كنت أعيش في الخرطوم في وسط ثقافي سِمَته الأساسية النقاش المفتوح، من اللقاءات والفعاليات والمنتديات التي تُقام في معظمها بمجهودات فردية إلى بيع الكتب في ساحة “أَتِنِيّ" ونواحي جامعة الخرطوم والمحطة الوسطى ببحري والفرّاشين في سوق أمدرمان، وحتى أبسط الجلسات بين الأصدقاء في المراكز الثقافية كانت دسمة. كانت أجواء المثقفين في الخرطوم ديناميكية وثرية بشكل استثنائي.
بعد هجرتي إلى الخليج، انفصلت قليلاً عن ذلك الوسط الذي شكّل هويتي الثقافية الأولى، اندمجت مع مجتمعات أغلبها عربية تحمل هموماً متفاوتة تتقاطع مع السوداني لكنها لا تشتبك معه. ففي هذا الوسط الجديد تبدو أسماء مثل تشينوا أتشيبي ونغوغي وا ثيونغو وتشيماماندا أديتشي غير مألوفة - وهي أسماء كنا نقبل عليها في السودان - حتى بين السودانيين، هيمن اسم واحد فقط هو: الطيب صالح وموسم هجرته إلى الشمال دوناً عن بقية أعماله ودوناً عن أسماء أخرى لمؤلفين سودانيين. شعرت بفجوة بين العربي والأفريقي، شيء أشبه بالقطيعة الثقافية رغم توفر ترجمات تكاد تكون نادرة لهؤلاء الكتّاب لكنها أبعد ما تكون عن مكتبة القارئ العربي الذي لديه معرفة بالأدب الروسي وأدب أمريكا اللاتينية مثلاً.
لقد شعرت بالمسؤولية تجاه المكتبة الثقافية الفريدة التي وضعتها بين يدي تجربتي في الحياة الثقافية بالسودان، وفكّرت في لحظة: كيف سأُوصل ما انقطع؟ من أين أبدأ؟ ما الذي سأقوم بتقديمه وكيف يمكن أن ينجح؟ وإن كانت الإجابة هي إنتاج محتوى ثقافي على وسائل التواصل الاجتماعي فكيف سيغدو محتوى يتسم بالنخبوية في منصات تقول صراحة إنها تدعم المحتوى الترفيهي؟ كيف سأصل إلى جمهور يسحب شاشة هاتفه هارباً من الحياة اليومية؟ كيف سأقدم محتوى هدفه الأساسي دفع الجمهور لترك هواتفهم والتنقيب في رفوف المكتبات؟
لا يقتصر دور الصحافة الثقافية فقط على نقل أخبار المثقفين والأحداث الفنية هنا وهناك، بل يجب عليها أن تشتبك بالواقع وتقدم قراءة متأنية له، أن تنغمس في تحليله ونقده، وأن تعزز الروابط بين المعرفة والتحولات الاجتماعية والسياسية.
عندما أنشأت حساب "قراءات تسنيم" على منصتي إنستجرام وتيكتوك بهدف مشاركة مكتبتي الشخصية من الأدب الأفريقي جنوب الصحراء، طرحت سؤالاً في أول مقطع فيديو نشرته على الحساب، واعتبرته أساسياً لتقديم نفسي للجمهور وتعريفهم باتجاهات المحتوى: لماذا يجب أن نقرأ الأدب الأفريقي من جنوب الصحراء؟
قدمت – وقتها – تبريراتي؛ إذ أعتقد أن النظرة النمطية التي يتم بها الحديث عن أفريقيا غير منصفة، حيث ينحصر السياق الأفريقي في التغطية الإعلامية غالباً في الشأن السياسي، وتُرى القارة كلها – الدول الأربع والخمسون بصفتها منطقة جغرافية واحدة - تُطمس أعراقها المتعددة وتنوعها الغني، وتُحصر الأخبار عنها في الحروب والمجاعات والانقلابات العسكرية، وفي أكثر الصور إيجابية ينظر إليها باعتبارها أرضا خاما للاعبي كرة القدم الموهوبين أو كمحمية ضخمة للطبيعة والحيوانات البرية، وفي كل تلك الصور تبقى هوية الإنسان الأفريقي مبهمة وعجائبية وبعيدة في ظل المشهد.
