك، في واحدة من تلك التغريدات: "الكذابون سيكرهون هذه المنصّة كثيرا"، في إشارة إلى وسائل الإعلام السائدة التي قاد حملة شرسة لانتقادها والتحريض عليها.
وبالنظر إلى التأثير الواسع المعروف لمنصّة تويتر في توجيه النقاشات حول الشأن العام، تعاملت معظم وسائل الإعلام التقليدية بارتياب كبير مع استحواذ ماسك عليها، وحذّرت جميعها بحقبة مظلمة من تردّي النقاش على المنصّة، وتحوّلها إلى موئل لخطابات الكراهية والتطرّف والعداء للأقليات العرقية والجنسية. والدليل على ذلك، بحسب الغارديان، هو أنّ إيلون ماسك "غير ليبرالي"، وأنّ تولّيه إدارة المنصّة، سيكون وبالا على "الديمقراطية". وقد تكررت هذه اللازمة الهجومية في كثير من الصحف الليبرالية المهيمنة الأخرى، كواشنطن بوست، التي نشرت العديد من التقارير عن تنامي خطاب الكراهية في "إكس"، وتعزيز وصول أصوات "اليمين المتطرف" على المنصّة، إضافة إلى نيويورك تايمز، التي رأت أن استحواذ إيلون ماسك على "تويتر" قد "غيّر معنى المنصّة" بالنسبة للمستخدمين، وأنّ الرجل يعمل على "تغيير تجربة تويتر". كان هذا الموقف محلّ إجماع تقريبا بين هذه الطبقة من الصحف ووسائل الإعلام.
في المقابل، كان ماسك، وجمهوره العريض من الجمهوريين في الولايات المتحدة ومن أنصار اليمين الشعبوي في العالم، يتّهمون تلك الصحف وتقاريرها بالتحيّز المبدئي المطلق، وبتعمّد الكذب، وبتشويه الحقائق. كما راج اتهامها باعتناق ثقافة "إلغائيّة" ترى أنّ "التجربة" الليبرالية هي وحدها التي يحقّ لها الحضور في الحيّز العام، بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي، وأن "المستخدمين" ذوي الميول الليبرالية، هم فقط الجديرون بالاستفادة من فسحة حريّة التعبير والنقاش فيها. فبحسب دراسة أجراها مركز "بيو" الأمريكي للأبحاث، قبل عامين من استحواذ ماسك على المنصّة، فإن مستخدمي تويتر من الجمهوريين يرون أن لتويتر "أثرا وخيما على الديمقراطية الأمريكية"، وهو موقف تغيّر بشكل ظاهر في الفترة التي تلت تغيّر إدارة المنصّة في عهد الملياردير صاحب شركتي تيسلا وسبيس أكس؛ فقد تراجعت نسبة من يرون أنّ لتويتر أثرا سلبيا على النقاشات السياسية العامة بين الجمهوريين، من 60% في استطلاع عام 2021، إلى 21% في العام 2023. كذلك تزايدت نسبة من يرون أن للمنصّة أثرا إيجابيا على الديمقراطية من 17% عام 2021، إلى 43% في العام 2023.
أمّا الحالة بين الديمقراطيين، فقد كانت عكسيّة تماما؛ إذ تراجعت نسبة من يرى منهم أنّ المنصّة ذات تأثير إيجابي على الديمقراطية من 47% إلى 24% في الفترة ذاتها، وازدادت نسبة الذين تخوفوا من انعكاسات سلبية للمنصّة على الحياة السياسية، من 28% إلى 35%، وهو ما يدلّ بجلاء على حالة استقطاب واسعة في المجتمع الأمريكي بشأن تويتر/إكس.
ولو أخذنا بالحسبان عند قراءة هذه النسب اللافتة نسبا أخرى تتعلق بتراجع الثقة العامة بين الأمريكيين، ولا سيما الشباب، في وسائل الإعلام السائدة، فإنّ المشهد سيكون مفتوحا على تنبؤات عديدة بشأن مستقبل الإعلام السائد في نسخته الغربية، سواء في الولايات المتحدة، أو حتى في خارجها من دول النادي الديمقراطي الليبرالي التي تشهد موجات شعبويّة مماثلة. فقد انحسرت الثقة بوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع الأمريكي إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من عقدين، وذلك بحسب آخر استبيانات مركز غالوب، وذلك بين الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، ضمن حالة عامة من تراجع الثقة المسجّلة في المؤسسات المدنيّة في الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، ومنها الكونغرس والمحكمة العليا والأجهزة التنفيذية، ولكنّها جميعا لا تزال تحظى بثقة أعلى مقارنة بمقدار الثقة التي حازها الإعلام بين الأمريكيين. كذلك سجّلت آخر الاستطلاعات بشأن أنماط استهلاك الأخبار في العديد من الدول الغربية نمطا مشابها من تدني الاعتماد على وسائل الإعلام التقليدية، وتفضيل استقاء المعلومات من منصات بديلة ومؤثرين أفراد لا ينتمون بالضرورة إلى الوسط الإعلامي السائد بالضرورة.
حسب آخر استبيانات مركز غالوب، وذلك بين الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، ضمن حالة عامة من تراجع الثقة المسجّلة في المؤسسات المدنيّة في الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، ومنها الكونغرس والمحكمة العليا والأجهزة التنفيذية.
ضمن إطار هذه التحوّلات، التي فاقمها خلال الأشهر الماضية سلوك الإعلام الغربي السائد تجاه الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، يرى البعض أن انسحاب الغارديان وربما غيرها من منصّة "إكس" من شأنه أن يعزز من حالة الاستقطاب التصاعدية الحاصلة، ويزيد من فداحة هيمنة التوجّهات اليمينية المتطرفة التي يمثّلها إيلون ماسك حاليا على المنصّة. كما قد يتيح هذا الانسحاب مجالا أكبر لضخّ المعلومات المضللة والأفكار المعادية للديمقراطية واللاجئين والأقليات الدينية والعرقية، في وجه آخر لا يقل سوءا عن محاولة احتكار وسائل الإعلام الليبرالية المهيمنة للمعلومات والأفكار "الصائبة" وشيطنة كل ما خالف صوابها المفترض وإقصائه، وحشد ذلك كلّه اعتباطيا تحت مظلة "المعلومات المضللة" و"الثقافة السامّة". أمّا الحقيقة التي باتت أكثر وضوحا، فهي أنّ الغارديان وقريناتها تجني اليوم الثمار المرّة للعلاقة التخادمية التي تربطها مع سلطة السياسة ونفوذ رأس المال، هذا فضلا عن تورّطها في أنماط "مفضوحة" من الانتهاكات المهنية والأخلاقية، مثلما هو حاصل في سياق تغطيتها لحرب الإبادة الجماعية على فلسطين.
المراجع
1) Torgeir Nerland,Toward a Sociologically Enriched Understanding of Anti-Media Populism: The Case of Enough is Enough
2) Edward S. Herman, The Propaganda Model Revisited, Monthly Review 69(8):42