من الواضح أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوقف التمويل الخارجي التابع لوكالة التنمية الأمريكية USAID تسبب في فوضى كبيرة، وليس من المبالغة القول إن كثيرا من المؤسسات الصحفية باتت تعيش حالة طوارئ لتضررها من هذا القرار؛ فوفقا للاتحاد الأوروبي للصحفيين فإن هذا الإجراء سوف يؤثر على عشرات المنصات والمؤسسات الإعلامية المستقلة في أكثر من 30 دولة.
العالم العربي ليس بمنأى عن هذه الفوضى، ولو أن نسبة التأثر والضرر ليست واضحة حتى الآن، وما يزيد الأمر تعقيدا أنّ بيانات ضخمة لوكالة التنمية الأمريكية حذفت من الإنترنت. إلا أنه وفي رصد أجراه المنتدى العالمي لتطوير الإعلام، أشار إلى أن دعم تطوير الإعلام والصحافة بين الأعوام 2020 و2024 من الـ USAID فاق 5 مليون دولار في منطقة بلاد الشام والعراق وحدها، وتجاوز مليونا ونصف مليون من وزارة الخارجية الأمريكية للنطاق الزمني والجغرافي نفسه.
ويمكن للعاملين في مجال دعم الإعلام وتطويره تلمّس الأثر السريع على المشاريع الممولة بصورة مباشرة وغير مباشرة من الوكالة الأمريكية؛ إذ تعرّضت مشاريع كبرى لعمليات إنهاء عقود ووقف تنفيذ أنشطة وإنهاء خدمات عاملين، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من الضغوطات على قطاع يعاني أصلا من تداعيات سابقة، ويرفع من مستوى الضغوط على الممولين الآخرين الذين قد يكونون غير قادرين أو غير راغبين في سد الفجوة التي خلقها هذا الفراغ التمويلي.
هذه ليست الهزّة الأولى، ولكنّها الأقوى، وتَفرض على الإعلام الممول غربيا أن يقف مطوّلا ويطرح الأسئلة المُلحّة التي تجوهلت أو غيبت سابقا، ولا سيما تلك المُتعلّقة بالاستدامة. لقد بدأت الهزّات المتتالية من ألمانيا عام 2021 بعد وقف منظمة دوتشيه فيليه الألمانية وقف التعاون مع قناة أردنية بسبب محتوى كاريكاتوري نشرته القناة مسبقا، ثم تجلّى بصورة أكبر حين قررت السويد خفض التمويل الخارجي للتنمية إثر فوز حكومة يمينية بالانتخابات البرلمانية في العام نفسه، وتصاعد ليتحول إلى عملية واسعة من قطع المساعدات عن مؤسسات كثيرة بعد السابع من أكتوبر لعام 2023، وفرض شروط مُسبقة متعلقة بمواقف وآراء سياسية، وتوّجت بقرار الإدارة الأمريكية الجديدة تجميد التمويل الإنمائي عالميا.
بدأت الهزّات المتتالية من ألمانيا عام 2021 بعد وقف منظمة دوتشيه فيليه وقف التعاون مع قناة أردنية بسبب محتوى كاريكاتوري نشرته مسبقا، ثم تجلّى بصورة أكبر حين قررت السويد خفض التمويل الخارجي للتنمية إثر فوز حكومة يمينية بالانتخابات البرلمانية، وتصاعد ليتحول إلى عملية واسعة من قطع المساعدات عن مؤسسات كثيرة بعد السابع من أكتوبر لعام 2023.
يمكن القول إن هذا التوجّه يتصاعد بصورة كبيرة، ولا يبدو أنه سوف يتوقف قريبا، مع تصاعد القوى اليمينية في الغرب، التي تؤمن بأحقية المجتمعات الغربية في الاستفادة من هذه الأموال بدلا من صرفها خارج النطاق الوطني، أي إن ما هو متاح من تمويل الآن ليس مضمونا مستقبلا أيضا ولا يمكن الاعتماد على ديمومته.
