لم تغب الراحلة شيرين أبو عاقلة عن حديث الإعلاميين الفلسطينيين منذ استشهادها في الحادي عشر من شهر أيار/ مايو 2022. ينطبق ذلك أيضاً، على أحاديث رواد وسائل التواصل الاجتماعي الذين يتحسرون دائماً على غياب شيرين عن التغطيات الصحفية، ومقارنة عملها الميداني بالتغطيات الصحفية الحالية، من حيث الدقة، والمهنية، والالتزام بأخلاقيات العمل الصحفي.
منذ لحظة استشهادها، لم تهدأ الأحداث في الضفة الغربية خاصة في مخيم جنين شمال الضفة الغربية، وهو المخيم الذي تعرّف الفلسطينيون والعرب عليه من خلال تغطيات شيرين وقصصها عنه، أثناء الانتفاضة الثانية عام 2000، حتى ارتبطت بالمخيم وارتبط بها.
حضور رغم الغياب
إن استعادة ذكريات شيرين وتغطياتها الصحفية من قبل الكثيرين هذه الأيام يعود بالدرجة الأولى إلى النموذج الصحفي الذي قدّمته في عملها الميداني، متميزة فيه عن الكثيرين. ويشمل هذا النموذج وجهين: يتمثل الأول في التزامها بأخلاقيات المهنة بأعلى درجاتها دون أن تتخلى عن الحس الوطني تجاه فلسطين وقضاياها. أما الوجه الثاني فهو قربها من الناس وعلاقاتها المتينة بهم خاصة أولئك الذين نقلت قصصهم. بدا ذلك جلياً من خلال التدافع الشديد من قبل الناس للمشاركة في تشييعها، وحالة الحزن التي خلّفتها في كل بيت فلسطيني، محققةً حالة إجماع عام على مهنيّتها، قل نظيرها.
منذ لحظة استشهادها، لم تهدأ الأحداث في الضفة الغربية خاصة في مخيم جنين شمال الضفة الغربية، وهو المخيم الذي تعرّف الفلسطينيون والعرب عليه من خلال تغطيات شيرين وقصصها عنه، أثناء الانتفاضة الثانية عام 2000، حتى ارتبطت بالمخيم وارتبط بها.
يسرد لنا الصحفي خلدون البرغوثي، من مدينة رام الله، قصة حصلت مع الراحلة أثناء عملها الصحفي، وكانت روتها لطلابها في مساق التقارير التلفزيونية في جامعة بيرزيت قبل سنوات. تدور القصة حول شهيدة فلسطينية نفذت عملية فدائية خلال الانتفاضة الثانية، وحينما عرفت شيرين اسمها توجهت بطاقمها لمنزل الشهيدة. عندما طرقت باب العائلة وجدت الأمور اعتيادية عندهم، لتدرك حينها أن العائلة لم تتلق الخبر بعد؛ ففضلت الابتعاد عن المكان بعد الاعتذار للعائلة عن طرق بابهم نتيجة خطأ في العنوان. هنا، لم تنتهز شيرين الفرصة للحصول على رد فعل الأسرة بشكل حصري لها، ولم تفضل السبق الصحفي على حساب المشاعر الإنسانية، بل آثرت الانسحاب وترك العائلة تتلقى الخبر من غيرها، دون تدخل منها. وهذا يدلل على ما كانت تتحلى به من أخلاق إنسانية وصحفية في آن واحد، لتجسد بالفعل مقولتها "أنا اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان".
يعتبر خلدون البرغوثي، صحفي في صحيفة الحياة الجديدة، أن قصة شيرين مع عائلة الشهيدة يجب أن تُدرّس لطلاب الصحافة ليس في فلسطين، وحسب، بل في العالم العربي أجمع، و"على كل صحفي يريد أن يحقق النجاح أن يرى في سيرة شيرين أبو عاقلة النموذج، إنسانيا ومهنيا".
إنَّ سردَنا لهذه القصة هدفه إظهار الفرق الشاسع بين شيرين وغيرها الكثير من الصحفيين الفلسطينيين الذين آثروا السبق الصحفي بالصورة والكلمة على مشاعر الناس، والمهنية الصحفية، خلال تغطيات الأحداث الأخيرة في فلسطين تحديداً في نابلس وجنين. فكثيراً، ما تسرع البعض بنشر أسماء وصور الشهداء قبل التحقق من صحة معلوماتهم، لحصد إعجابات على مواقع التواصل الاجتماعي، دون أدنى مراعاة لأخلاقيات المهنة والمشاعر الإنسانية لأهالي الضحايا. وصل الأمر لقيام بعض الصحفيين بنشر اسم شخص على مواقع التواصل على أنه شهيد، ليتبين بعد ساعات أنه جريح، ومعتقل لدى الاحتلال الإسرائيلي.
إن استعادة ذكريات شيرين وتغطياتها الصحفية من قبل الكثيرين هذه الأيام يعود بالدرجة الأولى إلى النموذج الصحفي الذي قدّمته في عملها الميداني، متميزة فيه عن الكثيرين. ويشمل هذا النموذج وجهين: يتمثل الأول في التزامها بأخلاقيات المهنة بأعلى درجاتها دون أن تتخلى عن الحس الوطني تجاه فلسطين وقضاياها. أما الوجه الثاني فهو قربها من الناس وعلاقاتها المتينة بهم خاصة أولئك الذين نقلت قصصهم.