كيف سأُوصل ما انقطع؟ من أين أبدأ؟ ما الذي سأقوم بتقديمه وكيف يمكن أن ينجح؟ وإن كانت الإجابة هي إنتاج محتوى ثقافي على وسائل التواصل الاجتماعي فكيف سيغدو محتوى يتسم بالنخبوية في منصات تقول صراحة إنها تدعم المحتوى الترفيهي؟ كيف سأصل إلى جمهور يسحب شاشة هاتفه هارباً من الحياة اليومية؟ كيف سأقدم محتوى هدفه الأساسي دفع الجمهور لترك هواتفهم والتنقيب في رفوف المكتبات؟
من جانب آخر، وعلى الرغم من النبرة المتعالية التي قد يتحدث بها بعض المثقفين عن الأدب، فقد كانت رؤيتي له أنه بوابة اجتماعية للتعرف على الشعوب، وأفق لفهم الإنسان، آماله وطموحاته وأحلامه وإرثه الحضاري والثقافي. إنه الأداة التي تكتب بها الشعوب وتعبر بها عن نفسها، هو صوتهم الأصيل في عالم يتنافس للحديث عنهم وباسمهم.
من هنا بدأت تتناسل أسئلة أخرى أكثر ارتباطا بالمشروع الذي أعمل عليه: لماذا يجب أن تعرف أنت أيها القارئ العربي عن الأدب الذي كتبه الأفارقة بأنفسهم؟ لماذا يبدو مصطلح الأدب الأفريقي غير مألوف؟ وما الذي يمكننا استخلاصه من معرفة هذا الأدب؟ وربما هذه الأسئلة هي التي دفعت الكثير من القراء إلى متابعة هذا المحتوى، بل ودفعتني إلى الشغف بالمواصلة.
انتهجت في حساب "قراءات تسنيم" مبدأ الحض على القراءة؛ حيث أقدم مقطع فيديو قصيرا مدته دقيقة ونصف أعرض فيه قصة الكتاب بطريقة مشوقة، وأشارك مع الجمهور الأفكار والانطباعات التي تكوّنت لدي بعد قراءة رواية ما، متجنبة التلخيص أو السرد الطويل لتفاصيل وأحداث الرواية؛ إذ أعتقد أن الملخصات تفوّت على القارئ متعة اكتشاف الكتاب بنفسه، آملة أن تدفع طريقتي المتابعين للبحث عن هذه الكتب وفتح المجال للمناقشة وتبادل الآراء، والانتباه لمكتبة فريدة واستثنائية وساحرة وملهمة كما أراها وهي: الأدب الأفريقي.
خلال عام ونصف تقريباً من تقديم مراجعات للأدب الأفريقي شعراً ورواية على منصات التواصل الاجتماعي (قراءات تسنيم)، وهو محتوى يتّسم بالنخبوية مثل أي محتوى ثقافي آخر، كنت أتلقى ردود فعل إيجابية تنبهني إلى أن المحتوى استطاع تحقيق تفاعل جيد مع جمهور هذه المنصات الذي تبيّن أنه متعطش للقيمة العالية والمحتوى الهادف الذي يمثّله، يتفاعل معه عندما يتعثّر به، وهو الأمر الذي كشف لي حاجة المجتمعات العربية للمحتوى "الجاد".
تُقدم منصات التواصل الاجتماعي فرصة للمثقفين لاختراق أوساط عمرية واجتماعية وجغرافية أوسع، وقد يصل المحتوى إلى هذه الشرائح وتتفاعل معها في أوقات وقوالب تناسبهم. إن هذا النوع من الاستقلالية الرقمية كان مقيداً في وسائل الإعلام الأخرى خاصة تلك التي توصف بالتقليدية، فالالتزام بالمحاور المعدة مسبقاً والسياسة التحريرية وعدد الكلمات وزمن البث المحدود بالإضافة لعدم تمكن الجمهور من التفاعل مع الضيف أو فكرته، كلها عوامل كانت تتغلب على مصلحة القارئ أو المشاهد.