من هنا يحق لنا طرح التساؤل الأساسي المتعلّق بالتسمية المُستعملة للدلالة على الإعلام الممول غربيا، الذي يُطلق عليه اصطلاحا صفة "المستقل"، هو مستقل عن ماذا؟ إذا كان التمويل الغربي حكوميا في النهاية ويتحكم فيه بقرارات حكومية وضمن هيئات رسمية، وإذا كان الحصول عليه يتم ضمن شروط تؤثر على المعايير التحريرية للمحتوى الصحفي، فإلى ماذا يشير مصطلح الاستقلالية في التسمية؟
لتأطير النقاش في سياقه، فإن تصوري ليس مؤامراتيا أو هجوما على طريقة إيلون ماسك على أي من المؤسسات الصحفية التي يُثري وجودها المشهد الإعلامي، أو ضربا فيما تقدّمه من مواد صحفية مهمة، بل إنه مجرّد نقاش موضوعي نقدي غير متحامل؛ فأنا شخصيا كنت أحد العاملين في مؤسسة صحفية ممولة غربيا لسنوات طويلة، وتعاونت مع كثير منها أيضا.
بدايات دعم الإعلام من قبل وكالة التنمية الأمريكية كانت في ثمانينيات القرن العشرين، وتوسّعت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في كل من أوروبا الشرقية وآسيا وأمريكا اللاتينية. في العالم العربي بدأ هذا الدعم باكرا، وبالتعاون مع مؤسسات إعلامية حكومية وغير حكومية، ومع ذلك تدعي بيانات الوكالة وسياساتها المنشورة أن الدعم كان يسعى دوما إلى تحقيق الاستدامة في الإعلام، رغم أنه لم يُحقق الاستدامة المرجوّة.
أظهرت بعض التجارب أن بعض المؤسسات الممولة غربيا تعاني من حالة تضخّم ملحوظة في بنود معينة في ميزانياتها مقارنة مع المؤسسات الصحفية الأخرى؛ فرواتب الإداريين لمؤسسات محدودة الوصول أو التأثير أو ذات طابع مجتمعي، تتجاوز أضعاف رواتب موظفين حكوميين مسؤولين عن كل قطاع الإعلام أحيانا. وحتى رواتب الموظفين من المستويات الدنيا، هي أعلى من رواتب موظفين من المستوى نفسه في مؤسسات حكومية أو خاصة.
أظهرت بعض التجارب أن بعض المؤسسات الممولة غربيا تعاني من حالة تضخّم ملحوظة في بنود معينة في ميزانياتها مقارنة مع المؤسسات الصحفية الأخرى؛ فرواتب الإداريين لمؤسسات محدودة الوصول أو التأثير أو ذات طابع مجتمعي، تتجاوز أضعاف رواتب موظفين حكوميين مسؤولين عن كل قطاع الإعلام أحيانا.
هذه الرواتب المتضخّمة لم تنعكس على مجمل قطاع الإعلام الممول، خصوصا حين بدأت المؤسسات الصحفية الاعتماد على نظام القطعة، الذي وفّر عليها كثيرا من الكُلف مثل المكاتب والموظفين والمسؤوليات العمّالية، وحصر السيولة المالية في يد فئة قليلة جدا من العاملين فيها، وهؤلاء هم من تقع على عاتقهم مسؤولية تفسير أسباب إدامة الوضع الحالي وفشل الانتقال إلى أشكال مستدامة للإعلام الذي توفرت له الفرصة لتبنّي نموذج اقتصادي متوازن. وثمة انتقادات تتعلق بأن النفقات الجارية في الإعلام الممول تتجاوز بصورة كبيرة الإنفاق على إنتاج المحتوى أو تطويره، وهذا لا ينطبق فقط على المؤسسات الصحفية المحلية، بل حتّى العابرة للحدود منها.
يترافق هذا الاختلال في الإنفاق مع مشكلات أخرى متعلقة بغياب الحوكمة في كثير من هذه المؤسسات، حتى وإن كان تبرير الإنفاق أحيانا بأنه يذهب للمأسسة، فإن التعمق في دراسة أغلب المؤسسات يكشف عدم وجود مأسسة فعلية، فكثير منها يكاد يخلو من أي نظم داخلية أو سياسات إدارية وتحريرية منشورة للعلن أو حتى للموظفين.