لو كانت بيننا
سألنا عمر نزال، مدير الإعلام في نقابة الصحفيين، كيف ستكون التغطية للأحداث لو كانت شيرين بيننا على قيد الحياة؛ فعاد ليذكرنا بخصال شيرين التي ميزتها عن غيرها من الصحفيين، مما جلعها قريبة ومحبوبة من الجميع.
يقول نزال "لو كانت شيرين بيننا الآن وسط التطورات في جنين ونابلس، لكانت التغطية مختلفة وبأبعاد أخرى لهذه الأحداث بصوت شيرين ولمساتها المهنية، وكنا سنكتشف قصص كثيرة في مناطق الأحداث". يتابع نزال بالقول إن الجمهور الفلسطيني بحاجة لتسليط الضوء على زوايا لم ينتبه إليها الإعلام " ولو كانت شيرين على قيد الحياة لانتبهت لتلك الزوايا ونقلتها لنا بكل مهنية وإبداع".
يوافقه الرأي البرغوثي الذي يقول: "سنجد تغطية صحفية بقالب رصين.. دون انفعال، دون مبالغة، وبمعلومات دقيقة، ممزوجة بمشاعر إنسانية… بنبرة هادئة تخلو من الانفعال المبالغ فيه، وهذا يعكس المهنية والإنسانية والصدق في المشاعر".
هذان الرأيان يعبران عن الإجماع العام حول مسيرة شيرين الصحفية، والتي يرى فيها الفلسطينيون وحتى العرب أنها الشخصية الإعلامية التي لن تتكرر، لتظل أيقونة الصحافة العربية، والمدرسة التي تعملت منها العديد من الأجيال.
تميزت شيرين بتغطية صحفية بقالب رصين. دون انفعال، دون مبالغة، وبمعلومات دقيقة، ممزوجة بمشاعر إنسانية. بنبرة هادئة تخلو من الانفعال المبالغ فيه، وهذا يعكس المهنية والإنسانية والصدق في المشاعر.
صك غفران للمزيد
على الرغم من تقديم ملف استشهاد شيرين لمحكمة الجنايات الدولية والتعاطف الدولي الواسع مع جريمة قتلها إلا أن سلطات الاحتلال لم تلتفت لكل ذلك، بل زادت من وتيرة استهدافها للصحفيين الفلسطينيين، خاصة مع تنصل المسؤولين الإسرائيليين من الاغتيال، والتساهل الأمريكي مع الجريمة بما مثلَ صك براءة للجريمة.
وفق تقرير لنقابة الصحفيين الفلسطينيين في الضفة خلال شهر أب/ أغسطس الماضي؛ فإن الاحتلال ارتكب ما يزيد عن 470 اعتداء بحق الصحفيين. تنوعت الاعتداءات ما بين الاحتجاز والمنع من التغطية والقتل المتعمد والاعتقال والاستهداف بالرصاص، حيث اخترقت 35 رصاصة أجساد الصحفيين، إضافة إلى المنع من السفر وغيرها.
تشير سماح نصار، المديرة العامة للإعلام الرقمي في تلفزيون فلسطين الرسمي، إلى أن ما حدث مع شيرين ساهم في انفلات جيش الاحتلال ومواصلة ارتكابه الجرائم دون حساب ولا عقاب، حيث تعرضت طواقم تلفزيون فلسطين لاعتداءات جيش الاحتلال على الهواء مباشرة، مثل قنص مصور التلفزيون في منطقة "دير الحطب"، لؤي سمحان، والاعتداء على مراسل التلفزيون في قلقيلية شمال الضفة الغربية أحمد شاور، حين صوّب جندي إسرائيلي عليه السلاح بشكل مباشر، فضلاً عن إصابة المصور معتز السوداني بقنبلة صوتية في وجهه". وترى نصار، أن الخوذة وشعار الصحافة لا يعنيان شيئاً لجيش الاحتلال ومستوطنيه الذين يتعمدون عرقلة العمل الصحفي والاعتداء على الصحفيين الفلسطينيين.
من الواضح تماماً ومن مجريات الميدان، أن اغتيال شيرين أبو عاقلة كان مخططاً له بهدف ترويع الصحفيين الفلسطينيين، لكن الواقع مختلف، إذ إن كتم صوت شيرين للأبد دفع الصحفيين لتحدي الاحتلال أكثر وبجرأة أكبر، وهذا ما تعكسه التغطيات الإعلامية في المناطق الساخنة بالضفة الغربية، كما يجري في مدينة نابلس التي تشهد مؤخراً اقتحامات إسرائيلية متتالية واستهداف للمقاومة الفلسطينية فيها.
أما صوت شيرين الحزين وتغطياتها ذات المهنية العالية، فيبدو أنهما سيلازمان كل بيت فلسطيني، ليبقى في الغياب حضور أكبر كما قالت الراحلة يوماً ما