صحيح أن منصات التواصل الاجتماعي تدعم الترفيه لكنها توضح أيضا أن خوارزمياتها تدفع بالمحتوى المعرفي والأصيل الذي يُقدم قيمة فريدة وتمكّنه من الوصول إلى المتابعين، فمثلاً تقر منصة يوتيوب في نظام توصيات مقاطع الفيديو أنه صمم "لمساعدة المستخدمين في العثور على الفيديوهات التي يرغبون في مشاهدتها والتي تُقدم لهم قيمة مُضافة"؛ إذ تحوّل الجمهور إلى هذه المنصات الرقمية بحثاً عن المعرفة خارج وسائط الإعلام التقليدية.
تُقدم منصات التواصل الاجتماعي فرصة للمثقفين لاختراق أوساط عمرية واجتماعية وجغرافية أوسع، وقد يصل المحتوى إلى هذه الشرائح وتتفاعل معها في أوقات وقوالب تناسبهم. إن هذا النوع من الاستقلالية الرقمية كان مقيداً في وسائل الإعلام الأخرى خاصة تلك التي توصف بالتقليدية.
لا يبدو الأمر بهذه السهولة دائما، فثمة تحديات أخرى للإنتاج على المنصات الرقمية؛ إذ عليك مجاراة كثافة الإنتاج وسرعة الاستهلاك والحاجة الملحّة لخلق تجربة بصرية جذابة، وعليك بصفتك صانع محتوى ثقافي أن تنجو بما تقدمه من الغرق في وحل التسطيح الشديد للمعلومة حتى تتكيف مع طيف واسع من المستخدمين.
عندما أقرأ انتقادات على المحتوى الذي يُتهم أنه لا يُمثل المجتمع أو لا يُقدم قيمة تذكر، أتساءل: لماذا يُقاطع المستنيرون مساحات الإنتاج ويتركونها للهواة أو المغامرين أو المتحمسين للتجربة؟ أعتقد أن رتق الفجوة هو مسؤولية المثقف؛ أن يتصدر المشهد ويقتحم بشجاعة الفضاءات الجديدة لتقديم محتواه بأشكال جديدة.
إن تخوّف المثقفين من دخول مضمار منصات التواصل الاجتماعي يبدو فكرة مقلقة؛ ذلك أنه ينبغي الحديث بأدوات العصر ولغته، وألا تُنتج الثقافة وتُستهلك في دوائر مغلقة بمعزل عن بقية المجتمع، بل أن تُستخرج من الكتب والأوراق العلمية والمنتديات المغلقة لتشتبك مع المجتمع. يجب ألا يترك المثقف الساحة الإنتاجية للأشخاص الأكثر حماسة الذين ربما لا يملكون بوصلة فكرية أو تحريرية أو حتى أخلاقية كما يملكها بعض المثقفين على الأقل. ومن شأن ذلك ألا يترك الساحة للمحتوى الضعيف الذي ينتشر فقط لأنه يلائم منطق المنصة، بل عليهم أن ينخرطوا في كل أفق جديد ويمدوا أيديهم للأبواب المفتوحة، ويزرعوا إنتاجاتهم في الحقول التي حتماً ستُزهر حتى يتمكن المتابع العربي من العثور على محتوى يشبهه ويمثله.
لا يقتصر - في نظري - دور الصحافة الثقافية فقط على نقل أخبار المثقفين والأحداث الفنية هنا وهناك، بل يجب عليها أن تشتبك بالواقع وتقدم قراءة متأنية له، أن تنغمس في تحليله ونقده، وأن تعزز الروابط بين المعرفة والتحولات الاجتماعية والسياسية، وأن تشارك الفرد في محاولات الخروج به من مآزقه. والحال أن المنصات الرقمية منحت المحتوى الثقافي مساحة من الاستقلالية عن المؤسسات التقليدية وأتاحت للأصوات الفردية أن تتحدث باسمها وتخلق سرديات بديلة، ووضعتها في موقف لا تحظى فيه بترف الانسحاب من المشهد الرقمي بل أعطتها الفرصة لتساهم في إعادة تشكيله.