يحول غياب المأسسة الفعلية الطبقة الإدارية العليا إلى ما يشبه قيادات مستأثرة بالقرار، فمتى كانت المرة الأخيرة التي سمعنا فيها عن تغيّر إدارة مؤسسة إعلامية ممولة خارجيا من دون ثورة داخلية أو فضيحة تناقل تفاصيلها العاملون في القطاع الإعلامي من غير الإعلان عنها رسميا؟ ألا يُخطئ هؤلاء المديرون فيحاسبوا أو يعزلوا كبقية المؤسسات الرسمية؟
في الواقع، إن المكوث الطويل في المنصب يؤسس لعلاقة شخصية ما بين الممول والمؤسسة الصحفية، مبنية على المعرفة الفردية، ليتحوّل توزيع المشاريع على أساس نوع من الزبائنية في أحيان كثيرة. بهذه التصرفات تتحول المؤسسات الصحفية التي تنتقد السلطة والسلطوية إلى سلطة بحدّ ذاتها، تعيد إنتاج السياسات والأساليب الرسمية والحكومية غير المستدامة ذاتها التي تنتقدها.
إن إحدى المشكلات التي شكلت عائقا أمام الاستدامة هي الطبيعة العلائقية بين توجّهات مشاريع الممولين والمحتوى المنشور؛ إذ كان التركيز الأعلى لهذه المشاريع على قضايا مجتمعية من منظور غربي لا يتماشى مع السياقات الاجتماعية العامّة في مناطق عمل المؤسسات الصحفية الممولة غربيا، الأمر الذي جعل النقاش نخبويا جدا في بعض الأحيان. يمكن وصف هذا النقاش بأنه نقاش لأفراد جزيرة صغيرة من الشمال العالمي داخل سياق مجتمعات الجنوب العالمي المحيط بهم، ما أفقد هذه المؤسسات القدرة على بناء قاعدة مستدامة من الجمهور الذي لم يكن معنيّا لا بالنقاش المطروح ولا بطريقة طرحه، ليزيد ذلك من عزلتها وعدم قدرتها على بناء أي نموذج اقتصادي خارج إطار التمويل الغربي قائم على الإعلانات أو الاشتراكات، أو حتّى خفض النفقات وتطوير آلية تمويل محلية.
إحدى المشكلات التي شكلت عائقا أمام الاستدامة هي الطبيعة العلائقية بين توجّهات مشاريع الممولين والمحتوى المنشور؛ إذ كان التركيز الأعلى لهذه المشاريع على قضايا مجتمعية من منظور غربي لا يتماشى مع السياقات الاجتماعية العامّة في مناطق عمل المؤسسات الصحفية الممولة غربيا، الأمر الذي جعل النقاش نخبويا جدا في بعض الأحيان.
في نقاشات سابقة مع العاملين في جهات مختلفة معنية بتطوير الإعلام، كان الانتقاد الأساسي لغياب أي توجّه فعلي من داخل المؤسسات الإعلامية الممولة لاكتشاف مساحات عمل قادرة على زيادة القراءات والمشاهدات أو قادرة على تحصيل إعلانات من دون المساس بالجوهر الصحفي المعمّق؛ فالجميع يرغب في رؤية المقالات الجريئة والتحقيقات المعمقة على منصات الإعلام، ولكن بيئة المعلومات الرقمية أيضا تحتاج إلى تدعيمها بفيديوهات طبخ ومحتوى أخضر دائم وقادر على الجذب.
ينبغي أن تكون هذه المؤسسات واعية بحقيقة أن الدول الأوروبية ستكون بحاجة إلى توجيه الدعم لمناطق أكثر سخونة جيوسياسيا، مثل المؤسسات الصحفية في أوكرانيا وبيلاروسيا ودول شرق أوروبا، ما يعني أنه في حال لم يعد التمويل الأمريكي فإن فرص استئناف العمل ستكون شحيحة جدا؛ لذلك لا بد من وضع الأسئلة الكبرى على الطاولة وفتح نقاش أوسع في أقرب وقت ممكن لمواجهة تبعات انقطاع التمويل التام مستقبلا.